{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا } أي قدرنا بوقت نزول العذاب بهم { وَفَارَ التَّنُّورُ } أي : أنزل الله السماء بالماء بالمنهمر ، وفجر الأرض كلها عيونا حتى التنانير التي هي محل النار في العادة ، وأبعد ما يكون عن الماء ، تفجرت فالتقى الماء على أمر ، قد قدر .
{ قُلْنَا } لنوح : { احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي : من كل صنف من أصناف المخلوقات ، ذكر وأنثى ، لتبقى مادة سائر الأجناس وأما بقية الأصناف الزائدة عن الزوجين ، فلأن السفينة لا تطيق حملها { وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } ممن كان كافرا ، كابنه الذي غرق .
{ وَمَنْ آمَنَ } { و } الحال أنه { مَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ }
ثم مشهد التعبئة عندما حلت اللحظة المرتقبة :
( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ، قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين ، وأهلك - إلا من سبق عليه القول - ومن آمن ، وما آمن معه إلا قليل . وقال : اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها ، إن ربي لغفور رحيم ) .
وتتفرق الأقوال حول فوران التنور ، ويذهب الخيال ببعضها بعيدا ، وتبدو رائحة الإسرائيليات فيها وفي قصة الطوفان كلها واضحة . أما نحن فلا نضرب في متاهة بغير دليل ، في هذا الغيب الذي لا نعلم منه إلا ما يقدمه لنا النص ، وفي حدود مدلوله بلا زيادة .
وأقصى ما نملك أن نقوله : إن فوران التنور - والتنور الموقد - قد يكون بعين فارت فيه ، أو بفوارة بركانية . وأن هذا الفوران ربما كان علامة من الله لنوح ، أو كان مصاحبا مجرد مصاحبة لمجيء الأمر ، وبدءا لنفاذ هذا الأمر بفوران الأرض بالماء . وسح الوابل من السماء .
لما حدث هذا ( قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين . . . ) كأن نظام العملية كان يقتضي أن يؤمر نوح بمراحلها واحدة واحدة في حينها . فقد أمر أولا بصنع الفلك فصنعه ، ولم يذكر لنا السياق الغرض من صنعه ، ولم يذكر أنه أطلع نوحا على هذا الغرض كذلك . ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) . . أمر بالمرحلة التالية .
( قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين ، وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن ) . .
ومرة أخرى تتفرق الأقوال حول ( من كل زوجين اثنين ) وتشيع في الجو رائحة الإسرائيليات قوية . أما نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويشتط حول النص : ( احمل فيها من كل زوجين اثنين ) . . مما يملك نوح أن يمسك وأن يستصحب من الأحياء . وما وراء ذلك خبط عشواء . .
( وأهلك - إلا من سبق عليه القول - ) . .
هذه مُواعدة من الله تعالى لنوح ، عليه السلام ، إذا جاء أمر الله من الأمطار المتتابعة ، والهَتَّان الذي لا يُقْلع ولا يَفتُر ، بل هو كما قال تعالى : { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ } [ القمر : 11 - 14 ] .
وأما قوله : { وَفَارَ التَّنُّورُ } فعن ابن عباس : التنور : وجه الأرض ، أي : صارت الأرض عيونا تفور ، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار ، صارت تفور ماء ، وهذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف .
وعن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : التنور : فَلَق الصبح ، وتنوير الفجر ، وهو ضياؤه وإشراقه .
وقال مجاهد والشعبي : كان هذا التنور بالكوفة ، وعن ابن عباس : عين بالهند . وعن قتادة : عين بالجزيرة ، يقال لها : عين الوردة .
