تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

{ 64 - 66 ْ } { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ْ }

يخبر تعالى عن مقالة اليهود الشنيعة ، وعقيدتهم الفظيعة ، فقال : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ْ } أي : عن الخير والإحسان والبر .

{ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ْ } وهذا دعاء عليهم بجنس مقالتهم . فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم ، بالبخل وعدم الإحسان . فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم .

فكانوا أبخل الناس وأقلهم إحسانا ، وأسوأهم ظنا بالله ، وأبعدهم الله عن رحمته التي وسعت كل شيء ، وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي . ولهذا قال : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ْ } لا حجر عليه ، ولا مانع يمنعه مما أراد ، فإنه تعالى قد بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي ، وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده ، وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه بمعاصيهم .

فيداه{[269]}  سحاء الليل والنهار ، وخيره في جميع الأوقات مدرارا ، يفرج كربا ، ويزيل غما ، ويغني فقيرا ، ويفك أسيرا ويجبر كسيرا ، ويجيب سائلا ، ويعطي فقيرا عائلا ، ويجيب المضطرين ، ويستجيب للسائلين . وينعم على من لم يسأله ، ويعافي من طلب العافية ، ولا يحرم من خيره عاصيا ، بل خيره يرتع فيه البر والفاجر ، ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال ثم يحمدهم عليها ، ويضيفها إليهم ، وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل ما لا يدركه الوصف ، ولا يخطر على بال العبد ، ويلطف بهم في جميع أمورهم ، ويوصل إليهم من الإحسان ، ويدفع عنهم من النقم ما لا يشعرون بكثير منه ، فسبحان من كل النعم التي بالعباد فمنه ، وإليه يجأرون في دفع المكاره ، وتبارك من لا يحصي أحد ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين ، بل لا وجود لهم ولا بقاء إلا بجوده .

وقبَّح الله من استغنى بجهله عن ربه ، ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله ، بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة ، ونحوهم ممن حاله كحالهم ببعض قولهم ، لهلكوا ، وشقوا في دنياهم ، ولكنهم يقولون تلك الأقوال ، وهو تعالى ، يحلم عنهم ، ويصفح ، ويمهلهم ولا يهملهم .

وقوله { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ْ } وهذا أعظم العقوبات على العبد{[270]} ، أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله ، الذي فيه حياة القلب والروح ، وسعادة الدنيا والآخرة ، وفلاح الدارين ، الذي هو أكبر منة امتن الله بها على عباده ، توجب عليهم المبادرة إلى قبولها ، والاستسلام لله بها ، وشكرا لله عليها ، أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه ، وطغيان إلى طغيانه ، وكفر إلى كفره ، وذلك بسبب إعراضه عنها ، ورده لها ، ومعاندته إياها ، ومعارضته لها بالشبه الباطلة . { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ْ } فلا يتآلفون ، ولا يتناصرون ، ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم ، بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم ، متعادين بأفعالهم ، إلى يوم القيامة { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ ْ } ليكيدوا بها الإسلام وأهله ، وأبدوا وأعادوا ، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم { أَطْفَأَهَا اللَّهُ ْ } بخذلانهم وتفرق جنودهم ، وانتصار المسلمين عليهم .

{ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ْ } أي : يجتهدون ويجدون ، ولكن بالفساد في الأرض ، بعمل المعاصي ، والدعوة إلى دينهم الباطل ، والتعويق عن الدخول في الإسلام . { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ْ } بل يبغضهم أشد البغض ، وسيجازيهم على ذلك .


[269]:- في ب: فيده .
[270]:- في ب: وهذا أعظم من العقوبات على العبد.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

51

وكنموذج من قولهم الإثم في أبشع صوره يحكي القرآن الكريم قول اليهود الغبي اللئيم :

وقالت اليهود يد الله مغلولة - غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء-

وذلك من سوء تصور يهود لله سبحانه . فقد حكى القرآن الكريم الكثير من سوء تصورهم ذاك . وقد قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء عندما سئلوا النفقة ! وقالوا : يد الله مغلولة ، يعللون بذلك بخلهم ؛ فالله - بزعمهم - لا يعطي الناس ولا يعطيهم إلا القليل . . فكيف ينفقون ؟ !

