ثم ذكر المحرمات التي حرمها اللّه في كل شريعة من الشرائع فقال : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } أي : الذنوب الكبار التي تستفحش وتستقبح لشناعتها وقبحها ، وذلك كالزنا واللواط ونحوهما .
وقوله : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أي : الفواحش التي تتعلق بحركات البدن ، والتي تتعلق بحركات القلوب ، كالكبر والعجب والرياء والنفاق ، ونحو ذلك ، { وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : الذنوب التي تؤثم وتوجب العقوبة في حقوق اللّه ، والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، فدخل في هذا الذنوبُ المتعلقةُ بحق اللّه ، والمتعلقةُ بحق العباد .
{ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } أي : حجة ، بل أنزل الحجة والبرهان على التوحيد . والشركُ هو أن يشرك مع اللّه في عبادته أحد من الخلق ، وربما دخل في هذا الشرك الأصغر كالرياء والحلف بغير اللّه ، ونحو ذلك .
{ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه ، فكل هذه قد حرمها اللّه ، ونهى العباد عن تعاطيها ، لما فيها من المفاسد الخاصة والعامة ، ولما فيها من الظلم والتجري على اللّه ، والاستطالة على عباد اللّه ، وتغيير دين اللّه وشرعه .
فأما الذي حرمه الله حقاً ، فليس هو الزينة المعتدلة من اللباس ، وليس هو الطيب من الطعام والشراب - في غير سرف ولا مخيلة - إنما الذي حرمه الله حقاً هو الذي يزاولونه فعلاً !
( قل : إنما حرم ربي الفواحش - ما ظهر منها وما بطن - والإثم والبغي بغير الحق ، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) . .
هذا هو الذي حرمه الله . الفواحش من الأعمال المتجاوزة لحدود الله . ظاهرة للناس أوخافية . والإثم . وهو كل معصية لله على وجه الإجمال . والبغي بغير الحق . وهو الظلم الذي يخالف الحق والعدل - كما بينهما الله أيضاً - وإشراك ما لم يجعل الله به قوة ولا سلطاناً مع الله - سبحانه - في خصائصه . ومنه هذا الذي كان واقعاً في الجاهلية ، وهو الواقع في كل جاهلية . من إشراك غير الله ليشرع للناس ؛ ويزاول خصائص الألوهية . وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون . كالذي كانوا يقولونه من التحليل والتحريم . ومن نسبتهم هذا إلى أمر الله بغير علم ولا يقين . .
ومن عجيب ما روي من حال المشركين الذين خوطبوا بهذه الآيات أول مرة ؛ ووجه إليهم هذا الإستنكار الوارد في قوله تعالى : ( قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده . . ) ما رواه الكلبي قال :
" لما لبس المسلمون الثياب ، وطافوا بالبيت عيرهم المشركون بها . . فنزلت الآية . . "
فانظر كيف تصنع الجاهلية بأهلها ! ناس يطوفون ببيت الله عرايا ؛ فسدت فطرتهم وانحرفت عن الفطرة السليمة التي يحكيها القرآن الكريم عن آدم وحواء في الجنة : ( فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) . . فإذا رأوا المسلمين يطوفون بالبيت مكسوين ، في زينة الله التي أنعم بها على البشر ؛ لإرادته بهم الكرامة والستر ، ولتنمو فيهم خصائص فطرتهم الإنسانية في سلامتها وجمالها الفطري ، وليتميزوا عن العري الحيواني . . الجسمي والنفسي . . إذا رأوا المسلمين يطوفون ببيت الله في زينة الله وفق فطرة الله " عيروهم " !
إنه هكذا تصنع الجاهلية بالناس . . هكذا تمسخ فطرهم وأذواقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم ! وماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس في هذا الأمر غير الذي فعلته بالناس في جاهلية المشركين العرب ؟ وجاهلية المشركين الإغريق ؟ وجاهلية المشركين الرومان ؟ وجاهلية المشركين الفرس ؟ وجاهلية المشركين في كل زمان وكل مكان ؟ !
ماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس إلا أن تعريهم من اللباس ، وتعريهم من التقوى والحياء ؟ ثم تدعو هذا رقياً وحضارة وتجديداً ؛ ثم تعير الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات ، بأنهن " رجعيات " . " تقليديات " . " ريفيات " !
المسخ هوالمسخ . والانتكاس عن الفطرة هو الانتكاس . وانقلاب الموازين هو انقلاب الموازين . والتبجح بعد ذلك هو التبجح . . ( أتواصوا به ؟ بل هم قوم طاغون ! ) .
