{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
الغلول هو : الكتمان من الغنيمة ، [ والخيانة في كل مال يتولاه الإنسان ]{[171]} وهو محرم إجماعا ، بل هو من الكبائر ، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص ، فأخبر الله تعالى أنه ما ينبغي ولا يليق بنبي أن يغل ، لأن الغلول -كما علمت- من أعظم الذنوب وأشر العيوب . وقد صان الله تعالى أنبياءه عن كل ما يدنسهم ويقدح فيهم ، وجعلهم أفضل العالمين أخلاقا ، وأطهرهم نفوسا ، وأزكاهم وأطيبهم ، ونزههم عن كل عيب ، وجعلهم محل رسالته ، ومعدن حكمته { الله أعلم حيث يجعل رسالته } .
فبمجرد علم العبد بالواحد منهم ، يجزم بسلامتهم من كل أمر يقدح فيهم ، ولا يحتاج إلى دليل على ما قيل فيهم من أعدائهم ، لأن معرفته بنبوتهم ، مستلزم لدفع ذلك ، ولذلك أتى بصيغة يمتنع معها وجود الفعل منهم ، فقال : { وما كان لنبي أن يغل } أي : يمتنع ذلك ويستحيل على من اختارهم الله لنبوته .
ثم ذكر الوعيد على من غل ، فقال : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أي : يأت به حامله على ظهره ، حيوانا كان أو متاعا ، أو غير ذلك ، ليعذب به يوم القيامة ، { ثم توفى كل نفس ما كسبت } الغال وغيره ، كل يوفى أجره ووزره على مقدار كسبه ، { وهم لا يظلمون } أي : لا يزاد في سيئاتهم ، ولا يهضمون شيئا من حسناتهم ، وتأمل حسن هذا الاحتراز في هذه الآية الكريمة .
لما ذكر عقوبة الغال ، وأنه يأتي يوم القيامة بما غله ، ولما أراد أن يذكر توفيته وجزاءه ، وكان الاقتصار على الغال يوهم -بالمفهوم- أن غيره من أنواع العاملين قد لا يوفون -أتى بلفظ عام جامع له ولغيره .
ثم يعود إلى الحديث عن النبوة وخصائصها الخلقية ؛ ليمد من هذا المحور خيوطا في التوجيه للأمانة ، والنهي عن الغلول ، والتذكير بالحساب ، وتوفية النفوس دون إجحاف :
( وما كان لنبي أن يغل . ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة . ثم توفى كل نفس ما كسبت ، وهم لا يظلمون ) . .
ولقد كان من بين العوامل التي جعلت الرماة يزايلون مكانهم من الجبل ، خوفهم ألا يقسم لهم رسول الله [ ص ] من الغنائم ! كذلك كان بعض المنافقين قد تكلموا بأن بعض غنائم بدر من قبل قد اختفت ؛ ولم يستحوا أن يهمسوا باسمه [ ص ] في هذا المجال .
فهنا يأتي السياق بحكم عام ينفي عن الأنبياء عامة إمكان أن يغلوا . . أي أن يحتجزوا شيئا من الأموال والغنائم أو يقسموا لبعض الجند دون بعض ، أو يخونوا إجمالا في شيء :
ما كان له . فهو ليس من شأنه أصلا ولا من طبعه ولا من خلقه . فالنفي هنا نفي لإمكان وقوع الفعل . وليس نفيا لحله أو جوازه . فطبيعة النبي الأمينة العادلة العفيفة لا يتأتى أن يقع منها الغلول ابتداء . . وفي قراءة : " يغل " على بناء الفعل لغير الفاعل . أي لا يجوز أن يخان . ولا أن يخفي عنه أتباعه شيئا . . فيكون نهيا عن خيانة النبي في شيء . وهو يتمشى مع عجز الآية . وهي قراءة الحسن البصري .
ثم يهدد الذين يغلون ، ويخفون شيئا من المال العام أو من الغنائم ، ذلك التهديد المخيف :
( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة . ثم توفى كل نفس ما كسبت ، وهم لا يظلمون ) . .