وقد بلغ من غلظ حسهم ، وجلافة قلوبهم ، ألا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه وهو البخل بلفظه المباشر ؛ فاختاروا لفظا أشد وقاحة وتهجما وكفرا فقالوا : يد الله مغلولة !

ويجيء الرد عليهم بإحقاق هذه الصفة عليهم ، ولعنهم وطردهم من رحمة الله جزاء على قولهم : ( غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ) .

وكذلك كانوا ، فهم أبخل خلق الله بمال !

ثم يصحح هذا التصور الفاسد السقيم ؛ ويصف الله سبحانه بوصفه الكريم . وهو يفيض على عباده من فضله بلا حساب :

( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) . .

وعطاياه التي لا تكف ولا تنفد لكل مخلوق ظاهرة للعيان . . شاهدة باليد المبسوطة ، والفضل الغامر ، والعطاء الجزيل ، ناطقة بكل لسان . ولكن يهود لا تراها ؛ لأنها مشغولة عنها باللم والضم ، وبالكنود وبالجحود ، وبالبذاءة حتى في حق الله !

ويحدث الله رسوله [ ص ] عما سيبدو من القوم ، وعما سيحل بهم ، بسبب حقدهم وغيظهم من اصطفاء الله له بالرسالة ؛ وبسبب ما تكشفه هذه الرسالة من أمرهم في القديم والحديث :

( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرًا ) . .

فبسبب من الحقد والحسد ، وبسبب من افتضاح أمرهم فيما أنزل الله إلى رسوله ، سيزيد الكثيرون منهم طغيانا وكفرا . لأنهم وقد أبوا الإيمان ، لا بد أن يشتطوا في الجانب المقابل ؛ ولا بد أن يزيدوا تبجحا ونكرا ، وطغيانا وكفرا . فيكون الرسول [ ص ] رحمة للمؤمنين ، ووبالا عن المنكرين .

ثم يحدثه عما قدر الله لهم من التعادي والتباغض فيما بينهم ؛ ومن إبطال كيدهم وهو في أشد سعيره تلهبا ؛ ومن عودتهم بالخيبة فيما يشنونه من حرب على الجماعة المسلمة :

وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله . .

وما تزال طوائف اليهود متعادية . وإن بدا في هذه الفترة أن اليهودية العالمية تتساند ؛ وتوقد نار الحرب علىالبلاد الإسلامية وتفلح ! ولكن ينبغي ألا ننظر إلى فترة قصيرة من الزمان ولا إلى مظهر لا يشتمل على الحقيقة كاملة . ففي خلال ألف وثلاثمائة عام . . بل من قبل الإسلام . . واليهود في شحناء وفي ذل كذلك وتشرد . ومصيرهم إلى مثل ما كانوا فيه . مهما تقم حولهم الأسناد . ولكن مفتاح الموقف كله في وجود العصبة المؤمنة ، التي يتحقق لها وعد الله . . فأين هي العصبة المؤمنة اليوم ، التي تتلقى وعد الله ، وتقف ستارا لقدر الله ، ويحقق الله بها في الأرض ما يشاء ؟

ويوم تفيء الأمة المسلمة إلى الإسلام : تؤمن به على حقيقته ؛ وتقيم حياتها كلها على منهجه وشريعته . . يومئذ يحق وعد الله على شر خلق الله . . واليهود يعرفون هذا ، ومن ثم يسلطون كل ما في جعبتهم من شر وكيد ؛ ويصبون كل ما في أيديهم من بطش وفتك ، على طلائع البعث الإسلامي في كل شبر من الأرض ، ويضربون - لا بأيديهم - ولكن بأيدي عملائهم - ضربات وحشية منكرة ؛ لا ترعى في العصبة المؤمنة إلا ولا ذمة . . ولكن الله غالب على أمره . ووعد الله لا بد أن يتحقق :

( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة . كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) . .