وما الفرق كذلك في علاقة هذا العري ، وهذا الانتكاس ، وهذه البهيمية ، وهذا التبجح ، بالشرك ، وبالأرباب التي تشرع للناس من دون الله ؟
لئن كان مشركو العرب قد تلقوا في شأن ذلك التعري من الأرباب الأرضية التي كانت تستغل جهالتهم وتستخف بعقولهم ، لضمان السيادة لها في الجزيرة . . ومثلهم بقية الجاهليات القديمة التي تلقت من الكهنة والسدنة والرؤساء . . فإن مشركي اليوم ومشركاته يتلقون في هذا عن الأرباب الأرضية كذلك . . ولا يملكون لأمرهم رداً . .
إن بيوت الأزياء ومصمميها ، وأساتذة التجميل ودكاكينها ، لهي الأرباب التي تكمن وراء هذا الخبل الذي لا تفيق منه نساء الجاهلية الحاضرة ولا رجالها كذلك ! إن هذه الأرباب تصدر أوامرها ، فتطيعها القطعان والبهائم العارية في أرجاء الأرض طاعة مزرية ! وسواء كان الزي الجديد لهذا العام يناسب قوام أية امرأة أو لا يناسبه ، وسواء كانت مراسم التجميل تصلح لها أو لا تصلح ، فهي تطيع صاغرة . . تطيع تلك الأرباب . وإلا " عيرت " من بقية البهائم المغلوبة على أمرها !
ومن ذا الذي يقبع وراء بيوت الأزياء ؟ ووراء دكاكين التجميل ؟ ووراء سعار العري والتكشف ؟ ووراء الأفلام والصور والروايات والقصص ، والمجلات والصحف ، التي تقود هذه الحملة المسعورة . . وبعضها يبلغ في هذا إلى حد أن تصبح المجلة أو القصة ماخوراً متنقلاً للدعارة ؟ !
الذي يقبع وراء هذه الأجهزه كلها ، في العالم كله . . يهود . .
يهود يقومون بخصائص الربوبية على البهائم المغلوبة على أمرها ! ويبلغون أهدافهم كلها من إطلاق هذه الموجات المسعورة في كل مكان . . أهدافهم من تلهية العالم كله بهذا السعار ؛ وإشاعة الانحلال النفسي والخلقي من ورائه ، وإفساد الفطرة البشرية ، وجعلها ألعوبة في أيدي مصممي الأزياء والتجميل ! ثم تحقيق الأهداف الاقتصادية من وراء الإسراف في استهلاك الأقمشة وأدوات الزينة والتجميل وسائر الصناعات الكثيرة التي تقوم على هذا السعار وتغذيه !
إن قضية اللباس والأزياء ليست منفصلة عن شرع الله ومنهجه للحياة . . ومن ثم ذلك الربط بينها وبين قضية الإيمان والشرك في السياق .
أنها ترتبط بالعقيدة والشريعة بأسباب شتى :
إنها تتعلق قبل كل شيء بالربوبية ، وتحديد الجهة التي تشرع للناس في هذه الأمور ، ذات التأثير العميق في الأخلاق والاقتصاد وشتى جوانب الحياة .
كذلك تتعلق بإبراز خصائص " الإنسان " في الجنس البشري ، وتغليب الطابع " الإنساني " في هذا الجنس على الطابع الحيواني .
والجاهلية تمسخ التصورات والأذواق والقيم والأخلاق . وتجعل العري - الحيواني - تقدماً ورقياً . والستر - الإنساني - تأخراً ورجعية ! وليس بعد ذلك مسخ لفطرة الإنسان وخصائص الإنسان .
وبعد ذلك عندنا جاهليون يقولون : ما للدين والزي ؟ ما للدين وملابس النساء ؟ ما للدين والتجميل ؟ . . إنه المسخ الذي يصيب الناس في الجاهلية في كل زمان وفي كل مكان ! ! !
{ قل إنما حرّم ربي الفواحش } ما تزايد قبحه ، وقيل ما يتعلق بالفروج . { ما ظهر منها وما بطن } جهرها وسرها . { والإثم } وما يوجب الإثم تعميم بعد تخصيص ، وقيل شرب الخمر . { والبغي } الظلم ، أو الكبر أفرده بالذكر للمبالغة . { بغير الحق } متعلق بالبغي مؤكد له معنى . { وأن تشركوا بالله ما لم ينزّل به سلطانا } تهكم بالمشركين ، وتنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان . { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } بالإلحاد في صفاته سبحانه وتعالى ، والافتراء عليه كقولهم { الله أمرنا بها } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.