تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

{ 41 - 44 } { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }

كان الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على الخلق يشتد حزنه لمن يظهر الإيمان ، ثم يرجع إلى الكفر ، فأرشده الله تعالى ، إلى أنه لا يأسى ولا يحزن على أمثال هؤلاء . فإن هؤلاء لا في العير ولا في النفير . إن حضروا لم ينفعوا ، وإن غابوا لم يفقدوا ، ولهذا قال مبينا للسبب الموجب لعدم الحزن عليهم - فقال : { مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } فإن الذين{[264]}  يؤسى ويحزن عليهم ، من كان معدودا من المؤمنين ، وهم المؤمنون ظاهرا وباطنا ، وحاشا لله أن يرجع هؤلاء عن دينهم ويرتدوا ، فإن الإيمان -إذا خالطت بشاشته القلوب- لم يعدل به صاحبه غيره ، ولم يبغ به بدلا .

{ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أي : اليهود { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي : مستجيبون ومقلدون لرؤسائهم ، المبني أمرهم على الكذب والضلال والغي . وهؤلاء الرؤساء المتبعون { لَمْ يَأْتُوكَ } بل أعرضوا عنك ، وفرحوا بما عندهم من الباطل وهو تحريف الكلم عن مواضعه ، أي : جلب معان للألفاظ ما أرادها الله ولا قصدها ، لإضلال الخلق ولدفع الحق ، فهؤلاء المنقادون للدعاة إلى الضلال ، المتبعين للمحال ، الذين يأتون بكل كذب ، لا عقول لهم ولا همم . فلا تبال أيضا إذا لم يتبعوك ، لأنهم في غاية النقص ، والناقص لا يؤبه له ولا يبالى به .

{ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } أي : هذا قولهم عند محاكمتهم إليك ، لا قصد لهم إلا اتباع الهوى .

يقول بعضهم لبعض : إن حكم لكم محمد بهذا الحكم الذي يوافق أهواءكم ، فاقبلوا حكمه ، وإن لم يحكم لكم به ، فاحذروا أن تتابعوه على ذلك ، وهذا فتنة واتباع ما تهوى الأنفس .

{ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } كقوله تعالى : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } أي : فلذلك صدر منهم ما صدر . فدل ذلك على أن من كان مقصوده بالتحاكم إلى الحكم الشرعي اتباع هواه ، وأنه إن حكم له رضي ، وإن لم يحكم له سخط ، فإن ذلك من عدم طهارة قلبه ، كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع ورضي به ، وافق هواه أو خالفه ، فإنه من طهارة القلب ، ودل على أن طهارة القلب ، سبب لكل خير ، وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد وعمل سديد .

{ لَهُم فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } أي : فضيحة وعار { وَلَهُم فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } هو : النار وسخط الجبار .


[264]:- كذا في ب، وفي أ: الذي.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

41

( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من الذين قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ومن الذين هادوا . . سماعون للكذب ، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ، يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا . ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً . أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم . لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخره عذاب عظيم . سماعون للكذب ، أكالون للسحت . فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط . إن الله يحب المقسطين . وكيف يحكمونك - وعندهم التوراه فيها حكم الله - ثم يتولون من بعد ذلك ؟ وما أولئك بالمؤمنين ) . .

هذه الآيات تشي بأنها مما نزل في السنوات الأولى للهجرة ؛ حيث كان اليهود ما يزالون بالمدينه - أي قبل غزوة الأحزاب على الأقل وقبل التنكيل ببني قريظه إن لم يكن قبل ذلك ، أيام أن كان هناك بنو النضير وبنو قينقاع ، وأولاهما أجليت بعد أحد والثانيه أجليت قبلها - ففي هذه الفترة كان اليهود يقومون بمناوراتهم هذه ؛ وكان المنافقون يأرزون إليهم كما تأرز الحيه إلى الجحر ! وكان هؤلاء وهؤلاء يسارعون في الكفر ؛ ولو قال المنافقون بأفواههم : آمنا . . وكان فعلهم هذا يحزن الرسول [ ص ] ويؤذيه . .