إن هذا الشر والفساد الذي تمثله يهود ، لا بد أن يبعث الله عليه من يوقفه ويحطمه ؛ فالله لا يحب الفساد في الأرض ؛ وما لا يحبه الله لا بد أن يبعث عليه من عباده من يزيله ويعفي عليه :

( ويسعون في الأرض فسادا ، والله لا يحب المفسدين ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

يخبر تعالى عن اليهود - عليهم لعائن الله المتتابعة{[10038]} إلى يوم القيامة - بأنهم وصفوا الله ، عز وجل وتعالى عن قولهم علوًا كبيرًا ، بأنه بخيل . كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء ، وعبروا عن البخل بقولهم : { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ }

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الطهراني ، حدثنا حفص بن عمر العَدَنِيّ ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمَة قال : قال ابن عباس : { مَغْلُولَةٌ } أي : بخيلة .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } قال : لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة{[10039]} ولكن يقولون : بخيل أمسك ما عنده ، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا .

وكذا روي عن عِكْرِمَة ، وقتادة ، والسُّدِّي ، ومجاهد ، والضحاك وقرأ : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } [ الإسراء : 29 ] . يعني : أنه ينهى{[10040]} عن البخل وعن التبذير ، وهو الزيادة في الإنفاق في غير محله ، وعبَّر عن البخل بقوله : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } .

وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله . وقد قال عكرمة : إنها نزلت في فنْحاص اليهودي ، عليه لعنة الله . وقد تقدم أنه الذي قال : { إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } [ آل عمران : 181 ] فضربه أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود ، يقال له : شاس{[10041]} بن قيس : إن ربك بخيل لا ينفق ، فأنزل الله : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ }

وقد رد الله ، عز وجل ، عليهم ما قالوه ، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه ، فقال : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا } وهكذا{[10042]} وقع لهم ، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة{[10043]} أمر عظيم ، كما قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا{[10044]} ] } [ النساء : 53 - 55 ] وقال تعالى : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاس{[10045]} ] } الآية [ آل عمران : 112 ] .

ثم قال تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } أي : بل هو الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه ، وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له ، الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه ، في ليلنا ونهارنا ، وحضرنا وسفرنا ، وفي جميع أحوالنا ، كما قال [ تعالى ]{[10046]} { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } الآية [ إبراهيم : 34 ] . والآيات في هذا كثيرة ، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل :

حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يمين الله مَلأى لا يَغِيضُها نفقة ، سَحَّاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يَغِض ما في يمينه " قال : " وعرشه على الماء ، وفي يده الأخرى القبْض ، يرفع ويخفض " : قال : قال الله تعالى : " أنفق أنفق عليك " أخرجاه في الصحيحين ، البخاري في " التوحيد " عن علي بن المديني ، ومسلم فيه ، عن محمد بن رافع ، وكلاهما{[10047]} عن عبد الرزاق ، به . {[10048]}

وقوله : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } أي : يكون ما أتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم ، فكما يزداد به المؤمنون تصديقًا وعملا صالحًا وعلمًا نافعًا ، يزداد به الكفرة الحاسدون لك ولأمتك { طُغْيَانًا } وهو : المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء { وَكُفْرًا } أي : تكذيبا ، كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] وقال تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] .

وقوله : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } يعني : أنه لا تجتمع قلوبهم ، بل العداوة واقعة بين فِرقهم بعضهم في بعض دائمًا لأنهم لا يجتمعون على حق ، وقد خالفوك وكذبوك .

وقال إبراهيم النَّخَعي : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ } قال : الخصومات والجدال في الدين . رواه ابن أبي حاتم .

وقوله : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } أي : كلما عقدوا أسبابًا يكيدونك بها ، وكلما أبرموا أمورًا يحاربونك بها يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم ، ويحيق مكرهم السيئ بهم .

{ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } أي : من سجيتهم أنهم دائمًا يسعوْن في الإفساد في الأرض ، والله لا يحب من هذه صفته .


