ولما بين كثيرا من الأوامر الكبار ، والشرائع المهمة ، أشار إليها وإلى ما هو أعم منها فقال : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا } أي : هذه الأحكام وما أشبهها ، مما بينه الله في كتابه ، ووضحه لعباده ، صراط الله الموصل إليه ، وإلى دار كرامته ، المعتدل السهل المختصر .
{ فَاتَّبِعُوهُ } لتنالوا الفوز والفلاح ، وتدركوا الآمال والأفراح . { وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } أي : الطرق المخالفة لهذا الطريق { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } أي : تضلكم عنه وتفرقكم يمينا وشمالا ، فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم ، فليس ثم إلا طرق توصل إلى الجحيم .
{ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإنكم إذا قمتم بما بينه الله لكم علما وعملا صرتم من المتقين ، وعباد الله المفلحين ، ووحد الصراط وأضافه إليه لأنه سبيل واحد موصل إليه ، والله هو المعين للسالكين على سلوكه .
هذه القواعد الأساسية الواضحة التي تكاد تلخص العقيدة الإسلامية وشريعتها الاجتماعية مبدوءة بتوحيد الله ومختومة بعهد الله ، وما سبقها من حديث الحاكمية والتشريع . . . هذه هي صراط الله المستقيم . . صراطه الذي ليس وراءه إلا السبل المتفرقة عن السبيل :
( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) . .
وهكذا يختم القطاع الطويل من السورة الذي بدأ بقوله تعالى :
( أفغير الله أبتغي حكماً ، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً ) . .
وانتهى هذه النهاية ، بهذا الإيقاع العريض العميق . .
وضم بين المطلع والختام قضية الحاكمية والتشريع ، كما تبدو في مسألة الزروع والأنعام ، والذبائح والنذور ، إلى كل القضايا العقيدية الأساسية ، ليدل على أنها من هذه القضايا . التي أفرد لها السياق القرآني كل هذه المساحة ؛ وربطها بكل محتويات السورة السابقة التي تتحدث عن العقيدة في محيطها الشامل ؛ وتتناول قضية الألوهية والعبودية ذلك التناول الفريد .
إنه صراط واحد - صراط الله - وسبيل واحدة تؤدي إلى الله . . أن يفرد الناس الله - سبحانه - بالربوبية ، ويدينوا له وحده بالعبودية ؛ وأن يعلموا أن الحاكمية لله وحده ؛ وأن يدينوا لهذه الحاكمية في حياتهم الواقعية . .
هذا هو صراط الله ؛ وهذا هو سبيله . . وليس وراءه إلا السبل التي تتفرق بمن يسلكونها عن سبيله .
( ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) . .
فالتقوى هي مناط الاعتقاد والعمل . والتقوى هي التي تفيء بالقلوب إلى السبيل . .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وقوله { أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] ، ونحو هذا في القرآن ، قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة{[11385]} ، وأخبرهم أنه إنما{[11386]} هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ونحو هذا . قاله{[11387]} مجاهد ، وغير واحد .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا الأسود بن عامر : شاذان ، حدثنا أبو بكر - هو ابن عياش - عن عاصم - هو ابن أبي النجود - عن أبي وائل ، عن عبد الله - هو ابن مسعود ، رضي الله عنه - قال : خَطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا بيده ، ثم قال : " هذا سَبِيل الله مستقيما " . وخط على يمينه وشماله ، ثم قال : " هذه السُّبُل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه " . ثم قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }
وكذا رواه الحاكم ، عن الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار ، عن أبي بكر بن عياش ، به . وقال : صحيح [ الإسناد ]{[11388]} ولم يخرجاه{[11389]} .
وهكذا رواه أبو جعفر الرازي ، وورقاء وعمرو بن أبي قيس ، عن عاصم ، عن أبي وائل شقيق ابن سلمة ، عن ابن مسعود به مرفوعا نحوه .
وكذا رواه يزيد بن هارون ومُسدَّد والنسائي ، عن يحيى بن حبيب بن عربي - وابن حِبَّان ، من حديث ابن وَهْب - أربعتهم عن حماد بن زيد ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، به .