والله - سبحانه - يعزي رسوله [ ص ] ويواسيه ؛ ويهون عليه فعال القوم ، ويكشف للجماعه المسلمه حقيقة المسارعين في الكفر من هؤلاء وهؤلاء ؛ ويوجه الرسول [ ص ] إلى المنهج الذي يسلكه معهم حين يأتون إليه متحاكمين ؛ بعد ما يكشف له عما تآمروا عليه قبل أن يأتوا إليه وما بيتوه : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، من الذين قالوا : آمنا ، بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ومن الذين هادوا . . سماعون للكذب ، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك . يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا . . . )

روي أن هذه الآيات نزلت في قوم من اليهود ارتكبوا جرائم - تختلف الروايات في تحديدها - منها الزنا ومنها السرقه . . وهي من جرائم الحدود في التوراة ؛ ولكن القوم كانوا قد اصطلحوا على غيرها ؛ لأنهم لم يريدوا أن يطبقوها على الشرفاء فيهم في مبدأ الأمر . ثم تهاونوا فيها بالقياس إلى الجميع ، وأحلوا محلها عقوبات أخرى من عقوبات التعازير [ كما صنع الذين يزعمون أنهم مسلمون في هذا الزمان ! ] . . فلما وقعت منهم هذه الجرائم في عهد الرسول [ ص ] تآمروا على أن يستفتوه فيها . . فإذا أفتى لهم بالعقوبات التعزيريه المخففه عملوا بها ، وكانت هذه حجه لهم عند الله . . فقد أفتاهم بها رسول ! . . وإن حكم فيها بمثل ما عندهم في التوراة لم يأخذوا بحكمه . . فدسوا بعضهم يستفتيه . . ومن هنا حكاية قولهم :

( إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه فاحذروا ) . .

وهكذا بلغ منهم العبث ، وبلغ منهم الاستهتار ، وبلغ منهم الالتواء أيضاً في التعامل مع الله والتعامل مع رسول الله [ ص ] هذا المبلغ . . وهي صورة تمثل أهل كل كتاب حين يطول عليهم الأمد ، فتقسو قلوبهم ؛ وتبرد فيها حرارة العقيده ، وتنطفى ء شعلتها ؛ ويصبح التفصي من هذه العقيده وشرائعها وتكاليفها هو الهدف الذي يبحث له عن الوسائل ؛ ويبحث له عن " الفتاوي " لعلها تجد مخرجاً وحيله ؛ أليس الشأن كذلك اليوم بين الذين يقولون : إنهم مسلمون : ( من الذين قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ) !

أليسوا يتلمسون الفتوى للاحتيال على الدين لا لتنفيذ الدين ؟ أليسوا يتمسحون بالدين احياناً لكي يقر لهم أهواءهم ويوقع بالموافقه عليها ! فأما إن قال الدين كلمة الحق وحكم الحق فلا حاجة بهم إليه . . ( يقولون : إن أوتيتم هذا فخذوه ؛ وإن لم تؤتوه فاحذروا ) إنه الحال نفسه . ولعله لهذا كان الله - سبحانه _يقص قصة بني إسرائيل بهذا الإسهاب وهذا التفصيل ، لتحذر منها أجيال " المسلمين " وينتبه الواعون منها لمزالق الطريق .

والله سبحانه - يقول لرسوله في شأن هؤلاء المسارعين بالكفر ، وفي شأن هؤلاء المتآمرين المبيتين لهذه الألاعيب : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر . فهم يسلكون سبيل الفتنه ، وهم واقعون فيها ، وليس لك من الأمر شيء ، وما أنت بمستطيع أن تدفع عنهم الفتنه وقد سلكوا طريقها ولجوا فيها : ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً )

وهؤلاء دنست قلوبهم ، فلم يرد الله أن يطهرها ، وأصحابها يلجون في الدنس : ( أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ) . .

وسيجزيهم بالخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخره : ( لهم في الدنيا خزي ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) . .