[10038]:في أ: التابعة".
[10039]:في ر: "منفقة".
[10040]:في أ: "نهى".
[10041]:في أ: "النباس".
[10042]:في أ: "هكذا".
[10043]:في أ: "المذلة".
[10044]:زيادة من ر، أ.
[10045]:زيادة من ر، أ.
[10046]:زيادة من ر.
[10047]:في ر، أ: "كلاهما".
[10048]:المسند (2/313) وصحيح البخاري برقم (7419) وصحيح مسلم برقم (993).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

{ وقالت اليهود يد الله مغلولة } أي هو ممسك يقتر بالرزق وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ولا قصد فيه إلى إثبات يد وغل وبسط ولذلك يستعمل حيث لا يتصور ذلك كقوله :

جاد الحمى بسط اليدين بوابل *** شكرت نداه تلاعه ووهاده

ونظيره من المجازات المركبة : شابت لمة الليل . وقيل معناه إنه فقير لقوله تعالى : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } . { غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا } دعاء عليهم بالبخل والنكد أو بالفقر والمسكنة ، أو بغل الأيدي حقيقة يغلون أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة فتكون المطابقة من حيث اللفظ وملاحظة الأصل كقولك : سبني سب الله دابره . { بل يداه مبسوطتان } ثنى اليد مبالغة في الرد ونفي البخل عنه تعالى وإثباتا لغاية الجود ، فإن غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطيه بيديه ، وتنبيها على منح الدنيا والآخرة وعلى ما يعطي للاستدراج وما يعطي للإكرام . { ينفق كيف يشاء } تأكيد لذلك أي هو مختار في إنفاقه يوسع تارة ويضيق أخرى على حسب مشيئته ومقتضى حكمته ، لا على تعاقب سعة وضيق في ذات يد ، ولا يجوز جعله حالا من الهاء للفصل بينهما بالخبر ولأنها مضاف إليها ، ولا من اليدين إذ لا ضمير لهما فيه ولا من ضميرهما لذلك . والآية نزلت في فنحاص بن عازوراء فإنه قال ذلك لما كف الله عن اليهود ما بسط عليهم من السعة بشؤم تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وأشرك فيه الآخرون لأنهم رضوا بقوله : { وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا } أي هم طاغون كافرون ويزدادون طغيانا وكفرا بما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء . { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } فلا تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم . { كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله } كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم وإثارة شر عليه ردهم الله سبحانه وتعالى بأن أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم ، أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط عليهم

المسلمين ، وللحرب صلة أوقدوا أو صفة نارا . { ويسعون في الأرض فسادا } أي للفساد وهو اجتهادهم في الكيد وإثارة الحروب والفتن وهتك المحارم . { والله لا يحب المفسدين } فلا يجازيهم إلا شرا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (64)

{ وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } .

عطف على جملة { وإذا جاؤوكم قالوا آمنّا } [ المائدة : 61 ] ، فإنّه لمّا كان أولئك من اليهود والمنافقين انتقل إلى سوء معتقدهم وخبث طويتهم ليظهر فرط التنافي بين معتقدهم ومعتقد أهل الإسلام ، وهذا قول اليهود الصرحاء غير المنافقين فلذلك أسند إلى اسم ( اليهود ) .

ومعنى { يد الله مغلولة } الوصف بالبخل في العطاء لأنّ العرب يجعلون العطاء معبَّراً عنه باليد ، ويجعلون بَسْط اليد استعارة للبذل والكرم ، ويجعلون ضدّ البسط استعارة للبخل فيقولون : أمسك يدَه وقبَض يده ، ولم نسمع منهم : غَلّ يدَه ، إلاّ في القرآن كما هنا ، وقوله : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عُنقك } في سورة الإسراء ( 29 ) ، وهي استعارة قويّة لأنّ مغلول اليد لا يستطيع بسطها في أقلّ الأزمان ، فلا جرم أن تكون استعارة لأشدّ البخل والشحّ .