وكذا رواه ابن جرير ، عن المثنى ، عن الحِمَّاني ، عن حماد بن زيد ، به .
ورواه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق ، عن إسماعيل بن إسحاق القاضي ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، به كذلك . وقال : صحيح ولم يخرجاه{[11390]} .
وقد روى هذا الحديث النسائي والحاكم ، من حديث أحمد بن عبد الله بن يونس ، عن أبي بكر ابن عياش ، عن عاصم ، عن زِرٍّ ، عن عبد الله بن مسعود . به مرفوعا{[11391]} .
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه من حديث يحيى الحماني ، عن أبي بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن زِرٍّ ، به .
فقد صححه الحاكم كما رأيت من الطريقين ، ولعل هذا الحديث عند عاصم بن أبي النجود ، عن زر ، وعن أبي وائل شقيق بن سلمة كلاهما عن ابن مسعود ، به ، والله أعلم .
قال الحاكم : وشاهد هذا الحديث حديث الشعبي عن جابر ، من وجه غير معتمد{[11392]} .
يشير إلى الحديث الذي قال الإمام أحمد ، وعبد بن حميد جميعا - واللفظ لأحمد : حدثنا عبد الله بن محمد - وهو أبو بكر بن أبي شيبة - أنبأنا أبو خالد الأحمر ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فخط خطًا هكذا أمامه ، فقال : " هذا سبيل الله " . وخطين عن يمينه ، وخطين عن شماله ، وقال : " هذه سبيل{[11393]} الشيطان " . ثم وضع يده في الخط الأوسط ، ثم تلا هذه الآية : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
ورواه ابن ماجه في كتاب السنة من سننه ، والبزار عن أبي سعيد بن عبد الله بن سعيد ، عن أبي خالد الأحمر ، به{[11394]} .
قلت : ورواه الحافظ ابن مَرْدُوَيه من طريقين ، عن أبي سعيد الكندي ، حدثنا أبو خالد ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا ، وخط عن يمينه خطًّا ، وخط عن يساره خطا ، ووضع يده على الخط الأوسط{[11395]} وتلا هذه الآية : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ }{[11396]} .
ولكن العمدة على حديث ابن مسعود ، مع ما فيه من الاختلاف إن كان مؤثرًا ، وقد روي موقوفا عليه .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور ، عن مَعْمَر ، عن أبَان ؛ أن رجلا قال لابن مسعود : ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جَوَادّ ، وعن يساره جَوَادّ ، وثمّ رجال يدعون من مر بهم . فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار ، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة . ثم قرأ ابن مسعود : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } الآية{[11397]} .
وقال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا أبو عمرو ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا إسماعيل ابن عَيَّاش ، حدثنا أبان بن عياش ، عن مسلم بن أبي عمران ، عن عبد الله بن عمر : سأل عبد الله عن الصراط المستقيم ، فقال [ له ]{[11398]} ابن مسعود : تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وذكر تمام الحديث كما تقدم ، والله أعلم .
وقد روي من حديث النوّاس بن سمْعان نحوه ، قال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن سَوَّار أبو العلاء ، حدثنا لَيْث - يعني ابن سعد - عن معاوية بن صالح ؛ أن عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نفير حدثه ، عن أبيه ، عن النواس بن سمعان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ضرب الله مثلا صِراطًا مستقيمًا ، وعن جَنْبتَي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : أيها{[11399]} الناس ، ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ، ولا تتفرجوا{[11400]} وداع يدعو من جوف{[11401]} الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك . لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم " .
ورواه الترمذي والنسائي ، عن{[11402]} علي بن حُجْر - زاد النسائي - وعمرو بن عثمان ، كلاهما عن بَقِيَّة بن الوليد ، عن بَحير بن سعد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن جُبَير بن نفير ، عن النوّاس بن سمْعان ، به{[11403]} . وقال الترمذي : حسن غريب .