روى الإمام أحمد . حدثنا سفيان عن الزهري ، سمع عروة يقول : حدثنا أبو حميد الساعدي قال : استعمل رسول الله [ ص ] رجلا من الأزد يقال له ابن اللتيبة . على الصدقة . فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدي إلي . فقام رسول الله [ ص ] على المنبر فقال : " ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي . أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدي إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده ، لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته ، وإن بعيرا له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر " . . ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه . ثم قال : " اللهم هل بلغت ؟ " - ثلاثا - . . [ وأخرجه الشيخان ] وروى الإمام أحمد بإسناده ، عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله [ ص ] يوما فذكر الغلول ، فعظمه وعظم أمره . ثم قال : " لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت . فيقول : يا رسول الله أغثني . فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك " . . [ وأخرجه الشيخان من حديث أبي حيان ] . .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن عدي بن عميرة الكندي . قال : قال رسول الله [ ص ] :
" يا أيها الناس . من عمل لنا منكم عملا ، فكتمنا منه مخيطا فما فوقه ، فهو غل يأتي به يوم القيامة " . . قال : فقام رجل من الأنصار أسود - قال مجاهد : هو سعد بن عبادة كأني أنظر إليه - فقال : يا رسول الله ، أقبل مني عملك . قال : " وما ذاك ؟ " قال : سمعتك تقول : كذاوكذا . قال : " وأنا أقول ذلك الآن . من استعملناه على عمل فليجيء بقليله وكثيره . فما أوتي منه أخذه ؛ وما نهي عنه انتهى " . . [ ورواه مسلم وأبو داود من طرق عن إسماعيل بن أبي رافع ] . .
وقد عملت هذه الآية القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة عملها في تربية الجماعة المسلمة ؛ حتى أتت بالعجب العجاب ؛ وحتى أنشأت مجموعة من الناس تتمثل فيهم الأمانة والورع والتحرج من الغلول في أية صورة من صوره ، كما لم تتمثل قط في مجموعة بشرية . وقد كان الرجل من أفناء الناس من المسلمين يقع في يده الثمين من الغنيمة ، لا يراه أحد ، فيأتي به إلى أميره ، لا تحدثه نفسه بشيء منه ، خشية أن ينطبق عليه النص القرآني المرهوب ، وخشية أن يلقى نبيه على الصورة المفزعة المخجلة التي حذره أن يلقاه عليها يوم القيامة ! فقد كان المسلم يعيش هذه الحقيقة فعلا . وكانت الآخرة في حسه واقعا ، وكان يرى صورته تلك أمام نبيه وأمام ربه ، فيتوقاها ويفزع أن يكون فيها . وكان هذا هو سر تقواه وخشيته وتحرجه . فالآخرة كانت حقيقة يعيشها ، لا وعدا بعيدا ! وكان على يقين لا يخالجه الشك من أن كل نفس ستوفى ما كسبت ، وهم لا يظلمون . .
روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال : لما هبط المسلمون المدائن ، وجمعوا الأقباض ، أقبل رجل بحق معه ، فدفعه إلى صاحب الأقباض . فقال والذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه . فقالوا : هل أخذت منه شيئا ؟ فقال : أما والله لولا الله ما آتيتكم به . فعرفوا أن للرجل شأنا . فقالوا : من أنت ؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ، ولا غيركم ليقرظوني ! ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه . فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه ، فسأل عنه فإذا عامر بن عبد قيس . .
وقد حملت الغنائم إلى عمر - رضي الله عنه - بعد القادسية ، وفيها تاج كسرى وإيوانه لا يقومان بثمن . . فنظر - رضي الله عنه - إلى ما أداه الجند في غبطة وقال : " إن قوما أدوا هذا لأميرهم لأمناء " . .
وهكذا ربى الإسلام المسلمين تلك التربية العجيبة التي تكاد أخبارها تحسب في الأساطير .
