{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ }
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ممتنا عليه : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } أي : الخير الكثير ، والفضل الغزير ، الذي من جملته ما يعطيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، من النهر الذي يقال له : { الكوثر } ، ومن الحوض{[1485]} طوله شهر ، وعرضه شهر ، ماؤه أشد بياضًا من اللبن ، وأحلى من العسل ، آنيته كنجوم{[1486]} السماء في كثرتها واستنارتها ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا .
هذه السورة خالصة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كسورة الضحى ، وسورة الشرح . يسري عنه ربه فيها ، ويعده بالخير ، ويوعد أعداءه بالبتر ، ويوجهه إلى طريق الشكر .
ومن ثم فهي تمثل صورة من حياة الدعوة ، وحياة الداعية في أول العهد بمكة . صورة من الكيد والأذى للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوة الله التي يبشر بها ؛ وصورة من رعاية الله المباشرة لعبده وللقلة المؤمنة معه ؛ ومن تثبيت الله وتطمينه وجميل وعده لنبيه ومرهوب وعيده لشانئه .
كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان . وحقيقة الضلال والشر والكفران . . الأولى كثرة وفيض وامتداد . والثانية قلة وانحسار وانبتار . وإن ظن الغافلون غير هذا وذاك . .
ورد أن سفهاء قريش ممن كانوا يتابعون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوته بالكيد والمكر وإظهار السخرية والاستهزاء . ليصرفوا جمهرة الناس عن الاستماع للحق الذي جاءهم به من عند الله ، من أمثال العاص ابن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل ، وغيرهم ، كانوا يقولون عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إنه أبتر . يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده . وقال أحدهم : دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره !
وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعا . وتجد هذه الوخزة الهابطة من يهش لها من أعداء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وشانئيه ، ولعلها أوجعت قلبه الشريف ومسته بالغم أيضا .
ومن ثم نزلت هذه السورة تمسح على قلبه [ صلى الله عليه وسلم ] بالروح والندى ، وتقرر حقيقة الخير الباقي الممتد الذي اختاره له ربه ؛ وحقيقة الانقطاع والبتر المقدر لأعدائه .
( إنا أعطيناك الكوثر ) . . والكوثر صيغة من الكثرة . . وهو مطلق غير محدود . يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء . . إنا أعطيناك ما هو كثير فائض غزير . غير ممنوع ولا مبتور . . فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور .
هو واجده في النبوة . في هذا الاتصال بالحق الكبير ، والوجود الكبير . الوجود الذي لا وجود غيره ولا شيء في الحقيقة سواه . وماذا فقد من وجد الله ?
وهو واجده في هذا القرآن الذي نزل عليه . وسورة واحدة منه كوثر لا نهاية لكثرته ، وينبوع ثر لا نهاية لفيضه وغزارته !
وهو واجده في الملأ الأعلى الذي يصلي عليه ، ويصلي على من يصلي عليه في الأرض ، حيث يقترن اسمه باسم الله في الأرض والسماء .
وهو واجده في سنته الممتدة على مدار القرون ، في أرجاء الأرض . وفي الملايين بعد الملايين السائرة على أثره ، وملايين الملايين من الألسنة والشفاه الهاتفة باسمه ، وملايين الملايين من القلوب المحبة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة .
وهو واجده في الخير الكثير الذي فاض على البشرية في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه . سواء من عرفوا هذا الخير فآمنوا به ، ومن لم يعرفوه ولكنه فاض عليهم فيما فاض !
وهو واجده في مظاهر شتى ، محاولة إحصائها ضرب من تقليلها وتصغيرها !
إنه الكوثر ، الذي لا نهاية لفيضه ، ولا إحصاء لعوارفه ، ولا حد لمدلوله . ومن ثم تركه النص بلا تحديد ، يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد . .
وقد وردت روايات من طرق كثيرة أن الكوثر نهر في الجنة أوتيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن ابن عباس أجاب بأن هذا النهر هو من بين الخير الكثير الذي أوتيه الرسول . فهو كوثر من الكوثر ! وهذا هو الأنسب في هذا السياق وفي هذه الملابسات .
بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك } وقرئ ( أنطيناك الكوثر ) ، الخير المفرط الكثرة من العلم والعمل وشرف الدارين . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه " نهر في الجنة وعدنيه ربي ، فيه خير كثير ، أحلى من العسل ، وأبيض من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزبد . حافتاه الزبرجد ، وأوانيه من فضة . لا يظمأ من شرب منه " . وقيل : حوض فيها . وقيل : أولاده وأتباعه ، أو علماء أمته ، والقرآن العظيم .
سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها في جميع التفاسير أيضا { سورة الكوثر } وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه . وعنونها البخاري في صحيحه سورة { إنا أعطيناك الكوثر } ولم يعدها في الإتقان مع السور التي ليس لها أكثر من اسم .
ونقل سعد الله الشهير بسعدي في حاشيته على تفسير البيضاوي عن البقاعي أنها تسمى { سورة النحر } وهل هي مكية أو مدنية? تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضا شديدا ، فهي مكية عند الجمهور وأقتصر عليه أكثر المفسرين ، ونقل الخفاجي عن كتاب النشر قال : أجمع من نعرفه على أنها مكية . قال الخفاجي : وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها .
وعن الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة هي مدنية ويشهد لهم ما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال : أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وأنحر إن شانئك هو الأبتر } ثم قال : أتدرون ما الكوثر? قلنا الله ورسوله أعلم . قال : فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل ، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة الحديث . وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ { آنفا } في كلام النبي صلى الله عليه وسلم مستعملا في ظاهر معناه وهو الزمن القريب ، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا .
ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى { إن شانئك هو الأبتر } أن تكون السورة مكية ، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى { وانحر } من أن النحر في الحج أو يوم الأضحى تكون السورة مدنية ويبعث على أن قوله تعالى { إن شانئك هو الأبتر } ليس ردا على كلام العاصي بن وائل كما سنبين ذلك .
والأظهر أن هذه السورة مدنية وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها .
وعلى القول بأنها مكية عدوها الخامسة عشرة في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة العاديات وقبل سورة التكاثر . وعلى القول بأنها مدنية فقد قيل : إنها نزلت في الحديبية .
وهي أقصر سور القرآن عدد كلمات وعدد حروف ، وأما في عدد الآيات فسورة العصر وسورة النصر مثلها ولكن كلماتها أكثر .
اشتملت على بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعطي الخير الكثير في الدنيا والآخرة .
وأمره بأن يشكر الله على ذلك بالإقبال على العبادة .
وأن ذلك هو الكمال الحق لا ما يتطاول به المشركون على المسلمين بالثروة والنعمة وهم مغضوب عليهم من الله تعالى لأنهم أبغضوا رسوله ، وغضب الله بتر لهم إذا كانوا بمحل السخط من الله .
وإن انقطاع الولد الذكر فليس بترا لأن ذلك لا أثر له في كلام الإنسان .
افتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر . والإِشعار بأنه شيء عظيم يستتبع الإِشعار بتنويه شأن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [ القدر : 1 ] . والكلام مسوق مساق البشارة وإنشاء العطاء لا مساق الإخبار بعطاء سابق .
وضمير العظمة مشعر بالامتنان بعطاء عظيم .
و { الكوثر } : اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زِنة فوْعل ، وهي من صيغ الأسماء الجامدة غالباً نحو الكوكب ، والجورب ، والحوشب والدوسر{[465]} ، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها ، ولما وقع هنا فيها مادة الكَثْر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى ، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة ، وهو أحسن ما فُسر به وأضبطُه ، ونظيره : جَوْهر ، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوّه ، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء لأن الصومعة دقيقة لأن طولها أفرط من غلظها .
ويوصفُ الرجل صاحب الخير الكثير بكَوثر من باب الوصف بالمصدر كما في قول لبيد في رثاء عوف بن الأحوص الأسدي :
وصاحب ملحوب فُجعنا بفقده *** وعند الرّداع بيتُ آخر كوثر
( ملحوب والرداع ) كلاهما ماء لبني أسد بن خزيمة ، فوصف البيت بكوثر ولاحظ الكميت هذا في قوله في مدح عبد الملك بن مروان :
وأنتَ كثيرٌ يا ابنَ مروان طيبٌ *** وكان أبوك ابنُ العقايل كَوْثرا
وسمي نهر الجنة كوثراً كما في حديث مسلم عن أنس بن مالك المتقدم آنفاً .
وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعمها أنه الخير الكثير ، وروي عن ابن عباس ، قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس : إن ناساً يقولون هو نهر في الجنة ، فقال : هو من الخير الكثير . وعن عكرمة : الكوثر هنا : النبوءة والكتاب ، وعن الحسن : هو القرآن ، وعن المغيرة : أنه الإِسلام ، وعن أبي بكر بن عَيَّاش : هو كثرة الأمة ، وحكى الماوردي : أنه رفعة الذكر ، وأنه نور القلب ، وأنه الشفاعة ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره .
وأريد من هذا الخبر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وإزالةُ ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه : هو أبتر ، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر ، إبطالاً لقولهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
سورة التكاثر مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل ، ومدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة .
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
هذه السورة مكية في المشهور ، وقول الجمهور : مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة . ولما ذكر فيما قبلها وصف المنافق بالبخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة ، قابل في هذه السورة البخل ب { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } ، والسهو في الصلاة بقوله : { فَصل } ، والرياء بقوله : { لِرَبّكِ } ، ومنع الزكاة بقوله : { وَانْحَرْ } ، أراد به التصدّق بلحم الأضاحي ، فقابل أربعاً بأربع . ونزلت في العاصي بن وائل ، كان يسمي الرسول صلى الله عليه وسلم بالأبتر ، وكان يقول : دعوه إنما هو رجل أبتر لا عقب له ، لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه ....
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة خالصة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كسورة الضحى ، وسورة الشرح . يسري عنه ربه فيها ، ويعده بالخير ، ويوعد أعداءه بالبتر ، ويوجهه إلى طريق الشكر .
ومن ثم فهي تمثل صورة من حياة الدعوة ، وحياة الداعية في أول العهد بمكة . صورة من الكيد والأذى للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوة الله التي يبشر بها ؛ وصورة من رعاية الله المباشرة لعبده وللقلة المؤمنة معه ؛ ومن تثبيت الله وتطمينه وجميل وعده لنبيه ومرهوب وعيده لشانئه .
كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان . وحقيقة الضلال والشر والكفران . . الأولى كثرة وفيض وامتداد . والثانية قلة وانحسار وانبتار . وإن ظن الغافلون غير هذا وذاك . .
ورد أن سفهاء قريش ممن كانوا يتابعون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوته بالكيد والمكر وإظهار السخرية والاستهزاء . ليصرفوا جمهرة الناس عن الاستماع للحق الذي جاءهم به من عند الله ، من أمثال العاص ابن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل ، وغيرهم ، كانوا يقولون عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إنه أبتر . يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده . وقال أحدهم : دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره !
وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعا . وتجد هذه الوخزة الهابطة من يهش لها من أعداء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وشانئيه ، ولعلها أوجعت قلبه الشريف ومسته بالغم أيضا .
ومن ثم نزلت هذه السورة تمسح على قلبه [ صلى الله عليه وسلم ] بالروح والندى ، وتقرر حقيقة الخير الباقي الممتد الذي اختاره له ربه ؛ وحقيقة الانقطاع والبتر المقدر لأعدائه .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها في جميع التفاسير أيضا سورة الكوثر وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه . وعنونها البخاري في صحيحه سورة { إنا أعطيناك الكوثر } ولم يعدها في الإتقان مع السور التي ليس لها أكثر من اسم .
ونقل سعد الله الشهير بسعدي في حاشيته على تفسير البيضاوي عن البقاعي أنها تسمى سورة النحر. وهل هي مكية أو مدنية? تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضا شديدا ، فهي مكية عند الجمهور وأقتصر عليه أكثر المفسرين ، ونقل الخفاجي عن كتاب النشر قال : أجمع من نعرفه على أنها مكية . قال الخفاجي : وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها .
وعن الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة هي مدنية ويشهد لهم ما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال : أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وأنحر إن شانئك هو الأبتر } ثم قال : أتدرون ما الكوثر? قلنا الله ورسوله أعلم . قال : فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل ، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة) الحديث . وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ { آنفا } في كلام النبي صلى الله عليه وسلم مستعملا في ظاهر معناه وهو الزمن القريب ، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا .
ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى { إن شانئك هو الأبتر } أن تكون السورة مكية ، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى { وانحر } من أن النحر في الحج أو يوم الأضحى تكون السورة مدنية ويبعث على أن قوله تعالى { إن شانئك هو الأبتر } ليس ردا على كلام العاصي بن وائل كما سنبين ذلك .
والأظهر أن هذه السورة مدنية وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها ...
اشتملت على بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعطي الخير الكثير في الدنيا والآخرة .
وأمره بأن يشكر الله على ذلك بالإقبال على العبادة .
وأن ذلك هو الكمال الحق لا ما يتطاول به المشركون على المسلمين بالثروة والنعمة وهم مغضوب عليهم من الله تعالى لأنهم أبغضوا رسوله ، وغضب الله بتر لهم إذا كانوا بمحل السخط من الله .
وإن انقطاع الولد الذكر فليس بترا لأن ذلك لا أثر له في كلام الإنسان .
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه السورة المكية جاءت لترتفع بروحية النبي محمد( صلى الله عليه وسلم ) إلى آفاق الرحمة الإلهية في رعاية الله له ، وفي تطييب نفسه ، وفي الدفاع عنه ، فقد كان المشركون يعملون بكلِّ وسائلهم وأساليبهم على إضعاف نفسه ، وتدمير معنوياته ، وإسقاط موقفه ، بالكلمات الجارحة النابية المؤذية ، وقد جاء في الرّوايات أن بعض سفهاء قريش ، كالعاص بن وائل ، وأبي جهل ، وعقبة بن أبي معيط ، وكعب بن الأشرف ، قالوا عند موت القاسم ابن رسول الله وهو أول ولد له ولد بمكة : إن محمداً قد انقطع نسله ، فلا جرم ، لقد أصبح أبتر ، فنزلت هذه السورة ، لتؤكد بأن الله قد أعطاه الخير الكثير الذي يمتد في كل حياته ، وفي ما بعده ، فليتوجه إلى الله ربه بالصلاة ، فلن ينقطع ذكره ، ولن يفنى نسله ، ولن يكون أبتر ؛ بل إن الذين يقفون ضدّه هم الأَوْلى بهذه الصفة .
وهكذا كانت هذه السورة القصيرة إطلالةً روحيةً على النبي محمد( صلى الله عليه وسلم ) من أجل أن تفتح قلبه على الخير الكثير القادم من الله ، وعلى الامتداد الواسع المنفتح على رسالة الله ، لتقول له : إن الامتداد الذي يمثّله وجوده ، ليس هو الامتداد المحدود الذي يتمثل في الذرية الباقية فقط ؛ بل هو الامتداد في وعي الرسالة وحركيتها وفاعليتها ورحابتها في كل مواقع الحياة والإنسان ، فلا يحزن ولا يبتئس بما كانوا يقولون أو يفعلون .
{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ اَلْكَوْثَرَ } هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم . ( الكوكب الأزهر ص : 32 ....
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره : { إنّا أعْطَيْناكَ يا محمد الْكَوْثَرَ } .
واختلف أهل التأويل في معنى الكوثر ؛
فقال بعضهم : هو نهر في الجنة أعطاه الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ...
وقال آخرون : عُنِي بالكوثر : الخير الكثير ... عن عكرِمة ، قال : هو النبوّة ، والخير الذي أعطاه الله إياه ... والقرآن والحكمة ... عن مجاهد ، قال : خير الدنيا والآخرة ...
وقال آخرون : هو حوض أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة...
وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي ، قول من قال : هو اسم النهر الذي أُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة ، وصفه الله بالكثرة ، لعظَم قدره .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك ، لتتابع الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك كذلك ...
حدثنا أحمد بن المِقدام العجليّ ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي يحدّث عن قتادة ، عن أنس قال : لما عُرج بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم في الجنة- أو كما قال- عَرَض له نهر حافَتاه الياقوت المجوّف- أو قال : المجوّب- فضرب المَلك الذي معه بيده فيه ، فاستخرج مسكا ، فقال محمد للملك الذي معه : «ما هَذَا ؟ » قال : هذا الكوثر الذي أعطاك الله ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ إنا أعطيناك الكوثر } هذا خرج مخرج الامتنان على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإنعام والإفضال ليستأدي بذلك شكره والخضوع له ....