وقوله : { فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ] }{[11404]} إنما وحد [ سبحانه ]{[11405]} سَبيله لأن{[11406]} الحق واحد ؛ ولهذا جمع لتفرقها وتشعبها ، كما قال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 257 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيكم يبايعني على هذه{[11407]} الآيات الثلاث ؟ " . ثم تلا { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } حتى فرغ من ثلاث الآيات ، ثم قال : " ومن وَفَّى بهن أجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئا أدركه{[11408]} الله في الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخَّرَه إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذه ، وإن شاء عفا عنه " {[11409]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنّ هََذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وهذا الذي وصاكم به ربكم أيها الناس في هاتين الاَيتين من قوله : قُلْ تَعَالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ وأمركم بالوفاء به ، هو صراطه ، يعني طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده . مُسْتَقِيما يعني : قويما لا اعوجاج به عن الحقّ . فاتّبِعُوهُ يقول : فاعملوا به ، واجعلوه لأنفسكم منهاجا تسلكونه فاتبعوه . وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ يقول : ولا تسلكوا طريقا سواه ، ولا تركبوا منهجا غيره ، ولا تبغوا دينا خلافه من اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان وغير ذلك من الملل ، فإنها بدع وضلالات . فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ يقول : فيشتت بكم إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل ولا طلاق ولا أديان ، اتباعكم عن سبيله ، يعني : عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه ، وهو الإسلام الذي وصّى به الأنبياء وأمر به الأمم قبلكم . ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ يقول تعالى ذكره : هذا الذي وصاكم به ربكم من قوله لكم : إنّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيما فاتّبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ وصاكم به لعلكم تتقون ، يقول : لتتقوا الله في أنفسكم فلا تهلكوها ، وتحذروا ربكم فيها فلا تسخطوه عليها فيحلّ بكم نقمته وعذابه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ قال : البدع والشبهات .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ : البدع والشبهات .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : فاتّبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، وقوله : وأقِيمُوا الدّينَ وَلا تَتَفَرّقُوا فِيهِ ونحو هذا في القرآن ، قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ولاَ تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ يقول : لا تتبعوا الضلالات .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا حماد ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، قال : خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطّا ، فقال : «هَذَا سَبِيلُ اللّهِ » ثم خطّ عن يمين ذلك الخطّ وعن شماله خطوطا ، فقال : «هَذِهِ سُبُلٌ على كُلّ سَبِيلٍ مِنْها شَيْطَانٌ يَدْعُوا إلَيْها » . ثم قرأ هذه الاَية : وأنّ هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيما فاتّبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَأنّ هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيما فاتّبِعُوهُ وَلا تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ : الإسلام ، وصراطه : الإسلام . نهاهم أن يتبعوا السبل سواه ، فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ : عن الإسلام .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبان : أن رجلاً قال لابن مسعود : ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جوادّ ، وعن يساره جوادّ ، وثمّ رجال يدعون من مرّ بهم ، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار ، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة . ثم قرأ ابن مسعود : وَأن هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيما . . . الاَية .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَأنّ هَذَا صِرَاطي مُسْتَقِيما فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : وأنّ بفتح الألف من «أن ، وتشديد النون ، ردّا على قوله : أنْ لا تُشْركُوا بِهِ شَيْئا بمعنى : قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا ، وأن هذا صراطي مستقيما . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : «وَإنّ » بكسر الألف من «إن » ، وتشديد النون منها على الابتداء وانقطاعها عن الأول ، إذ كان الكلام قد انتهى بالخبر عن الوصية التي أوصى الله بها عباده دونه عندهم .
والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان مستفيضتان في قرّاء الأمصار وعوامّ المسلمين صحيح معنياهما ، فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فهو مصيب الحقّ في قراءته . وذلك أن الله تعالى ذكره قد أمر باتباع سبيله ، كما أمر عباده بالأشياء . وإن أدخل ذلك مدخل فيما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين : تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ وما أمركم به ، ففتح على ذلك «أن » فمصيب . وإن كسرها إذ كانت «التلاوة » قولاً وإن كان بغير لفظ القول لبعدها من قوله : «أتل » ، وهو يريد إعمال ذلك فيه فمصيب . وإن كسرها بمعنى ابتداء وانقطاع عن الأوّل «والتلاوة » ، وأن ما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بتلاوته على من أمر بتلاوة ذلك عليهم قد انتهى دون ذلك ، فمصيب . وقد قرأ ذلك عبد الله بن أبي إسحاق البصريّ : «وأنْ » بفتح الألف من «أن » ، وتخفيف النون منها ، بمعنى : قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا ، وأن هذا صراطي فخففها إذ كانت «أن » في قوله : أنْ لا تُشْركُوا بِهِ شَيْئا مخففة ، وكانت «أن » في قوله : وأنّ هَذَا صِرَاطي معطوفة عليها ، فجعلها نظيرة ما عطفت عليه . وذلك وإن كان مذهبا ، فلا أحبّ القراءة به لشذوذها عن قراءة قرّاء الأمصار وخلاف ما هم عليه في أمصارهم .
