{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }
تقدم أن المزمل والمدثر بمعنى واحد ، وأن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالاجتهاد في عبادة الله القاصرة والمتعدية ، فتقدم هناك الأمر له بالعبادات الفاضلة القاصرة ، والصبر على أذى قومه ، وأمره هنا بإعلان الدعوة{[1274]} ، والصدع بالإنذار ، فقال : { قُمِ }
سورة المدثر مكية وآياتها ست وخمسون
ينطبق على هذه السورة من ناحية سبب نزولها ، ووقت نزولها ما سبق ذكره عن سورة " المزمل " . فهناك روايات بأنها هي أول ما نزل بعد سورة العلق ، ورواية أخرى بأنها نزلت بعد الجهر بالدعوة وإيذاء المشركين للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] .
قال البخاري ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ? فقال : ( يا أيها المدثر ) . . قلت : يقولون( اقرأ باسم ربك الذي خلق )فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، وقلت له مثل ما قلت لي ، فقال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت أمامي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فرأيت شيئا . فأتيت خديجة فقلت : " دثروني وصبوا علي ماءا باردا " قال : فدثروني وصبوا علي ماءا باردا . قال : فنزلت : ( يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر ) " . .
وقد رواه مسلم من طريق عقيل ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة . قال : أخبرني جابر بن عبد الله ، أنه سمع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يحدث عن فترة الوحي ، فقال في حديثه ، " فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء ، فرفعت بصري قبل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء ، قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فجثيت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت زملوني ، فدثروني ، فأنزل الله تعالى : يا أيها المدثر . قم فأنذر . . . - إلى - والرجز فاهجر " قال أبو سلمة : والرجز الأوثان . ثم حمي الوحي وتتابع " . . ورواه البخاري من هذا الوجه أيضا . . وهذا لفظ البخاري .
وعلق ابن كثير في التفسير على هذا الحديث بقوله : " وهذا السياق هو المحفوظ ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله : " فإذا الملك الذي جاءني بحراء " وهو جبريل ، حين أتاه بقوله . . . ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم . . ثم إنه حصل بعد هذا فترة ، ثم نزل الملك بعد هذا . ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة " . .
فهذه رواية . وهناك رواية أخرى . . قال الطبراني : حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار ، حدثناالحسن بن بشر البجلي ، حدثنا المعافى بن عمران ، عن إبراهيم بن يزيد ، سمعت ابن أبي مليكة يقول : سمعت ابن عباس يقول : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما ، فلما أكلوا منه قال : ما تقولون في هذا الرجل ? فقال بعضهم : ساحر . وقال بعضهم : ليس بساحر . وقال بعضهم : كاهن . وقال بعضهم : ليس بكاهن . وقال بعضهم : شاعر . وقال بعضهم : ليس بشاعر . وقال بعضهم بل سحر يؤثر . فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر . فبلغ ذلك النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فحزن ، وقنع رأسه ، وتدثر . فأنزل الله تعالى : ( يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر ، ولا تمنن تستكثر . ولربك فاصبر ) . .
وتكاد تكون هذه الرواية هي ذاتها التي رويت عن سورة " المزمل " . . مما يجعلنا لا نستطيع الجزم بشيء عن أيتهما هي التي نزلت أولا . والتي نزلت بهذه المناسبة أو تلك .
غير أن النظر في النص القرآني ذاته يوحي بأن مطلع هذه السورة إلى قوله تعالى : ( ولربك فاصبر )ربما يكون قد نزل مبكرا في أوائل أيام الدعوة . شأنه شأن مطلع سورة المزمل إلى قوله تعالى : ( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) . . وهذا وذلك لإعداد نفس الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] للنهوض بالتبعة الكبرى ، ومواجهة قريش بعد ذلك بالدعوة جهارا وكافة ، مما سيترتب عليه مشاق كثيرة متنوعة ، تحتاج مواجهتها إلى إعداد نفسي سابق . . ويكون ما تلا ذلك في سورة المدثر ، وما تلا هذا في سورة المزمل ، قد نزلا بعد فترة بمناسبة تكذيب القوم وعنادهم ، وإيذائهم للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالاتهام الكاذب والكيد اللئيم .