تقدم القول في صيغة : وما كان لكذا أن يكون كذا ، في قوله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت } [ آل عمران : 145 ] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «يغُل » بفتح الياء وضم الغين ، وبها قرأ ابن عباس وجماعة من العلماء ، وقرأ باقي السبعة «أن يُغَل » بضم الياء وفتح الغين ، وبها قرأ ابن مسعود وجماعة من العلماء ، واللفظة : بمعنى الخيانة في خفاء ، قال بعض اللغويين هي مأخوذة من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والدوح ، قال أبو عمرو : تقول العرب : أغل الرجل يغل إغلالاً : إذا خان ، ولم يؤد الأمانة ، ومنه قول النمر بن تولب{[3670]} : [ الطويل ]
جزى اللَّهُ عنّي جَمْرَة َ ابْنَةَ نَوْفَلٍ . . . جزاءَ مُغِلًّ بالأمانةِ كاذبِ
وقال شريح : ليس على المستعير غير المغل ضمان ، قال أبو علي : وتقول من الغل الذي هو الضغن : غل يغِل بكسر الغين ، ويقولون في الغلول من الغنيمة ، غل يغُل بضم الغين ، والحجة لمن قرأ يغل أن ما جاء من هذا النحو في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل على نحو { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء }{[3671]} { وما كان ليأخذ أخاه في دين الملك }{[3672]} { وما كان لنفس أن تموت }{[3673]} { وما كان الله ليضل قوماً بعد أن هداهم }{[3674]} { وما كان الله ليطلعكم على الغيب }{[3675]} ولا يكاد يجيء : ما كان زيد ليضرب ، فيسند الفعل فيه إلى المفعول به ، وفي هذا الاحتجاج نظر ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «يغُل » بضم الغين ، فقيل له : إن ابن مسعود قرأ «يغَل » بفتح الغين ، فقال ابن عباس : بلى والله ويقتل ، واختلف المفسرون في السبب الذي أوجب أن ينفي الله تعالى عن النبي أن يكون غالاً على هذه القراءة - التي هي بفتح الياء وضم الغين ، فقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم : نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم يوم بدر ، فقال بعض من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم : لعل رسول الله أخذها فنزلت الآية{[3676]} .
قال القاضي أبو محمد : قيل : كانت هذه المقالة من مؤمنين لم يظنوا أن في ذلك حرجاً ، وقيل كانت من منافقين ، وقد روي أن المفقود إنما كان سيفاً ، قال النقاش : ويقال : إنما نزلت لأن الرماة قالوا يوم أحد : الغنيمة الغنيمة أيها الناس ، إنما نخشى أن يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : من أخذ شيئاً فهو له ، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : خشيتم أن نغل{[3677]} ؟ ونزلت هذه الآية ، وقال الضحاك : بل السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته ثم غنم قبل مجيئهم ، فقسم للناس ولم يقسم للطلائع ، فأنزل الله تعالى عليه عتاباً ، { وما كان لنبي أن يغل } أي يقسم لبعض ويترك بعضاً{[3678]} ، وروي نحو هذا القول عن ابن عباس ، ويتجه على هذا أن تكون الآية إعلاماً بعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه للغنائم ، ورداً على الأعراب الذين صاحوا به : اقسم علينا غنائمنا يا محمد ، وازدحموا حتى اضطروه إلى السمرة التي أخذت رداءه{[3679]} ، ونحا إليه الزجّاج ، وقال ابن إسحاق : الآية إنما نزلت إعلاماً بأن النبي عليه السلام لم يكتم شيئاً ما أمر بتبليغه .
قال القاضي : وكأن الآية على هذا في قصة - أحد - لما نزل عليه : { وشاورهم في الأمر } [ آل عمران : 159 ] إلى غير ذلك مما استحسنوه بعد إساءتهم من العفو عنهم ونحوه ، وبالجملة فهو تأويل ضعيف ، وكان يجب أن يكون «يُغِل » بضم الياء وكسر الغين ، لأنه من الإغلال في الأمانة ، وأما قراءة من قرأ «أن يُغَل » بضم الياء وفتح الغين ، فمعناها عند جمهور من أهل العلم : أن ليس لأحد أن يغله : أي يخونه في الغنيمة ، فالآية في معنى نهي الناس عن الغلول في المغانم والتوعد عليه ، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظوراً مع الأمراء لشنعة الحال مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن المعاصي تعظم مع حضرته لتعين توقيره ، والولاة هم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فلهم حظهم من التوقير ، وقال بعض الناس : معنى «أن يغل » أن يوجد غالاً ، كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محموداً ، فهذه القراءة على هذا التأويل ترجع إلى معنى «يغُل » بفتح الياء وضم الغين ، وقال أبو علي الفارس : معنى «يُغَل » بضم الياء وفتح الغين يقال له : غللت وينسب إلى ذلك ، كما تقول أسقيته ، إذا قلت : سقاك الله كما قال ذو الرمة : [ الطويل ]