الإشارة هي إلى الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بجملته ، وقال الطبري : الإشارة هي إلى هذه الوصايا التي تقدمت من قوله { قل تعالوا أتل } [ الأنعام : 151 ] قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو «وأنّ هذا » بفتح الهمزة وتشديد النون «صراطي » ساكن الياء وقرأ حمزة والكسائي «وإنّ » بكسر الألف وتشديد النون ، وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق وابن عامر من السبعة «وأنْ » بفتح الهمزة وسكون النون «صراطيَ » مفتوح الياء ، فأما من فتح الألف فالمعنى عنده كأنه قال : ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه{[5156]} ، أي اتبعوه لكونه كذا ، وتكون الواو على هذا إنما عطفت جملة ، ويصح غير هذا أن يعطف على { أن لا تشركوا } وكأن المحرم من هذا إتباع السبيل والتنكيب عن الصراط الأقوم ، ومن قرأ بتخفيف النون عطف على قوله { أن لا تشركوا } ومذهب سيبويه أنها المخففة من الثقيلة ، وأن التقدير وأنه هذا صراطي ، ومن قرأ بكسر الألف وتشديد النون فكأنه استأنف الكلام وقطعه من الأول ، وفي مصحف ابن مسعود «وهذا صراطي » بحذف أن ، وقال ابن مسعود إن الله جعل طريقاً صراطاً مستقيماً طرفه محمد عليه السلام وشرعه ونهايته الجنة ، وتتشعب منه طرق فمن سلك الجادة نجا ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار{[5157]} وقال أيضاً خط لنا الرسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطاً ، فقال : هذا سبيل الله ، ثم خط عن يمين ذلك الخط وعن شماله خطوطاً فقال : هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها ، ثم قرأ هذه الآية{[5158]} .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد وتقدم القول في { ذلك وصاكم } ، وفي قوله { لعلكم } ومن حيث كانت المحرمات الأول لا يقع فيها عاقل قد نظر بعقله جاءت العبارة لعلكم تعقلون ، والمحرمات الأخر شهوات وقد يقع فيها من العقلاء من لم يتذكر ، وركوب الجادة الكاملة يتضمن فعل الفضائل ، وتلك درجة التقوى .
الواو عاطفة على جملة : { ألاَّ تشركوا به شيئاً } [ الأنعام : 151 ] لتماثل المعطوفات في أغراض الخطاب وترتيبه ، وفي تخلّل التّذييلات التي عَقِبت تلك الأغراض بقوله : { لعلّكم تعقلون } [ الأنعام : 151 ] { لعلّكم تذّكرون } [ الأنعام : 152 ] { لعلّكم تتّقون } وهذا كلام جامع لاتباع ما يجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي في القرآن .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر : { أنّ } بفتح الهمزة وتشديد النّون .
وعن الفراء والكسائي أنَّه معطوف على : { ما حَرّم ربُّكم } [ الأنعام : 151 ] ، فهو في موضع نصب بفعل : { أتْلُ } والتّقدير : وأتْلُ عليكم أنّ هذا صراطي مستقيماً .
وعن أبي عليّ الفارسي : أنّ قيَاس قول سيبويه أنْ تحمل ( أنّ ) ، أي تُعلَّق على قوله : { فاتبعوه } ، والتّقدير : ولأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ، على قياس قول سيبويه في قوله تعالى : { لإيلاف قريش } [ قريش : 1 ] . وقال في قوله تعالى : { وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } [ الجن : 18 ] المعنى : ولأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً اهـ .