فحينئذ أمر الله نوحا ، عليه السلام ، أن يحمل معه في السفينة من كل زوجين - من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح ، قيل : وغيرها من النباتات - اثنين . ذكرا وأنثى ، فقيل : كان أول من أدخل من الطيور الدرة ، وآخر من أدخل من الحيوانات الحمار ، فدخل إبليس متعلقًا بذنبه ، فدخل بيده{[14592]} ، وجعل يريد أن ينهض فيثقله إبليس وهو متعلق بذنبه ، فجعل يقول له نوح : مالك ؟ ويحك . ادخل . فينهض ولا يقدر ، فقال : ادخل وإن كان إبليس معك فدخلا في السفينة .
وذكر أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنهم لم يستطيعوا أن يحملوا معهم الأسد ، حتى ألقيت عليه الحمى .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث ، حدثني الليث ، حدثني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم . عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين ، قال أصحابه : وكيف يطمئن أو : تطمئن - المواشي ومعها{[14593]} الأسد ؟ فسلط الله عليه الحمى ، فكانت أول حُمَّى نزلت الأرض ، ثم شكوا الفأرة فقالوا : الفُوَيسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا . فأوحى الله إلى الأسد ، فعطس ، فخرجت الهرة منه ، فتخبأت الفأرة منها{[14594]} .
وقوله : { وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } أي : " واحمل فيها أهلك ، وهم أهل بيته وقرابته " إلا من سبق عليه القول منهم ، ممن لم يؤمن بالله ، فكان منهم ابنه " يام " الذي انعزل وحده ، وامرأة نوح وكانت كافرة بالله ورسوله .
وقوله : { وَمَنْ آمَنَ } أي : من قومك ، { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ } أي : نزر {[14595]}يسير مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فعن ابن عباس : كانوا ثمانين نفسا منهم{[14596]} نساؤهم . وعن كعب الأحبار : كانوا اثنين وسبعين نفسا . وقيل : كانوا عشرة . وقيل : إنما كانوا نوح وبنوه{[14597]} الثلاثة سام ، وحام ، ويافث ، وكنائِنِه الأربع نساء هؤلاء الثلاثة وامرأة يام . وقيل : بل امرأةُ نوح كانت معهم في السفينة ، وهذا فيه نَظَرٌ ، بل الظاهر أنها هلكت ؛ لأنها كانت على دين قومها ، فأصابها ما أصابهم ، كما أصاب امرأة لوط ما أصاب قَومها ، والله أعلم وأحكم .
{ حتى إذا جاء أمرنا } غاية لقوله { ويصنع الفلك } وما بينهما حال من الضمير فيه أو حتى هي التي يبتدأ بعدها الكلام . { وفار التّنور } نبع الماء منه وارتفع كالقدر تفور ، و{ التنور } تنور الخبز ابتدأ منه النبوع على خرق العادة وكان في الكوفة في موضع مسجدها ، أو ي الهند أو بعين وردة من أرض الجزيرة وقيل التنور وجه الأرض أو أشرف موضع فيها . { قلنا احمل فيها } في السفينة . { من كل } من كل نوع من الحيوانات المنتفع بها . { زوجين اثنين } ذكرا وأنثى هذا على قراءة حفص والباقون أضافوا على معنى احمل اثنين من كل صنف ذكر وصنف أنثى . { وأهلك } عطف على { زوجين } أو { اثنين } ، والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم . { إلا من سبق عليه القول } بأنه من المغرقين يريد ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا كافرين . { ومن آمن } والمؤمنين من غيرهم . { وما آمن معه إلا قليل } قيل كانوا تسعة وسبعين زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث ونساؤهم واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم . روي أنه عليه الصلاة والسلام اتخذ السفينة في سنتين من الساج وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين وسمكها ثلاثين ، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحش وفي أوسطها الأنس وفي أعلاها الطير .