إلا أن هذا الاحتمال لا ينفي الاحتمال الآخر ، وهو أن يكون كل من المطلعين قد نزل متصلا بما تلاه في هذه السورة وفي تلك ، بمناسبة واحدة ، هي التكذيب ، واغتمام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] للكيد الذي كادته قريش ودبرته . . ويكون الشأن في السورتين هو الشأن في سورة القلم على النحو الذي بيناه هناك .
وأيا ما كان السبب والمناسبة فقد تضمنت هذه السورة في مطلعها ذلك النداء العلوي بانتداب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لهذا الأمر الجلل ؛ وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة : ( يا أيها المدثر . قم فأنذر ) . . مع توجيهه [ صلى الله عليه وسلم ] إلى التهيؤ لهذا الأمر العظيم ، والاستعانة عليه بهذا الذي وجهه الله إليه : ( وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر . ولا تمنن تستكثر . ولربك فاصبر ) . . وكان ختام التوجيه هنا بالصبر كما كان هناك في سورة المزمل !
وتضمنت السورة بعد هذا تهديدا ووعيدا للمكذبين بالآخرة ، وبحرب الله المباشرة ، كما تضمنت سورة المزمل سواء : ( فإذا نقر في الناقور ، فذلك يومئذ يوم عسير ، على الكافرين غير يسير . ذرني ومن خلقت وحيدا . وجعلت له مالا ممدودا ، وبنين شهودا ، ومهدت له تمهيدا ، ثم يطمع أن أزيد . كلا ! إنه كان لآياتنا عنيدا . سأرهقه صعودا ) . .
وتعين سورة المدثر أحد المكذبين بصفته ، وترسم مشهدا من مشاهد كيده - على نحو ما ورد في سورة القلم ، وربما كان الشخص المعني هنا وهناك واحدا ، قيل : إنه الوليد بن المغيرة - [ كما سيأتي تفصيل الروايات عند مواجهة النص ] وتذكر سبب حرب الله سبحانه وتعالى له : ( إنه فكر وقدر . فقتل ! كيف قدر ? ثم قتل : كيف قدر ? ثم نظر ، ثم عبس وبسر . ثم أدبر واستكبر . فقال : إن هذا إلا سحر يؤثر . إن هذا إلا قول البشر ) . . ثم تذكر مصيره : ( سأصليه سقر . وما أدراك ما سقر ، لا تبقي ولا تذر . لواحة للبشر . عليها تسعة عشر ) . .
وبمناسبة مشهد سقر . والقائمين عليها التسعة عشر . وما أثاره هذا العدد من بلبلة وفتنة وتساؤل وشك واستهزاء في أوساط المشركين وضعاف الإيمان ، تتحدث السورة عن حكمة الله في ذكر هذا العدد ، ثم تفتح كوة على حقيقة غيب الله ، واختصاصه بهذا الغيب . وهي كوة تلقي ضوءا على جانب من التصور الإيماني لحقيقة غيب الله المكنون : ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة . وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون ، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ? كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ، وما يعلم جنود ربك إلا هو ، وما هي إلا ذكرى للبشر ) . .
ثم يصل أمر الآخرة وسقر ومن عليها بمشاهد كونية حاضرة ، ليجمع على القلوب إيحاء هذه وتلك في معرض الإيقاظ والتحذير : ( كلا والقمر . والليل إذ أدبر . والصبح إذا أسفر . إنها لإحدى الكبر . نذيرا للبشر . لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ) . .
كما يعرض مقام المجرمين ومقام أصحاب اليمين ، حيث يعترف المكذبون اعترافا طويلا بأسباب استحقاقهم للارتهان والقيد في يوم الجزاء والحساب ، يعقب عليه بكلمة الفصل في أمرهم الذي لا تنفعهم فيه شفاعة شافع : ( كل نفس بما كسبت رهينة . إلا أصحاب اليمين . في جنات يتساءلون عن المجرمين . ما سلككم في سقر ? قالوا : لم نك من المصلين . ولم نك نطعم المسكين . وكنا نخوض مع الخائضين . وكنا نكذب بيوم الدين . حتى أتانا اليقين . فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) . .
وفي ظل هذا المشهد المخزي ، والاعتراف المهين ، يتساءل مستنكرا موقف المكذبين من الدعوة إلى التذكرة والنجاة من هذا المصير ، ويرسم لهم مشهدا ساخرا يثير الضحك والزراية من نفارهم الحيواني الشموس : ( فما لهم عن التذكرة معرضين ? كأنهم حمر مستنفرة . فرت من قسورة ! ) .