ف { أنّ } مدخولة للام التّعليل محذوفة على ما هو المعروف من حذفها مع ( أنّ ) و ( أنْ ) . وتقدير النّظم : واتَّبعوا صراطي لأنَّه صراط مستقيم ، فوقع تحويل في النّظم بتقدير التّعليل على الفعل الذي حقّه أن يكون معطوفاً ، فصار التّعليل معطوفاً لتقديمه ليفيد تقديمه تفرّع المعلّل وتسبّبه ، فيكون التّعليل بمنزلة الشّرط بسبب هذا التّقديم ، كأنَّه قيل : لمّا كان هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه .
وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : { وإنّ } بكسر الهمزة وتشديد النّون فلا تحويل في نظم الكلام ، ويكون قوله : { فاتبعوه } تفريعاً على إثبات الخبر بأنّ صراطه مسقيم . وقرأ ابن عامر ، ويعقوب : « وأنْ » بفتح الهمزة وسكون النّون على أنَّها مخفّفة من الثّقيلة واسمها ضمير شأن مُقدر والجملة بعده خبره ، والأحسن تخريجها بكون { أنْ } تفسيرية معطوفة على : { ألاَّ تشركوا } [ الأنعام : 151 ] . ووجه إعادة { أنْ } اختلاف أسلوب الكلام عمّا قبله .
والإشارة إلى الإسلام : أي وأنّ الإسلام صراطي ؛ فالإشارة إلى حاضر في أذهان المخاطبين من أثر تكرّر نزول القرآن وسماع أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ، بحيث عرفه النّاس وتبيّنوه ، فنزلّ منزلة المشاهد ، فاستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع لتعيين ذات بطريق المشاهدة مع الإشارة ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع التّشريعات والمَواعظ التي تقدّمت في هذه السّورة ، لأنَّها صارت كالشّيء الحاضر المشاهد ، كقوله تعالى : { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } [ آل عمران : 44 ] .
والصّراط : الطّريق الجادة الواسعة ، وقد مَرّ في قوله تعالى : { اهدنا الصّراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] والمراد الإسلام كما دلّ عليه قوله في آخر السّورة : { قل إنَّنِي هداني ربِّي إلى صراط مستقيم ديناً قيّماً } [ الأنعام : 161 ] لأنّ المقصود منها تحصيل الصّلاح في الدّنيا والآخرة فشبّهت بالطّريق الموصل السّائر فيه إلى غرضه ومقصده .
ولمّا شبّه الإسلام بالصّراط وجعل كالشّيء المشاهد صار كالطّريق الواضحة البيّنة فادّعي أنَّه مستقيم ، أي لا اعوجاج فيه لأنّ الطّريق المستقيم أيسر سلوكاً على السائر وأسرع وصولاً به .
والياء المضاف إليها ( صراط ) تعود على الله ، كما بيّنه قوله : { وإنَّك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله } [ الشورى : 52 ، 53 ] على إحدى طريقتين في حكاية القول إذا كان في المقول ضمير القائل أو ضمير الآمر بالقول ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربِّي وربّكم } في سورة العقود ( 117 ) ، وقد عدل عن طريقة الغيبة ، التي جرى عليها الكلام من قوله : { ما حرم ربكم } [ الأنعام : 151 ] لِغرض الإيماء إلى عصمة هذا الصّراط من الزلل ، لأنّ كونه صراط الله يكفي في إفادة أنَّه موصل إلى النّجاح ، فلذلك صحّ تفريع الأمر باتِّباعه على مجرّد كونه صراط الله . ويجوز عود الياء إلى النّبيء المأمور بالقول ، إلاّ أنّ هذا يستدعي بناء التّفريع بالأمر باتّباعه على ادّعاء أنَّه واضح الاستقامة ، وإلاّ فإنّ كونه طريق النّبيء لا يقتضي تسبّب الأمر باتَّباعه عنه بالنّسبة إلى المخاطبين المكذّبين .
