وهي أمور من شأنها أن تصحح التصور المشوش ، وأن تجلو عنه الغبش . . ولكن طبيعة إسرائيل - ونبيها يعرفها - لا تصلح لها هذه الحقائق العالية وحدها . وهم مقبلون على معركة . ولا بد لهم من خارقة ظاهرة تهز قلوبهم ، وتردها إلى الثقة واليقين :
( وقال لهم نبيهم : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ، فيه سكينة من ربكم ، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة . إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ) . .
وكان أعداؤهم الذين شردوهم من الأرض المقدسة - التي غلبوا عليها على يد نبيهم يوشع بعد فترة التيه ووفاة موسى - عليه السلام - قد سلبوا منهم مقدساتهم ممثلة في التابوت الذي يحفظون فيه مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون . وقيل : كانت فيه نسخة الألواح التي أعطاها الله لموسى على الطور . . فجعل لهم نبيهم علامة من الله ، أن تقع خارقة يشهدونها ، فيأتيهم التابوت بما فيه ( تحمله الملائكة ) فتفيض على قلوبهم السكينة . . وقال لهم : إن هذه الآية تكفي دلالة على صدق اختيار الله لطالوت ، إن كنتم حقا مؤمنين . .
ويبدو من السياق أن هذه الخارقة قد وقعت ، فانتهى القوم منها إلى اليقين .
{ وقال لهم نبيهم } لما طلبوا منه حجة على أنه سبحانه وتعالى اصطفى طالوت وملكه عليهم . { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } الصندوق فعلوت من التوب ، وهو الرجوع فإنه لا يزال يرجع إلى ما يخرج منه ، وليس بفاعول لقلة نحو سلس وقلق ، ومن قرأه بالهاء فلعله أبدله منه كما أبدل من تاء التأنيث لاشتراكهما في الهمس والزيادة ، ويريد به صندوق التوراة وكان من خشب الشمشاد مموها بالذهب نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين . { فيه سكينة من ربكم } الضمير للإتيان أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة ، أو للتابوت أي مودع فيه ما تسكنون إليه وهو التوراة . وكان موسى عليه الصلاة والسلام إذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون . وقيل صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يتبعونه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر . وقيل صورة الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام . وقيل التابوت هو القلب والسكينة ما فيه من العلم والإخلاص وإتيانه مصير قلبه مقرا للعلم والوقار بعد أن لم يكن . { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وعمامة هارون ، وآلهما أبناؤهما أو أنفسهما . والآل مقحم لتفخيم شأنهما ، أو أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمهما . { تحمله الملائكة } قيل رفعه الله بعد موسى فنزلت به الملائكة وهم ينظرون إليه وقيل كان بعده مع أنبيائهم يستفتحون به حتى أفسدوا فغلبهم الكفار عليه ، وكان في أرض جالوت إلى أن ملك الله طالوت فأصابهم بلاء حتى هلكت خمس مدائن فتشاءموا بالتابوت فوضعوه على ثورين فساقتهما الملائكة إلى طالوت . { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } يحتمل أن يكون من تمام كلام النبي عليه الصلاة والسلام وأن يكون ابتداء خطاب من الله سبحانه وتعالى .
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 248 )
وأما قول النبي لهم : { إن آية ملكه } فإن الطبري ذهب إلى أن بني إسرائيل تعنتوا وقالوا لنبيهم : وما آية ملك طالوت ؟ وذلك على جهة سؤال الدلالة على صدقه في قوله إن الله قد بعث .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويحتمل أن نبيهم قال لهم ذلك على جهة التغبيط والتنبيه على هذه النعمة التي قرنها الله بملك طالوت وجعلها آية له دون أن تعن بنو إسرائيل لتكذيب نبيهم ، وهذا عندي أظهر( {[2383]} ) من لفظ الآية ، وتأويل الطبري أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة ، فإنهم أهل تكذيب وتعنت واعوجاج ، وقد حكى الطبري معناه( {[2384]} ) عن ابن عباس وابن زيد والسدي .