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } قال ابن عباس : نزلت هذه السورة في العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم ، وتحدّثا وأناس من صناديد قريش في المسجد جلوس ، فلما دخل العاص قالوا له : من الذي كنت تحدث ؟ قال : ذاك الأبتر ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم . وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان من خديجة ، وكانوا يسمّون من ليس له ابن أبتر ، فسمّته قريش عند موت ابنه أبتر وصنبوراً ، فأنزل الله سبحانه { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } ....
{ إنا أعطيناك الكوثر } .....أي الخير الكثير في الدنيا والدين ، فيكون ذلك وعدا من الله إياه بالنصرة والحفظ ....وهذا اللفظ يتناول خيرات الدنيا وخيرات الآخرة ، وأن خيرات الدنيا ما كانت واصلة إليه حين كان بمكة ، والخلف في كلام الله تعالى محال ، فوجب في حكمة الله تعالى إبقاؤه في دار الدنيا إلى حيث يصل إليه تلك الخيرات ، فكان ذلك كالبشارة له والوعد بأنهم لا يقتلونه ، ولا يقهرونه ، ولا يصل إليه مكرهم بل يصير أمره كل يوم في الازدياد والقوة... { إنا أعطيناك الكوثر } يفيد أن الله تعالى تكلم معه لا بواسطة ، فهذا يقوم مقام قوله : { وكلم الله موسى تكليما } بل هذا أشرف لأن المولى إذا شافه عبده بالتزام التربية والإحسان كان ذلك أعلى مما إذا شافهه في غير هذا المعنى ، بل يفيده قوة في القلب ويزيل الجبن عن النفس ، فثبت أن مخاطبة الله إياه بقوله : { إنا أعطيناك الكوثر } مما يزيل الخوف عن القلب والجبن عن النفس...{ إنا } تارة يراد بها الجمع وتارة يراد بها التعظيم . أما ( الأول ) : فقد دل على أن الإله واحد ، فلا يمكن حمله على الجمع .....وأما ( الثاني ) : وهو أن يكون ذلك محمولا على التعظيم ، ففيه تنبيه على عظمة العطية لأن الواهب هو جبار السموات والأرض والموهوب منه ، هو المشار إليه بكاف الخطاب في قوله تعالى : { إنا أعطيناك } والهبة هي الشيء المسمى بالكوثر ، وهو ما يفيد المبالغة في الكثرة ، ولما أشعر اللفظ بعظم الواهب والموهوب منه والموهوب ، فيالها من نعمة ما أعظمها ، وما أجلها ، وياله من تشريف ما أعلاه ...
{ أعطيناك } ولم يقل : سنعطيك لأن قوله : { أعطيناك } يدل على أن هذا الإعطاء كان حاصلا في الماضي ، وهذا فيه أنواع من الفوائد؛
( إحداها ) : أن من كان في الزمان الماضي أبدا عزيزا مرعي الجانب مقضي الحاجة أشرف ممن سيصير كذلك ، ولهذا قال عليه السلام : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين » .
( وثانيها ) : أنها إشارة إلى أن حكم الله بالإسعاد والإشقاء والإغناء والإفقار ، ليس أمرا يحدث الآن ، بل كان حاصلا في الأزل .
( وثالثها ) : كأنه يقول : إنا قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية !
( ورابعها ) كأنه تعالى يقول : نحن ما اخترناك وما فضلناك ، لأجل طاعتك ، وإلا كان يجب أن لا نعطيك إلا بعد إقدامك على الطاعة ، بل إنما اخترناك بمجرد الفضل والإحسان منا إليك من غير موجب ... { إنا أعطيناك } ثم قال ثانيا : { فصل لربك وانحر } وهذا يدل على أن إعطاءه للتوفيق والإرشاد سابق على طاعاتنا ،.... { إنا أعطيناك } أما الكوثر فهو في اللغة فوعل من الكثرة وهو المفرط في الكثرة ، قيل : لأعرابية رجع ابنها من السفر ، بم آب ابنك ؟ قالت : آب بكوثر ، أي بالعدد الكثير ... الكوثر هو النبوة ، ولا شك أنها الخير الكثير لأنها المنزلة التي هي ثانية الربوبية .... الكوثر رفعة الذكر ، وقد مر تفسيره في قوله : { ورفعنا لك ذكرك } ( القول الحادي عشر ) أنه العلم قالوا : وحمل الكوثر على هذا أولى لوجوه ( أحدها ) : أن العلم هو الخير الكثير قال : { وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما } وأمره بطلب العلم ، فقال : { وقل رب زدني علما } وسمى الحكمة خيرا كثيرا ، فقال : { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } ....