ويكشف عن حقيقة الغرور الذي يساورهم فيمنعهم من الاستجابة لصوت المذكر الناصح . ( بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ) . . فهو الحسد للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] والرغبة في أن يؤتى كل منهم الرسالة ! والسبب الدفين الآخر هو قلة التقوى : ( كلا ! بل لا يخافون الآخرة ) . .
وفي الختام يجيء التقرير الجازم الذي لا مجاملة فيه : ( كلا ! إنه تذكرة . فمن شاء ذكره )ورد الأمر كله إلى مشيئة الله وقدره : ( وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة ) . .
وهكذا تمثل السورة حلقة من حلقات الكفاح النفسي الذي كافحه القرآن للجاهلية وتصوراتها في قلوب قريش ؛ كما كافح العناد والكيد والإعراض الناشئ عن العمد والقصد بشتى الأساليب . . والمشابهات كثيرة بين اتجاهات هذه السورة واتجاهات سورة المزمل ، وسورة القلم ، مما يدل على أنها جميعا نزلت متقاربة ، لمواجهة حالات متشابهة . . وذلك باستثناء الشطر الثاني من سورة المزمل ، وقد نزل لشأن خاص بالرياضة الروحية للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وطائفة من الذين معه كما تقدم .
وهذه السورة قصيرة الآيات . سريعة الجريان . منوعة الفواصل والقوافي . يتئد إيقاعها أحيانا ، ويجري لاهثا أحيانا ! وبخاصة عند تصوير مشهد هذا المكذب وهو يفكر ويقدر ويعبس ويبسر . . وتصوير مشهد سقر . لا تبقي ولا تذر . لواحة للبشر . . ومشهد فرارهم كأنهم حمر مستنفرة . فرت من قسورة !
وهذا التنوع في الإيقاع والقافية بتنوع المشاهد والظلال يجعل للسورة مذاقا خاصا ؛ ولا سيما عند رد بعض القوافي ورجعها بعد انتهائها كقافية الراء الساكنة : المدثر . أنذر . فكبر . . وعودتها بعد فترة : قدر . بسر . استكبر . سقر . . . وكذلك الانتقال من قافية إلى قافية في الفقرة الواحدة مفاجأة ولكن لهدف خاص . عند قوله : ( فما لهم عن التذكرة معرضين ? كأنهم حمر مستنفرة . فرت من قسورة ) . . ففي الآية الأولى كان يسأل ويستنكر . وفي الثانية والثالثة كان يصور ويسخر ! وهكذا . . .
( يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر . ولا تمنن تستكثر . ولربك فاصبر ) . .
إنه النداء العلوي الجليل ، للأمر العظيم الثقيل . . نذارة هذه البشرية وإيقاظها ، وتخليصها من الشر في الدنيا ، ومن النار في الآخرة ؛ وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان . . وهو واجب ثقيل شاق ، حين يناط بفرد من البشر - مهما يكن نبيا رسولا - فالبشرية من الضلال والعصيان والتمرد والعتو والعناد والإصرار والإلتواء والتفصي من هذا الأمر ، بحيث تجعل من الدعوة أصعب وأثقل ما يكلفه إنسان من المهام في هذا الوجود !
( يا أيها المدثر . قم فأنذر ) . . والإنذار هو أظهر ما في الرسالة ، فهو تنبيه للخطر القريب الذي يترصد للغافلين السادرين في الضلال وهم لا يشعرون . وفيه تتجلى رحمة الله بالعباد ، وهم لا ينقصون في ملكه شيئا حين يضلون ، ولا يزيدون في ملكه شيئا حين يهتدون . غير أن رحمته اقتضت أن يمنحهم كل هذه العناية ليخلصوا من العذاب الأليم في الآخرة ، ومن الشر الموبق في الدنيا . وأن يدعوهم رسله ليغفر لهم ويدخلهم جنته من فضله !
ثبت في صحيح البخاري [ من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ]{[29456]} عن جابر أنه كان يقول : أول شيء نزل من القرآن : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }
وخالفه{[29457]} الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } كما سيأتي [ بيان ]{[29458]} ذلك هناك .