وقوله تعالى : { حتى إذا جاء أمرنا } الآية ، الأمر ها هنا يحتمل أن يكون واحد الأمور ، ويحتمل أن يكون مصدر أمر ، فمعناه أمرنا للماء بالفوران ، أو للسحاب بالإرسال ، أو للملائكة بالتصرف في ذلك ، ونحو هذا مما يقدر في النازلة و { فار } معناه انبعث بقوة ؛ واختلف الناس في { التنور } ، فقالت فرقة - وهي الأكثر - منهم ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هو تنور الخبز الذي يوقد فيه ، وقالت فرقة : كانت هذه أمارة جعلها الله لنوح ، أي إذا فار التنور فاركب في السفينة ؛ ويشبه أن يكون وجه الأمارة أن مستوقد النار إذا فار بالماء فغيره أشد فوراناً ، وأحرى بذلك . وروي أنه كان تنور آدم عليه السلام خلص إلى نوح فكان يوقد فيه ، وقال النقاش : اسم المستوقد التنور بكل لغة ؛ وذكر نحو ذلك ابن قتيبة في الأدب عن ابن عباس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، وقيل : إن موضع تنور نوح عليه السلام كان بالهند ، وقيل : كان في موضع مسجد الكوفة ، وقيل كان في ناحية الكوفة ، قاله الشعبي ومجاهد ، وقيل كان في الجهة الغربية من قبلة المسجد بالكوفة ، وقال ابن عباس وعكرمة : التنور وجه الأرض ، ويقال له : تنور الأرض ، وقال قتادة : { التنور } : أعالي الأرض ، وقالت فرقة : { التنور } : عين بناحية الجزيرة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : { التنور } مجتمع ماء السفينة فار منه الماء وهي بعد في اليبس ، وقالت فرقة : { التنور } هو الفجر ، المعنى : إذا طلع الفجر فاركب في السفينة ، وهذا قول روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، إلا أن التصريف يضعفه ، وكان يلزم أن يكون التنور{[6335]} ، وقالت فرقة : الكلام مجاز وإنما إراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لشدة الحرب : «حمي الوطيس »{[6336]} والوطيس أيضاً مستوقد النار ، فلا فرق بين حمي و { فار } إذ يستعملان في النار ، قال الله تعالى : { سمعوا لها شهيقاً وهي تفور }{[6337]} ، فلا فرق بين الوطيس والتنور .
وقرأ حفص عن عاصم «من كلٍّ زوجين اثنين » بتنوين { كل } وقرأ الباقون «من كلِّ زوجين » بإضافة { كل } إلى { زوجين } . فمن قرأ بالتنوين حذف المضاف إليه التقدير : من كل حيوان أو نحوه ، وأعمل «الحمل » في { زوجين } وجاء قوله : { اثنين } تأكيداً - كما قال : { إلهين اثنين }{[6338]} . ومن قرأ بالإضافة فأعمل «الحمل » في قوله { اثنين } ، وجاء قوله { زوجين } بمعنى العموم ، أي من كل ما له ازدواج ، هذا معنى قوله : { من كل زوجين } قاله أبو علي وغيره ، ولو قدرنا المعنى : احمل من كل زوجين حاصلين اثنين لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة ، والزوج يقال في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج ، فيقال : هذا زوج هذا ، وهما زوجان : وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى : { ثمانية أزواج }{[6339]} ثم فسرها ، وكذلك هو في قوله تعالى : { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى }{[6340]} . قال أبو الحسن الأخفش في كتاب الحجة : وقد يقال في كلام العرب للاثنين زوج ، ومن ذلك قول لبيد : [ الكامل ]
من كل محفوف يظل عصيه*** زوج عليه ِكَّلة وقرامها{[6341]}
وهكذا يأخذ العدديون : الزوج أيضاً في كلام العرب النوع كقوله : { وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج }{[6342]} وقوله : { سبحان الذي خلق الأزواج كلها }{[6343]} إلى غير ذلك .
وروي في قصص هذه الآية أن نوحاً عليه السلام كان يأتيه الحيوان ، فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى . وروي أن أول ما أدخل في السفينة الذر ، وآخر ما أدخل الحمار ، فتمسك الشيطان بذنبه ، فزجره نوح عليه السلام فلم ينبعث فقال له : ادخل ولو كان معك الشيطان ، قال ابن عباس : زلت هذه الكلمة من لسانه فدخل الشيطان حينئذ ، وكان في كوثل السفينة ، أي عند مؤخرها ، وقيل كان على ظهرها .