{ فصل لربك وانحر } وهو إشارة إلى زوال الفقر حتى يقدر على النحر ، وقد وقع فيكون هذا أيضا إخبارا عن الغيب.
قوله : { إن شانئك هو الأبتر } وكان الأمر على ما أخبر فكان معجزا ....
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ إنا } بما لنا من العظمة ، وأكد لأجل تكذيبهم : { أعطيناك } أي خولناك مع التمكين العظيم ، ولم يقل : آتيناك ، لأن الإيتاء أصله الإحضار ، وإن اشتهر في معنى الإعطاء { الكوثر } الذي هو من جملة الجود على المصدقين بيوم الدين . ولما كان كثير الرئيس أكثر من كثير غيره ، فكيف بالملك فكيف بملك الملوك ؟ فكيف إذا أخرجه في صيغة مبالغة ؟ فكيف إذا كان في مظهر العظمة ؟ فكيف إذا بنيت الصيغة على الواو الذي له العلو والغلبة ؟ فكيف إذا أتت إثر الفتحة التي لها من ذلك مثل ذلك ؛ بل أعظم ؟ كان المعنى : أفضنا عليك وأبحناك من كل شيء من الأعيان والمعاني ، من العلم والعمل ، وغيرهما ، من معادن الدارين ومعاونهما ، الخير الذي لا غاية له ، فلا يدخل تحت الوصف ، فأغنيناك عن أن تؤثر بذلك ، أو توفر مالك بجلب نفع أو دفع ضر ، ومنه النهر الذي في الجنة ، ويسقي المؤمنين من الحوض الممدود منه في المحشر الذي مثاله في الدنيا شريعته صلى الله عليه وسلم التي عراها وأسبابها عدد النجوم الذين هم علماء أمته المقتدى بهم ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والكوثر صيغة من الكثرة . . وهو مطلق غير محدود . يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء . . إنا أعطيناك ما هو كثير فائض غزير . غير ممنوع ولا مبتور . . فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور . هو واجده في النبوة . في هذا الاتصال بالحق الكبير ، والوجود الكبير . الوجود الذي لا وجود غيره ولا شيء في الحقيقة سواه . وماذا فقد من وجد الله ?... إنه الكوثر ، الذي لا نهاية لفيضه ، ولا إحصاء لعوارفه ، ولا حد لمدلوله . ومن ثم تركه النص بلا تحديد ، يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد . . وقد وردت روايات من طرق كثيرة أن الكوثر نهر في الجنة أوتيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن ابن عباس أجاب بأن هذا النهر هو من بين الخير الكثير الذي أوتيه الرسول . فهو كوثر من الكوثر ! وهذا هو الأنسب في هذا السياق وفي هذه الملابسات .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الفخر الرازي نقل خمسة عشر رأياً في تفسير الكوثر ، ولكن هذه التفاسير تبيّن غالباً المصاديق البارزة لمعناها الواسع وهو «الخير الكثير » .... كلّ الهبات الإلهية لرسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) في كل المجالات تدخل في إطار هذا الخير الكثير ، ومن ذلك انتصاراته على الأعداء في الغزوات ؛ بل حتى علماء أمته الذين يحملون مشعل الإسلام والقرآن في كلّ زمان ومكان . ولا ننسى أنّ كلام اللّه سبحانه تعالى لنبيّه في هذه السّورة كان قبل ظهور الخير الكثير . فهو إخبار بالمستقبل القريب والبعيد ، إخبار إعجازي يشكل دليلاً آخر على صدق دعوة الرسول الأعظم( صلى الله عليه وآله وسلم ) . هذا الخير الكثير يستوجب شكراً عظيماً ، وإنّ كان المخلوق لا يستطيع أداء حقّ نعمة الخالق أبداً . إذ أنّ توفيق الشكر نعمة أخرى منه سبحانه . ولذا يقول سبحانه لنبيّه : { فصل لربّك وانحر } .