واليهودُ أهل إيمان ودين فلا يجوز في دينهم وصف الله تعالى بصفات الذمّ . فقولهم هذا : إمّا أن يكون جرى مجرى التهكّم بالمسلمين إلزاماً لهذا القول الفاسد لهم ، كما روي أنّهم قالوا ذلك لمّا كان المسلمون في أوّل زمن الهجرة في شدّة ، وفَرَض الرسول عليهم الصدقات ، وربّما استعان باليهود في الديات . وكما روي أنّهم قالوه لمّا نزل قوله تعالى : { من ذا الّذي يُقرض الله قرضاً حسناً } [ البقرة : 245 ] فقالوا : إنّ ربّ محمّد فقير وبخيل . وقد حكي عنهم نظيره في قوله تعالى : { لقد سمع الله قول الّذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء } [ البقرة : 181 ] . ويؤيّد هذا قوله عقبهُ { وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً } . وإمّا أن يكونوا قالوه في حالة غضب ويأس ؛ فقد روي في سبب نزولها أنّ اليهود نزلت بهم شدّة وأصابتهم مجاعة وجَهد ، فقال فنحاص بن عَازُورا هذه المقالة ، فإمّا تلقَّفُوها منه على عادة جهل العامّة ، وإمّا نسب قول حبرهم إلى جميعهم لأنّهم يقلّدونه ويقتدون به .

وقد ذمّهم الله تعالى على كلا التقديرين ، إذ الأول استخفاف بالإسلام وبدينهم أيضاً ، إذ يجب تنزيه الله تعالى عن هذه المقالات ، ولو كانت على نيّة إلزام الخصم ، والثّاني ظاهر ما فيه من العجرفة والتأفّف من تصرّف الله ، فقابل الله قولهم بالدّعاء عليهم . وذلك ذمّ على طريقة العَرب .

وجملة { غُلَّت أيديهم } معترضة بين جملة { وقالت اليهود } وبين جملة { بل يداه مبسوطتان } . وهي إنشاء سبّ لهم . وأخذ لهم من الغُلّ المجازي مُقابِلُه الغلّ الحقيقي في الدعاء على طريقة العرب في انتزاع الدعاء من لفظ سببه أو نحوه ، كقول النّبيء صلى الله عليه وسلم « عُصَيَّةُ عَصت الله ورسوله ، وأسلم سَلَّمها الله ، وغِفَار غَفر الله لها »

وجملة { ولعنوا بما قالوا } يجوز أن تكون إنشاء دعاء عليهم ، ويجوز أن تكون إخباراً بأنّ الله لعنهم لأجل قولهم هذا ، نظير ما في قوله تعالى : { وإن يَدْعون إلاّ شيطاناً مريداً لعنه الله } في سورة النّساء ( 117 ، 118 ) .

وقوله : { بل يداه مبسوطتان } نقض لكلامهم وإثبات سعة فضله تعالى . وبسط اليدين تمثيل للعطاء ، وهو يتضمّن تشبيه الإنعام بأشياء تعطى باليدين .

وذكر اليد هنا بطريقة التثنية لزيادة المبالغة في الجُود ، وإلاّ فاليَدُ في حال الاستعارة للجود أو للبُخل لا يقصد منها مفرد ولا عدد ، فالتثنية مستعملة في مطلق التّكرير ، كقوله تعالى : { ثُم ارجع البصر كرّتين } [ الملك : 4 ] ، وقولهم : « لبّيك وسعديك » . وقال الشّاعر ( أنشده في « الكشاف » ولم يعْزه هو ولا شارحوه ) :

جَادَ الْحِمَى بَسِطُ اليدَيْن بوابلٍ *** شكرَتْ نَدَاه تلاعُه ووهَاده

وجملة { ينفق كيف يشاء } بيان لاستعارة { يداه مبسوطتان } . و { كيف } اسم دالّ على الحالة وهو مبني في محلّ نصب على الحال . وفي قوله : { كيف يشاء } زيادة إشارة إلى أن تقتيره الرزق على بعض عبيده لمصلحة ، مثل العقاب على كفران النعمة ، قال تعالى : { ولو بَسط الله الرزق لعباده لبَغَوا في الأرض } [ الشورى : 27 ] .

{ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طغيانا وَكُفْراً } .

عطف على جملة { وقالت اليهود يد الله مغلولة } . وقع معترضاً بين الردّ عليهم بجملة { بل يداه مبسوطتان } وبين جملة { وألقيْنا بينهم العداوة والبغضاء } ، وهذا بيان للسبب الّذي بعثهم على تلك المقالة الشنيعة ، أي أعماهم الحسد فزادهم طغياناً وكفراً ، وفي هذا إعداد للرسول عليه الصلاة والسلام لأخذ الحذر منهم ، وتسلية له بأنّ فَرط حنقهم هو الّذي أنطقهم بذلك القول الفظيع .