وروي أن نوحاً عليه السلام آذاه نتن الزبل والعذرة ، فأوحى الله إليه : أن امسح على ذنب الفيل ، ففعل ، فخرج من الفيل - وقيل من أنفه - خنزير وخنزيرة ، فكفيا نوحاً وأهله ذلك الأذى ؛ وهذا يجيء منه أن نوع الخنازير لم يكن قبل ذلك . وروي أن الفأر آذى الناس في السفينة بقرض حبالها وغير ذلك ، فأمر الله نوحاً أن يمسح على جبهة الأسد ففعل ، فعطس فخرج منه هر وهرة ، فكفياهم الفأر ، وروي أيضاً أن الفأر خرج من أنف الخنزير .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله قصص لا يصح إلا لو استند ، والله أعلم كيف كان .
وقوله : { وأهلك } عطف على ما عمل فيه { احمل } و «الأهل » هنا القرابة ، وبشرط من آمن منهم ، خصصوا تشريفاً ؛ ثم ذكر { من آمن } وليس من الأهل واختلف في الذي { سبق عليه القول } فقيل : هو ابنه يام ، وقال النقاش : اسمه كنعان ؛ وقيل هي امرأته والعة هكذا اسمها بالعين غير منقوطة ؛ وقيل : هو عموم في من لم يؤمن من أهل نوح وعشيرته . و { القول } ها هنا معناه : القول بأنه يعذب ، وقوله : { ومن آمن } عطف على قوله : { وأهلك } ثم قال إخباراً عن حالهم { وما آمن معه إلا قليل } واختلف في ذلك { القليل } فقيل : كانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة وقيل كان جميعهم ثلاثة وثمانين : وقيل كانوا ثمانين في الكل ، قاله السدي : وقيل : عشرة ؛ وقيل : ثمانية ، قاله قتادة وقيل : سبعة ؛ والله أعلم . وقيل : كان في السفينة جرهم ، وقيل لم ينج من الغرق أحد إلا عوج بن أعنق ، وكان في السفينة مع نوح عليه السلام ثلاثة من بنيه سام ، وحام ، ويافث ، وغرق يام . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «سام أبو العرب ، ويافث أبو الروم ، وحام أبو الحبش » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{حتى إذا جاء أمرنا}، يعني قولنا في نزول العذاب بهم، {وفار التنور}، فار الماء من التنور الذي يخبز فيه... {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين}، يعني صنفين اثنين ذكرا وأنثى، فهو زوجان، ولولا أنه قال: اثنين، لكان الزوجان أربعة، {و} احمل {وأهلك}... في السفينة، {إلا من سبق عليه القول}، يعني العذاب في اللوح المحفوظ من أهلك، يعنى:... فلا تحملهم معك، فاستثنى من أهله ابنه وامرأته. {ومن ءامن}، يعني ومن صدق بتوحيد الله، فاحمله في السفينة. يقول الله تعالى: {وما ءامن معه} مع نوح، {إلا قليل}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"حتى إذَا جاءَ أمْرُنا" يقول: ويصنع نوح الفلك حتى إذا جاء أمرنا الذي وعدناه أن يجيء قومه من الطوفان الذي يغرقهم.
وقوله: "وَفارَ التّنّورُ "اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: انبجس الماء من وجه الأرض، "وفار التنور"، وهو وجه الأرض... عن ابن عباس أنه قال في قوله: "وَفارَ التّنّورُ" قال: التنور: وجه الأرض. قال: قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض، فاركب أنت ومن معك قال: والعرب تسمى وجه الأرض: تنور الأرض...
وقال آخرون: هو تنوير الصبح من قولهم: نوّر الصبح تنويرا... وقال آخرون: معنى ذلك: وفار أعلى الأرض وأشَرفِ مكان فيها بالماء. وقال: التنور أشرف الأرض...