فلا عليك منهم ، ولا يحزنك كفرهم ، ولا تحفل بأمرهم . فهو أمر مقضي فيه . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

41

{ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ } أي : أظهروا الإيمان بألسنتهم ، وقلوبهم خراب خاوية منه ، وهؤلاء هم المنافقون . { وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أعداء الإسلام وأهله . وهؤلاء كلهم { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي : يستجيبون{[9833]} له ، منفعلون عنه { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي : يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون{[9834]} مجلسك يا محمد . وقيل : المراد أنهم يتسمعون الكلام ، ويُنْهُونه إلى أقوام آخرين ممن لا يحضر عندك ، من أعدائك { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ }{[9835]} أي : يتأولونه على غير تأويله ، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا }

قيل : نزلت في أقوام من اليهود ، قتلوا قتيلا وقالوا : تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد ، فإن أفتانا بالدية فخذوا ما قال ، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه .

والصحيح أنها نزلت في اليهوديَّيْن{[9836]} اللذين زنيا ، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، من الأمر برجم من أحْصن منهم ، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين . فلما وقعت تلك الكائنة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه ، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه ، واجعلوه حجة بينكم وبين الله ، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .

وقد وردت الأحاديث بذلك ، فقال مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أنه قال : أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ " فقالوا : نفضحهم ويُجْلَدون . قال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن فيها الرجم . فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ{[9837]} ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا{[9838]} صدق{[9839]} يا محمد ، فيها آية الرجم ! فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما{[9840]} فرأيت الرجل يَحْني على المرأة يقيها الحجارة .

وأخرجاه{[9841]} وهذا لفظ البخاري . وفي لفظ له : " فقال لليهود : ما تصنعون بهما ؟ " قالوا : نُسخّم وجوههما ونُخْزِيهما . قال : { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عمران : 93 ] فجاءوا ، فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعورَ : اقرأ ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه ، قال : ارفع يدك . فرفع ، فإذا آية الرجم تلوح ، قال : يا محمد ، إن فيها آية الرجم ، ولكنا نتكاتمه بيننا . فأمر بهما فَرُجما . {[9842]}

وعند مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يَهُود ، فقال : " ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ " قالوا : نُسَوّد وجوههما ونُحَمّلهما ، ونخالف بين وجوههما ويُطَاف بهما ، قال : { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال : فجاءوا بها ، فقرأوها ، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم ، وقرأ ما بين يديها وما وراءها . فقال له عبد الله بن سَلام - وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - : مُرْه فلْيرفع يده . فرفع يده ، فإذا تحتها آيةُ الرجم . فأمر بهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَرُجما . قال عبد الله بن عمر : كنت فيمن رجمهما ، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه . {[9843]}

وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن سعيد الهَمْداني ، حدثنا ابن وَهْب ، حدثنا هشام بن سعد ؛ أن زيد بن أسلم حَدثه ، عن ابن عمر قال : أتَى نفر من اليهود ، فدعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القُفِّ فأتاهم في بيت المِدْارس ، فقالوا : يا أبا القاسم ، إن رجلا منا زنى بامرأة ، فاحكم قال : ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة ، فجلس عليها ، ثم قال : " ائتوني بالتوراة " . فأتي بها ، فنزع الوسادة من تحته ، ووضع التوراة عليها ، وقال : " آمنت بك وبمن أنزلك " . ثم قال : " ائتوني بأعلمكم " . فأتي بفتى شاب ، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع . {[9844]}

وقال الزهري : سمعت رجلا من مُزَيْنَة ، ممن يتبع العلم ويعيه ، ونحن عند ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : زنى رجل من اليهود بامرأة ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا إلى هذا النبي ، فإنه بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا بفُتْيا دون الرجم قبلناها ، واحتججنا بها عند الله ، قلنا : فتيا نبي من أنبيائك ، قال : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مِدْارسهم ، فقام على الباب فقال : " أنْشُدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحْصنَ ؟ قالوا : يُحَمَّم ، ويُجبَّه ويجلد . والتجبية : أن يحمل الزانيان على حمار ، وتقابل أقفيتهما ، ويطاف بهما . قال : وسكت شاب منهم ، فلما رآه رسول الله{[9845]} صلى الله عليه وسلم سكت ، ألَظَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّشْدة ، فقال : اللهم إذ نشدتنا ، فإنا نجد في التوراة الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فما أول ما ارتخصتم أمر الله ؟ " قال : زنى ذُو قرابة من ملك من ملوكنا ، فأخَّر عنه الرجم ، ثم زنى رجل في إثره من الناس ، فأراد رجمه ، فحال قومه دونه وقالوا : لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه ! فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فإني أحكم بما في التوراة " فأمر بهما فرجما . قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم : { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم .

رواه أحمد ، وأبو داود - وهذا لفظه - وابن جرير{[9846]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن مُرّة ، عن البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمَّم مجلود ، فدعاهم فقال : " أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ " فقالوا : نعم ، فدعا رجلا من علمائهم فقال : " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حَدَّ الزاني في كتابكم ؟ " فقال : لا والله ، ولولا أنك نَشَدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريفَ تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئًا نقيمه على الشريف والوَضِيع ، فاجتمعنا على التحميم والجلد . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " . قال : فأمر به فرجم ، قال : فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } إلى قوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ } يقولون : ائتوا محمدًا ، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، إلى قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال : في اليهود إلى قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } قال : في اليهود{[9847]} { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } قال : في الكفار كلها .

انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من غير وجه ، عن الأعمش ، به . {[9848]}

وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحُمَيدي في مسنده : حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة ، عن مُجالد بن{[9849]} سعيد الهَمْدَاني ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله قال : زنى رجل من أهل فَدَك ، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدًا عن ذلك ، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه ، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه ، تسألوه عن ذلك ، قال : " أرسلوا إليّ أعلم رجلين فيكم " . فجاءوا برجل أعور - يقال له : ابن صوريا - وآخر ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " أنتما أعلم من قبلكما ؟ " . فقالا قد دعانا قومنا لذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما : " أليس عندكما التوراة فيها حكم الله ؟ " قالا بلى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فأنشدكم بالذي فَلَق البحر لبني إسرائيل ، وظَلّل عليكم الغَمام ، وأنجاكم من آل فرعون ، وأنزل المن والسَّلْوى على بني إسرائيل : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ " فقال أحدهما للآخر : ما نُشدْتُ بمثله قط . قالا نجد ترداد النظر زنية والاعتناق زنية ، والقبل زنية ، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد ، كما يدخل الميل في المُكْحُلة ، فقد وجب الرجم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هو ذاك " . فأمر به فَرُجمَ ، فنزلت : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }{[9850]}

ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث مُجالد ، به{[9851]} نحوه . ولفظ أبي داود عن جابر قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا ، فقال : " ائتوني بأعلم رجلين منكم " . فأتوا بابني صوريا ، فنشدهما : " كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟ " قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المُكْحُلة رجما ، قال : " فما يمنعكم أن ترجموهما ؟ " قالا ذهب سلطاننا ، فكرهنا القتل . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود ، فجاءوا أربعة ، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما .

ثم رواه أبو داود ، عن الشعبي وإبراهيم النَّخَعِي ، مرسلا{[9852]} ولم يذكر فيه : " فدعا بالشهود{[9853]} فشهدوا " .

فهذه أحاديث{[9854]} دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة ، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته ؛ لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله ، عز وجل{[9855]} إليه بذلك ، وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم ، مما تراضوا{[9856]} على كتمانه وجحده ، وعدم العمل{[9857]} به تلك الدهور الطويلة فلما اعترفوا به مع عَملهم{[9858]} على خلافه ، بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم ، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به لهذا قالوا{[9859]} { إِنْ }{[9860]} أُوتِيتُمْ هَذَا والتحميم { فَخُذُوهُ } أي : اقبلوه { وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } أي : من قبوله واتباعه .