وقوله : { مستقيماً } حال من اسم الإشارة ، وحسَّن وقوعه حالاً أنّ الإشارة بنيت على ادّعاء أنَّه مشاهد ، فيقتضي أنَّه مستحضر في الذّهن بمجمل كلياته وما جرّبوه منه وعرفوه ، وأنّ ذلك يريهم أنَّه في حال الاستقامة كأنَّه أمر محسوس ، ولذلك كثر مجيء الحال من اسم الإشارة نحو : { وهذا بعلي شيخاً } [ هود : 72 ] ولم يأتوا به خبراً .
والسُبُل : الطّرق ، ووقوعها هنا في مقابلة الصّراط المستقيم يدلّ على صفة محذوفة ، أي السّبل المتفرّقة غير المستقيمة ، وهي التي يسمّونها : بُنيات الطّريق ، وهي طرق تتشعّب من السبيل الجادّة ذاهبة ، يسلكها بعض المارّه فرادى إلى بيوتهم أو مراعيهم فلا تبلغ إلى بلد ولا إلى حَيّ ، ولا يستطيع السّيرَ فيها إلاّ مَن عَقَلها واعتادها ، فلذلك سبب عن النّهي قوله : { فتفرق بكم عن سبيله } ، أي فإنَّها طرق متفرّقة فهي تجعل سالكها متفرّقاً عن السّبيل الجادّة ، وليس ذلك لأنّ السّبيل اسم للطّريق الضيقة غير الموصّلة ، فإنّ السّبيل يرادف الصّراط ألا ترى إلى قوله : { قل هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] ، بل لأنّ المقابلة والإخبار عنها بالتَّفرق دلّ على أنّ المراد سبُل خاصّة موصوفة بغير الاستقامة .
والباء في قوله : { بكم } للمصاحبة : أي فتتفرّق السّبل مصاحبة لكم ، أي تتفرّقون مع تفرّقها ، وهذه المصاحبة المجازية تجعل الباء بمنزلة همزة التّعدية كما قاله النّحاة ، في نحو : ذَهَبْتُ بزيد ، أنَّه بمعنى أذهبته ، فيكون المعنى فتُفَرّقَكُم عن سبيله ، أي لا تلاقون سبيلَه .
والضّمير المضاف إليه في : { سبيله } يعود إلى الله تعالى بقرينة المقام ، فإذا كان ضمير المتكلّم في قوله : { صراطي } عائداً لله كان في ضمير { سبيله } التفاتاً عن سبيلي .
روى النّسائي في « سننه » ، وأحمد ، والدارمي في « مسنديهما » ، والحاكم في « المستدرك » ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطّاً ثمّ قال : " هذا سبيل الله ، ثم خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله ( أي عن يمين الخطّ المخطوط أوّلاً وعن شماله ) ثمّ قال : « هذه سُبُل على كلّ سبيل منها شيطانٌ يدعو إليها " ثمّ قرأ : { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبعوه ولا تتَّبعوا السّبل فتَتَفَرّق بكم عن سبيله } . وروى أحمد ، وابن ماجة ، وابن مردويه ، عن جابر بن عبد الله قال : " كنّا عند النّبيء صلى الله عليه وسلم فخطّ خطّاً وخَطّ خطَّين عن يمينه وخَطّ خطيَّن عن يساره ثمّ وضع يده في الخطّ الأوْسط ( أي الذي بين الخطوط الأخرى ) فقال : هذه سبيل الله ، ثم تَلاَ هذه الآية : { وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } وما وقع في الرّواية الأولى ( وخَطّ خطوطاً ) هو باعتبار مجموع ما على اليمين والشّمال " وهذا رسمه على سبيل التّقريب :
وقوله : { ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } تذييل تكرير لمِثْليه السّابقين ، فالإشارة ب { ذلكمْ } إلى الصّراط ، والوصاية به معناها الوصاية بما يحتوي عليه .
وجعل الرّجاء للتّقوى لأنّ هذه السّبيل تحتوي على ترك المحرّمات ، وتزيد بما تحتوي عليه من فعل الصّالحات ، فإذا اتَّبعها السّالك فقد صار من المتّقين أي الذين اتَّصفوا بالتَّقوى بمعناها الشّرعي كقوله تعالى : { هدى للمتّقين } [ البقرة : 2 ] .