وقال آخرون: هو التنور الذي يختبز فيه... عن ابن عباس، قوله: "حتى إذا جاءَ أمْرُنا وفارَ التّنّورُ" قال: إذا رأيت تنور أهلك يخرج منه الماء فإنه هلاك قومك...
وفوران الماء سَوْرة دفعته، يقال منه: فار الماء يفور فوَرَانا وفَوْرا، وذاك إذا سارت دفعته.
وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله: "التّنّور" قول من قال: هو التنور الذي يخبز فيه، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب، إلا أن تقوم حجة على شيء منه بخلاف ذلك فيسلم لها، وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به لإفهامهم معنى ما خاطبهم به.
"قُلْنَا" لنوح حين جاء عذابنا قومه الذي وعدنا نوحا أن نعذّبهم به، وفار التنور الذي جعلنا فورانه بالماء آية مجيء عذابنا بيننا وبينه لهلاك قومه: "احْمِلْ فِيها" يعني في الفلك "مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ" يقول: من كلّ ذكر وأنثى... عن مجاهد: "مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ" قال: ذكر وأنثى من كلّ صنف...
وقوله: "وأهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ" يقول: واحمل أهلك أيضا في الفلك، يعني بالأهل: ولده ونساءه وأزواجه "إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ" يقول: إلا من قلت فيهم إني مهلكه مع من أهلك من قومك.
ثم اختلفوا في الذي استثناه الله من أهله؛ فقال بعضهم: هو بعض نساء نوح...قال ابن جريج: "وأهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ" قال: العذاب، هي امرأته كانت من الغابرين في العذاب.
وقال آخرون: بل هو ابنه الذي غرق...
وقوله: "وَمَنْ آمَنَ" يقول: واحمل معهم من صدّقك واتبعك من قومك. يقول الله: "وما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ" يقول: وما أقرّ بوحدانية الله مع نوح من قومه إلا قليل.
واختلفوا في عدد الذين كانوا آمنوا معه فحملهم معه في الفلك...
والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله: "وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ" يصفهم بأنهم كانوا قليلاً، ولم يحدد عددهم بمقدار ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح، فلا ينبغي أن يتجاوز في ذلك حد الله، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حد من كتاب الله أو أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(جاء أمرنا) أي جاء وقت أمرنا بالعذاب الذي استعجلوه كقولهم: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) [هود: 32] وكذلك كانت عادة الأمم السالفة استعجال العذاب من رسلهم. سمى العذاب أمر الله لما لا صنع لأحد فيه، وكذلك المرض سماه أمر الله لما لا صنع لأحد من الخلائق فيه، وسمى الصلاة أمر الله لما بأمره يصلى.
(وفار التنور) قال أبو عوسجة: (وفار التنور) يقال إذا فار الماء إذا خرج يفور فورا أي غلى كما تغلي القدر وتصديقه قوله: (وهي تفور...) [الملك: 7و8] قالوا: فار أي خرج، وظهر...
وقوله تعالى: (وما آمن معه إلا قليل) يذكر هذا تذكيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مننه ونعمه التي أنعمها عليه؛ لأن نوحا عليه السلام مع طول مكثه بين أظهر قومه وكثرة دعائه قومه إلى دين الله ومواعظه لم يؤمن إلا القليل منهم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع قلة مكثه وقصر عمره آمن من قومه الكثير؛ يعرفه نعمه عليه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
طال انتظارُهم لِمَا كان يَتَوَعَّدُهم به نوحٌ عليه السلام على وجه الاستبعاد، ولم يَزِدْهُم تطاولُ الأيامٍ إلا كفراً؛ وصَمَّمُوا على عقد تكذيبهم. ثم لمَّا أتاهم الموعودُ إياهم بغتةً، وظهر من الوضع الذي لم يُحِبُّوه فارَ الماءُ من التنور المسجور، وجادت السماءُ بالمطر المعبور.