{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } .

عطف على جملة { ولعنوا بما قالوا } عطفَ الخبر على الإنشاء على أحد الوجهين فيه . وفي هذا الخبر الإيماء إلى أنّ الله عاقبهم في الدّنيا على بغضهم المسلمين بأن ألقَى البغضاء بين بعضهم وبعض ، فهو جزاء من جنس العمل ، وهو تسلية للرّسول صلى الله عليه وسلم أن لا يهمّه أمر عداوتهم له ، فإنّ البغضاء سجيتهم حتّى بين أقوامهم وأنّ هذا الوصف دائم لهم شأنَ الأوصاف الّتي عمي أصحابها عن مداواتها بالتخلّق الحسن . وتقدّم القول في نظيره آنفاً .

{ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } .

تركيب { أوقدوا ناراً للحرب أطفاها الله } تمثيل ، شُبّه به حال التهيّؤ للحرب والاستعداد لها والحَزَامةِ في أمرها ، بحال من يُوقد النّار لحاجة بها فتنطفىء ، فإنّه شاعت استعارات معاني التسعير والحَمْي والنّار ونحوها للحرب ، ومنه حَمِيَ الوَطيس ، وفلان مِسْعَرُ حرب ، ومِحَشّ حرب ، فقوله : { أوقدوا ناراً للحرب } كذلك ، ولا نارَ في الحقيقة ، إذ لم يُؤْثر عن العرب أنّ لهم ناراً تختصّ بالحرب تُعَدّ في نِيرَان العرب الّتي يُوقِدُونها لأغراض . وقد وهم من ظنّها حقيقة ، ونبَّه المحقّقون على وهمه .

وشبّه حال انحلال عزمهم أو انهزامُهم وسرعةُ ارتدادهم عنها ، وإحجامُهم عن مصابحة أعدائهم ، بحال من انطفأت ناره الّتي أوقدها .

ومن بداعة هذا التمثيل أنّه صالحٌ لأن يعتبر فيه جَمْعُه وتفريقه ، بأن يُجعل تمثيلاً واحداً لِحالة مجموعة أو تمثيلين لحالتين ، وقبول التمثيل للتفريق أتمّ بلاغة . والمعنى أنّهم لا يلتئم لهم أمر حرب ولا يستطيعون نكاية عدوّ ، ولو حاربوا أو حُوربوا انهزموا ، فيكون معنى الآية على هذا كقوله : { ضُرِبت عليهم الذلّة أينَما ثُقِفوا } [ آل عمران : 112 ] .

وأمّا ما يروى أنّ مَعَدّا كلّها لمّا حاربوا مذبح يوم ( خَزَازَى ) ، وسيادتُهم لِتغلب وقائدُهم كُليب ، أمر كليب أن يوقدوا ناراً على جبل خَزَازَى ليهتدي بها الجيش لكثرته ، وجعلوا العلامة بينهم أنّهم إذا دهمتهم جيوش مذحج أوقدوا نارين على ( خَزَازَى ) ، فلمّا دهمتهم مَذحج أوقدوا النّار فتجمّعت مَعدّ كلّها إلى ساحة القتال وانهزمت مَذحج . وهذا الّذي أشار إليه عمرو بن كلثوم بقوله :

وَنَحْنُ غداة أوقِدَ في خَزازَى *** رَفَدْنَا فَوْقَ رفْد الرافِدِينَا

فتلك شعار خاصّ تواضعوا عليه يومئذٍ فلا يعدّ عادة في جميع الحروب . وحيث لا تعْرف نار للحرب تعيّن الحَمْل على التمثيل ، ولذلك أجمع عليه المفسّرون في هذه الآية فليس الكلامُ بحقيقة ولا كناية .

وقوله : { ويسعون في الأرض فساداً } القولُ فيه كالقول في نظيره المتقدّم آنفاً عند قوله تعالى : { إنّما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً } [ المائدة : 33 ] .