وَأُسْقيهِ حتى كاد مِمّا أَبُثُّهُ . . . تُكَلِّمُني أحْجَارُه وَمَلاعِبُهْ{[3680]}
وهذا التأويل موقر للنبي عليه السلام ، ونحوه في الكلام : أكفرت الرجل إذا نسبته إلى الكفر ، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا آكل سمناً حتى يحياً الناس من أول ما يحيون{[3681]} : أي يدخلون في الحيا{[3682]} وقوله تعالى : { ومن يغلل يأتِ بما غل يوم القيامة } وعيد لمن يغل من الغنيمة ، أو في زكاته ، فيجحدها ويمسكها ، فالفضيحة يوم القيامة بأن يأتي على رؤوس الأشهاد بالشيء الذي غل في الدنيا ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : «ألا يخشى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك{[3683]} ، ثم ذكر ذلك عليه السلام في بقرة لها خوار وجمل له رغاء ، وفرس له حمحمة »
وروى نحو هذا الحديث ابن عباس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ، الحديث بطوله{[3684]} ، وروى نحوه أبو حميد الساعدي{[3685]} وعمر بن الخطاب وعبد الله بن أنيس{[3686]} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أدوا الخياط والمخيط »{[3687]} ، فقام رجل فجاء بشراك أو شراكين ، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم :< شراك أو شراكان من نار>{[3688]} ، وقال في مدعم{[3689]} ، < إن الشملة التي غل من المغانم يوم خيبر لتشتعل عليه ناراً > .
قال القاضي : وهذه الفضيحة التي يوقع الله بالغالّ ، هي نظيرة الفضيحة التي توقع بالغادر ، في أن ينصب له لواء بغدرته حسب قوله عليه السلام{[3690]} ، وجعل الله هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه ، ألا ترى إلى قول الحادرة{[3691]} : [ الكامل ]
أسُمَيَّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْتِ بِغَدْرَةٍ . . . رفع اللِّواء لَنَا بِهَا في الْمَجمَعِ
وكانت العرب ترفع للغادر لواء ، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته ، وقد تقدم القول في نظير ، { ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }{[3692]} .
الأظهر أنَّه عطف على مجموع الكلام عطف الغرض رعلى الغرض وموقعه عقب جملة : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } [ آل عمران : 160 ] . الآية لأنها أفادت أن النصر بيد الله والخذْل بيده ، وذلك يستلزم التَّحريض على طلب مرضاته ليكون لطيفاً بمن يُرضونه . وإذ قد كانت هذه النَّصائح والمواعظ موجهة إليهم ليعملوا بها فيما يستقبل من غزواتهم ، نبّهوا إلى شيء يستخفّ به الجيش في الغزوات ، وهو الغُلول ليعلموا أنّ ذلك لا يُرضي الله تعالى فيحذَروه ويكونوا ممّا هو أدعى لغضب الله أشدّ حذراً فهذه مناسبة التَّحذير من الغلول ويعضّد ذلك أنّ سبب هزيمتهم يوم أُحُد هو تعجلهم إلى أخذ الغنائم . والغلُول : تعجّل بأخذ شيء من غال الغنيمة .
ولا تجد غير هذا يصلح لأن يكون مناسباً لتعقيب آية النصر بآية الغلول ، فإنّ غزوة أحُد الَّتي أتت السورة على قصّتها لم يقع فيها غُلول ولا كائن للمسلمين فيها غنيمة وما ذكره بعض المفسِّرين من قضية غلولٍ وقعت يومَ بدر في قطيفة حمراء أو في سيف لا يستقيم هنا لبعد ما بين غزوة بدر وغزوة أُحُد فضلاً على ما ذكره بعضهم من نزول هذه الآية في حرص الأعراب على قسمة الغنائم يوم حُنين الواقعِ بعد غزوة أحُد بخمس سنين .
وقرأ جمهور العشرة : يُغَلّ بضمّ التحتية وفتح الغين وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو وعاصم بفتح التحتية وضَمّ الغين .
والفعل مشتقّ من الغلول وهو أخذ شيء من الغنيمة بدون إذن أمير الجيش ، والغلول مصدر غير قياسي ، ويطلق الغلول على الخيانة في المال مطلقاً .