{قُلْنَا احْمِل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَينِ}: استبقاءً للتناسل...
{إلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيهِ الْقَوْلُ} بالشقاوة. وفيه تعريف بأن حُكْمَ الأَزَل لا يُرَدُّ، والحقُّ -سبحانه- لا يُنَازَعُ، والجبَّارُ لا يُخَاصَمُ، وأن مَنْ أقصاه ربُّه لم يُدْنِه تنبيهٌ ولا بِرٌّ ولا وعظ.
{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قِلِيلٌ} ولكن بَارَكَ الحقُّ -سبحانه- في الذين نجَّاهم من نَسْلِه، ولم يدخل خَللٌ في الكونِ بعد هلاكِ مَنْ أَهْلَك مِنْ قومه...
{حتى إذا جاء أمرنا} يحتمل... أنه تعالى بين أنه لا يحدث شيء إلا بأمر الله تعالى كما قال: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} فكان المراد هذا... معنى {فار}: نبع على قوة وشدة تشبيها بغليان القدر عند قوة النار ولا شبهة في أن نفس التنور لا يفور فالمراد فار الماء من التنور، والذي روي أن فور التنور كان علامة لهلاك القوم لا يمتنع لأن هذه واقعة عظيمة، وقد وعد الله تعالى المؤمنين النجاة فلا بد وأن يجعل لهم علامة بها يعرفون الوقت المعين، فلا يبعد جعل هذه الحالة علامة لحدوث هذه الواقعة...
فإن قيل: الإنسان أشرف من جميع الحيوانات، فما السبب أنه وقع الابتداء بذكر الحيوانات؟
قلنا: الإنسان عاقل وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاك عن نفسه، فلا حاجة فيه إلى المبالغة في الترغيب، بخلاف السعي في تخليص سائر الحيوانات، فلهذا السبب وقع الابتداء به...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{حتى إذا جاء أمرنا} أي وقت إرادتنا لإهلاكهم {وفار} أي غلا وطفح {التنور} وعن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد أنه الحقيقي الذي يخبز فيه، و هذا هو الظاهر فلا يعدل عنه إلا بدليل، لأن صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل عبث كما قاله أهل الأصول {قلنا} بعظمتنا {احمل} ولما كان الله تعالى قد أمره أن يجعل لها غطاء -كما قاله أهل التفسير- لئلا تمتلئ من شدة الأمطار، كانت الظرفية فيها بخلاف غيرها من السفن واضحة فلذلك قال: {فيها} أي السفينة {من كل زوجين} من الحيوانات، والزوج فرد يكون معه آخر لا يكمل نفعه إلا به {اثنين} ذكراً وأنثى {وأهلك} أي احملهم، والأهل: العيال {إلا من سبق} غالباً {عليه القول} بأني أغرقه وهو امرأته وابنه {ومن} أي واحمل فيها من {آمن}... ثم سلى المخاطب بهذه القصص صلى الله عليه وسلم وذكره نعمته بكثرة من اتبعه مع صدعهم بمؤلم الإنذار على قصر الزمان دون نوح عليهم السلام مع تطاول الزمن فقال: {وما} أي والحال أنه ما {آمن} كائناً {معه} أي بإنذاره {إلا قليل} بسبب تقديرنا لا بإغضائهم بما كوفحوا به من الإنذار...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{حتى إذا جاء أمرنا} هذا بيان لابتداء الغاية مما ذكر قبله من الاستعداد لهلاك قوم نوح أي وكان يصنع الفلك كما أمره، ويقابل السخرية بغير ابتئاس ولا ضجر، حتى إذا جاء وقت أمرنا بهلاكهم {وفار التنور} اشتد غضب الله تعالى عليهم. فهو مجاز كحمي الوطيس، أو فار الماء من التنور عند نوح لأنه بدأ ينبع من الأرض. والتنور الذي يخبز فيه الخبز معروف عند العرب...