قال الله تعالى : { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

/خ44


[9833]:في د، أ: "مستجيبون".
[9834]:في أ: "لم يأتون" وهو خطأ؛ لأن الفعل مجزوم.
[9835]:في أ: "من بعض" وهو خطأ.
[9836]:في أ: "في اليهود".
[9837]:في ر: "فقال".
[9838]:في ر، أ: "قالوا".
[9839]:في أ: "صدقت".
[9840]:في ر: "فرجمهما".
[9841]:الموطأ (2/819) وصحيح البخاري برقم (3635، 6841) وصحيح مسلم برقم (1699).
[9842]:صحيح البخاري برقم (7543).
[9843]:صحيح مسلم برقم (1699).
[9844]:سنن أبي داود برقم (4449).
[9845]:في أ: "النبي".
[9846]:المسند برقم (7747) ط (شاكر) وسنن أبي داود برقم (4450) وتفسير الطبري (10/305) وانظر: حاشية العلامة أحمد شاكر على المسند.
[9847]:في أ: "النصارى".
[9848]:صحيح مسلم برقم (1700) وسنن أبي داود برقم (4448) وسنن النسائي الكبرى برقم (7218) وسنن ابن ماجة برقم (2558).
[9849]:في ر: "عن".
[9850]:مسند الحميدي (2/541).
[9851]:سنن أبي داود برقم (4452) وسنن ابن ماجة برقم (2328).
[9852]:سنن أبي داود برقم (4453).
[9853]:في ر: "الشهود".
[9854]:في أ: "الأحاديث".
[9855]:في أ: "الله تعالى".
[9856]:في ر: "تواصوا".
[9857]:في ر: "العلم".
[9858]:في ر: "علمهم".
[9859]:في ر: "قال".
[9860]:في ر: "وإن".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ يَقُولُونَ إِنۡ أُوتِيتُمۡ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمۡ تُؤۡتَوۡهُ فَٱحۡذَرُواْۚ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (41)

{ يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } أي صنيع الذين يقعون في الكفر سريعا أي في إظهاره إذا وجدوا منه فرصة . { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } أي من المنافقين والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا والواو تحتمل الحال والعطف . { ومن الذين هادوا } عطف على { من الذين قالوا } { سماعون للكذب } خبر محذوف أي هم سماعون ، والضمير للفريقين ، أو للذين يسارعون ويجوز أن يكون مبتدأ ومن الذين خبره أي ومن اليهود قوم سماعون واللام في للكذب ، إما مزيدة للتأكيد أو لتضمين السماع معنى القبول أي ؛ قابلون لما تفتريه الأحبار ، أو للعلة والمفعول محذوف أي : سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه . { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } أي لجمع آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنك تكبرا وإفراطا في البغضاء ، والمعنى على الوجهين أي مصغون لهم قابلون كلامهم ، أو سماعون منك لأجلهم والإنهاء إليهم ، ويجوز أن تتعلق اللام بالكذب لأن سماعون الثاني مكرر للتأكيد أي : سماعون ليكذبوا لقوم آخرين : { يحرفون الكلم من بعد مواضعه } أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها ، إما لفظا : بإهماله أو تغيير وضعه ، وإما معنى : بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده ، والجملة صفة أخرى لقوم أو صفة لسماعون أو حال من الضمير فيه أو استئناف لا موضع له ، أو في موضع الرفع خبرا لمحذوف أي هم يحرفون وكذلك { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } أي إن أوتيتم هذا المحرف فاقبلوه واعملوا به . { وإن لم تؤتوه } بل أفتاكم محمد بخلافه { فاحذروا } أي احذروا قبول ما أفتاكم به . روي ( أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وكانا محصنين فكرهوا رجمهما ، فأرسلوهما مع رهط منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وقالوا : إن أمركم بالجلد والتحميم فأقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا ، فأمرهم بالرجم فأبوا عنه ، فجعل ابن صوريا حكما بينه وبينهم ، وقال له : أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ، ورفع فوقكم الطور ، وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن ، قال : نعم فوثبوا عليه فقال : خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب المسجد ) . { ومن يرد الله فتنته } ضلالته أو فضيحته . { فلن تملك له من الله شيئا } فلن تستطيع له من الله شيئا في دفعها . { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } من الكفر وهو كما ترى نص على فساد قول المعتزلة . { لهم في الدنيا خزي } هو أن بالجزية والخوف من المؤمنين { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وهو الخلود في النار ، والضمير للذين هادوا إن استأنفت بقوله ومن الذين وإلا فللفريقين .