واختلف المفسرون في كيفية إتيان { التابوت } وكيف كان بدء أمره ، فقال وهب بن منبه : كان التابوت عند بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت ، وصار التابوت عند القوم الذين غلبوا ، فوضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام ، فكانت الأصنام تصبح منكسة ، فجعلوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع في أعناقهم ، وقيل : جعل في مخرأة قوم فكانوا يصيبهم الناسور ، فلما عظم بلاؤهم كيف كان( {[2385]} ) ، قالوا : ما هذا إلا لهذا التابوت فلنرده إلى بلاد بني إسرائيل ، فأخذوا عجلة فجعلوا التابوت عليها وربطوها ببقرتين فأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل ، فبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى دخلتا به على بني إسرائيل ، وهم في أمر طالوت ، فأيقنوا بالنصر ، وهذا( {[2386]} ) هو حمل الملائكة للتابوت في هذه الرواية . وقال قتادة والربيع : بل كان هذا التابوت مما تركه موسى عند يوشع بن نون ، فجعله يوشع في البرية ، ومرت عليه الدهور حتى جاء وقت طالوت . وكان أمر التابوت مشهوراً عندهم في تركة موسى ، فجعل الله الإتيان به آية لملك طالوت ، وبعث الله ملائكة حملته إلى بني إسرائيل ، فيروى أنهم رأوا التابوت في الهواء يأتي حتى نزل بينهم ، وروي أن الملائكة جاءت به تحمله حتى جعلته في دار طالوت ، فاستوسقت( {[2387]} ) بنو إسرائيل عند ذلك على طالوت ، وقال وهب بن منبه : كان قدر التابوت نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين ، وقرأ زيد بن ثابت «التابوه » ، وهي لغته ، والناس على قراءته بالتاء .
قال القاضي أبو محمد : وكثر الرواة في قصص( {[2388]} ) التابوت وصورة حمله بما لم أر لإثباته وجهاً للين إسناده .
{ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : السكينة ريح هفافة( {[2389]} ) لها وجه كوجه الإنسان ، وروي عنه أنه قال : هي ريح خجوج ولها رأسان ، وقال مجاهد : السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان وذنب ، وقال أقبلت السكينة والصرد وجبريل مع إبراهيم من الشام . وقال وهب بن منبه عن بعض علماء بني إسرائيل : السكينة رأس هرة ميتة كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ الهر أيقنوا بالنصر . وقال ابن عباس : السكينة طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء ، وقاله السدي . وقال وهب بن منبه : السكينة روح من الله يتكلم إذا اختلفوا في شيء أخبرهم ببيان ما يريدون . وقال عطاء بن أبي رباح : السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها . وقال الربيع بن أنس : { سكينة من ربكم } أي رحمة من ربكم ، وقال قتادة : { سكينة من ربكم } أي وقار لكم من ربكم .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم ، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى ، فالمعهود أن الله ينصر الحق والأمور الفاضلة عنده( {[2390]} ) ، والسكينة على هذا فعيلة مأخوذة من السكون ، كما يقال عزم عزيمة وقطع قطيعة .
واختلف المفسرون في البقية ما هي ؟ : فقال ابن عباس : هي عصا موسى ورضاض( {[2391]} ) الألواح ، وقال الربيع : هي عصا موسى وأمور من التوراة . وقال عكرمة : هي التوراة والعصا ورضاض الألواح .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى هذا ما روي من أن موسى عليه السلام لما جاء قومه بالألواح فوجدهم قد عبدوا العجل القى الألواح غضباً فتكسرت . فنزع منها ما بقي صحيحاً وأخذ رضاض ما تكسر فجعل في التابوت . وقال أبو صالح : البقية عصا موسى وعصا هارون ولوحان من التوراة والمن . وقال عطية بن سعد : هي عصا موسى وعصا هارون وثيابهما ورضاض الألواح . وقال الثوري : من الناس من يقول البقية قفيز منّ ورضاض الألواح .
ومنهم من يقول : العصا والنعلان . وقال الضحّاك : البقية الجهاد وقتال الأعداء .
قال القاضي أبو محمد : أي الأمر بذلك في التابوت ، إما أنه مكتوب فيه ، وإما أن نفس الإتيان به هو كالأمر بذلك ، وأسند الترك إلى آل موسى وهارون من حيث كان الأمر مندرجاً من قوم إلى قوم( {[2392]} ) ، وكلهم آل لموسى وهارون ، وآل الرجل قرابته وأتباعه ، وقال ابن عباس والسدي وابن زيد : حمل الملائكة هو سوقها التابوت دون شيء يحمله سواها حتى وضعته بين يدي بني إسرائيل وهم ينظرون إليه بين السماء والأرض ، وقال وهب بن منبه والثوري عن بعض أشياخهم ، حملها إياه هو سوقها الثورين أو البقرتين اللتين جرتا العجلة به ، ثم قرر تعالى أن مجيء التابوت آية لهم إن كانوا ممن يؤمن ويبصر بعين حقيقة .