والفور والفوران ضرب من الحركة والارتفاع القوي يقال في الماء إذا نبغ وجرى، وإذا غلا وارتفع، قال في الأساس: فارت القدر، وفارت فوارتها، وعين فوارة في أرض خوارة، وفار الماء من العين. ومن المجاز: فار الغضب، وأخاف أن تفور علي، وقال ذلك في فورة الغضب اه.
وقال الراغب في مفردات القرآن: الفور شدة الغليان ويقال ذلك في النار نفسها إذا هاجت وفي القدر وفي الغضب، نحو {وهي تفور} [الملك: 7] {وفار التنور} اه. والمتبادر من فوران التنور هنا اشتداد غضب الله تعالى على أولئك المشركين الظالمين لأنفسهم وللناس وحلول وقت انتقامه منهم...
{قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين}... أي حتى إذا جاء موعد أمرنا قلنا لنوح حينئذ احمل فيها أي في الفلك وهو السفينة من كل زوج اثنين ذكرا وأنثى. والتقدير على قراءة حفص: احمل فيها من كل نوع من الأحياء فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض {وأهلك إلا من سبق عليه القول} أي واحمل فيها أهل بيتك ذكورا وإناثا وأهل بيت الرجل عند الإطلاق نساؤه وأولاده وأزواجهم، والظاهر أن المستثنى منهم كفارهم إن كان فيهم كفار لأنهم يدخلون في عموم قوله: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا أنهم مغرقون} وإلا كان المستثنى ولده الذي ستذكر قصته قريبا {ومن آمن} معك من قومك {وما آمن معه إلا قليل} منهم، ولم يبين لنا الله تعالى ولا رسوله عددهم، فكل ما قاله المفسرون فيهم مردود لا دليل عليه كما قال ابن جرير الطبري، كما أنه لم يبين لنا أنواع الحيوانات التي حملها ولا كيف جمعها وأدخلها السفينة، وهي مفصلة في سفر التكوين، وللمفسرين فيها إسرائيليات مضحكة تخالفها، لا ينبغي تضييع شيء من العمر في نقلها وإشغال القراء بها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم مشهد التعبئة عندما حلت اللحظة المرتقبة:
(حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور، قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين، وأهلك -إلا من سبق عليه القول- ومن آمن، وما آمن معه إلا قليل. وقال: اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم).
وتتفرق الأقوال حول فوران التنور، ويذهب الخيال ببعضها بعيدا، وتبدو رائحة الإسرائيليات فيها وفي قصة الطوفان كلها واضحة. أما نحن فلا نضرب في متاهة بغير دليل، في هذا الغيب الذي لا نعلم منه إلا ما يقدمه لنا النص، وفي حدود مدلوله بلا زيادة.
وأقصى ما نملك أن نقوله: إن فوران التنور -والتنور الموقد- قد يكون بعين فارت فيه، أو بفوارة بركانية. وأن هذا الفوران ربما كان علامة من الله لنوح، أو كان مصاحبا مجرد مصاحبة لمجيء الأمر، وبدءا لنفاذ هذا الأمر بفوران الأرض بالماء. وسح الوابل من السماء.
لما حدث هذا (قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين...) كأن نظام العملية كان يقتضي أن يؤمر نوح بمراحلها واحدة واحدة في حينها. فقد أمر أولا بصنع الفلك فصنعه، ولم يذكر لنا السياق الغرض من صنعه، ولم يذكر أنه أطلع نوحا على هذا الغرض كذلك. (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور).. أمر بالمرحلة التالية.
(قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين، وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن)..
ومرة أخرى تتفرق الأقوال حول (من كل زوجين اثنين) وتشيع في الجو رائحة الإسرائيليات قوية. أما نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا ويشتط حول النص: (احمل فيها من كل زوجين اثنين).. مما يملك نوح أن يمسك وأن يستصحب من الأحياء. وما وراء ذلك خبط عشواء..
(وأهلك -إلا من سبق عليه القول -)..