وصيغة { وما كان لنبي أن يُغلّ } صيغة جحود تفيد مبالغة النَّفي . وقد تقدّم القول فيها عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنُّبَوة } [ آل عمران : 79 ] في هذه السورة فإذا استعملت في الإنشاء كما هنا أفادت المبالغة في النَّهي . والمعنى على قراءة الجمهور نهي جيش النَّبيء عن أن يَغلُو لأنّ الغلول في غنائم النَّبيء صلى الله عليه وسلم غلول للنَّبيء ، إذ قسمة الغنائم إليه ، وأمَّا على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم فمعنى أن النَّبيء لا يَغُلّ أنَّه لا يقع الغلول في جيشه فإسناد الغُلول إلى النَّبيء مجاز عقلي لملابسة جيش النَّبيء نبيئَهم ولك أن تجعله على تقدير مضاف . والتقدير : ما كَان لجيش نَبيء أن يَغُلّ .
ولبعض المفسّرين من المتقدّمين ومن بعدهم تأويلات للمعنى على هذه القراءة فيها سَماجة .
ومعنى و { من يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أنَّه يأتي به مشهَّراً مفضوحاً بالسرقة .
ومن اللَّطائف ما في البيان والتبيين للجاحظ : أنّ مَزْيَداً رجلاً من الأعراب سرق نافجة مسك فقيل له : كيفَ تسرقها وقد قال الله تعالى : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } ؟ فقال : إذَنْ أحمِلُها طيّبةَ الريح خفيفة المحمل .
وهذا تلميح وتلقي المخاطب بغير ما يترقّب . وقريب منه ما حكي عن عبد الله بن مسعود والدرك على مَن حكاه قالوا : لمّا بعث إليه عثمان ليسلم مصحفه ليحرقه بعد أن اتَّفق المسلمون على المصحف الَّذي كُتب في عهد أبي بكر قال ابن مسعود : إنّ الله قال : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } وإنِّي غالّ مصحفي فمن استطاع منكم أن يَغُلّ مصحفه فليفعل . ولا أثق بصحَّة هذا الخبر لأنّ ابْن مسعود يعلم أنّ هذا ليس من الغلول .
وقوله : { ثم توفى كل نفس ما كسبت } تنبيه على العقوبة بعد التفضيح ، إذ قد علم أنّ الكلام السابق مسوق مساق النَّهي ، وجيء ب ( ثمّ ) للدّلالة على طول مهلة التفضيح ، ومن جملة النُّفوس الَّتي توفَّى ما كسبت نفس من يغلل ، فقد دخل في العموم .
وجملة { وهم لا يظلمون } حال مؤكدة لمضمون الجملة قبلها وهي { توفى كل نفس ما كسبت } .
والآية دلّت على تحريم الغلول وهو أخذ شيء من المغنم بغير إذن أمير الجيش ، وهو من الكبائر لأنَّه مِثل السرقة ، وأصحّ ما في الغلول حديث « الموطأ » : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من خيبر قاصداً وادي القُرى وكان له عبد أسود يدعى مِدْعَما ، فبينما هو يحطّ رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر فقتله ، فقال النَّاس : هنيئاً له الجنَّةُ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلاّ والَّذي نفسي بيده إن الشَّملة التي أخذها يومَ خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً "
ومن غلّ في المغنم يؤخذ منه مَا غَلَّه ويؤدّب بالاجتهاد ، ولا قطع فيه باتِّفاق ، هذا قول الجمهور ، وقال الأوزاعي ، وإسحاق ، وأحمد بن حنبل ، وجماعة : يحرق متاع الغالّ كُلّه عدَا سِلاحَه وسرجه ، ويردّ ما غلّه إلى بيت المال ، واستدلّوا بحديث رواه صالح بن محمد بن زائدة أبو واقد الليثي ، عن عمر بن الخطاب : أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وجدتم الرجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه " وهو حديث ضعيف ، قال الترمذي سألت محمداً يعني البخاري عنه فقال : « إنَّما رواه صالح بن محمد ، وهو منكر الحديث . على أنَّه لو صَحّ لوجَبَ تأويله لأنّ قواعد الشَّريعة تدلّ على وجوب تأويله فالأخذ به إغراق في التعلّق بالظواهر وليس من التفقّه في شيء .