قال البخاري : حدثنا يحيى ، حدثنا وَكِيع ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن ، قال : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } قلت : يقولون : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ؟ فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، وقلتُ له مثل ما قلتَ لي ، فقال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جاورت بحرَاء ، فلما قضيت جواري هبطتُ فنُوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا ، ونظرت أمامي فلم أر شيئًا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا . فرفعت رأسي فرأيت شيئًا ، فأتيت خديجة فقلت : دثروني . وصبوا علي ماء باردا . قال : فدثروني وصبوا علي ماء باردا قال : فنزلت { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } {[29459]}
هكذا ساقه من هذا الوجه . وقد رواه مسلم{[29460]} من طريق عُقَيل ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة قال : أخبرني جابر بن عبد الله : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي : " فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء ، فرفعت بصري قبَلَ السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فَجَثَثْتُ{[29461]} منه حتى هَوَيتُ إلى الأرض ، فجئت إلى أهلي ، فقلت : زملوني زملوني . فزملوني ، فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } إلى : { فَاهْجُرْ } -
قال أبو سلمة : والرجز : الأوثان - ثم حَميَ الوحيُ وتَتَابع " .
هذا لفظ البخاري{[29462]} وهذا السياق هو المحفوظ ، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا ، لقوله : " فإذا الملك الذي جاءني{[29463]} بحراء " ، وهو جبريل حين أتاه بقوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ثم إنه حصل بعد هذا فترة ، ثم نزل الملك بعد هذا . ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا حجاج ، حدثنا لَيْث ، حدثنا عُقَيل ، عن ابن شهاب{[29464]} قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول : أخبرني جابر بن عبد الله : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ثم فتر الوحي عني فترة ، فبينا أنا أمشي سمعتُ صوتًا من السماء ، فرفعت بصري قِبَل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني [ بحراء الآن ]{[29465]} قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فَجُثت{[29466]} منه فَرَقًا ، حتى هَوَيت إلى الأرض ، فجئت أهلي فقلت لهم : زملوني زملوني . فزملوني ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } ثم حمي الوحي [ بعدُ ]{[29467]} وتتابع " . أخرجاه من حديث الزهري ، به{[29468]} .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار ، حدثنا الحسن بن بشر{[29469]} البَجَلي ، حدثنا المعافى بن عمران ، عن إبراهيم بن يزيد ، سمعت ابن أبي مُلَيْكة يقول : سمعت ابن عباس يقول : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما ، فلما أكلوا . قال : ما تقولون في هذا الرجل ؟ فقال بعضهم : ساحر . وقال بعضهم ليس بساحر . وقال بعضهم : كاهن . وقال بعضهم : ليس بكاهن . وقال بعضهم : شاعر . وقال بعضهم ليس بشاعر . وقال بعضهم : [ بل ]{[29470]} سحر يُؤثر . فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزنَ وقَنعَ رأسه ، وتَدَثَّر ، فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } {[29471]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الْمُدّثّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبّكَ فَكَبّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ * وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ } .
يقول جلّ ثناؤه : يا أيّها المُدّثّرُ : يا أيها المتدثر بثيابه عند نومه .
وذُكر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له ذلك ، وهو متدثر بقطيفة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم يا أيّها المُدّثّرُ قال : كان متدثرا في قطيفة .
وذُكر أن هذه الاَية أوّل شيء نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه قيل له : يا أيّها المُدّثّرُ ، كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدّث عن فترة الوحي : «بَيْنا أنا أمْشِي سَمِعْت صَوْتا مِنَ السّماءِ فَرَفَعْتُ رأسِي ، فإذَا المَلَك الّذِي جاءَنِي بِحِرَاءَ جالِسٌ على كُرْسِيّ بَينَ السّماءِ والأرْضِ » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَجُثِثْتُ مِنْهُ فَرَقا ، وجِئْتُ أهْلي فَقُلْتُ : زَمّلُونِي زَمّلُوني ، فدَثّرُونِي » فأنزل الله : يا أيّها المُدّثّرُ قُمْ فأنْذِرْ وَرَبّكَ فَكَبّرْ . . . إلى قوله : وَالرّجْزَ فاهْجُرْ قال : ثم تتابع الوحي .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : ثني يحيى بن أبي كثير ، قال : سألت أبا سلمة : أيّ القرآن أُنزل أوّل ، فقال : يا أيّها المُدّثّرُ فقلت : يقولون اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذي خَلَقَ ، فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله : أيّ القرآن أنزل أوّل ؟ فقال : يا أيّها المُدّثّرُ ، فقلت يقولون : اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ فقال : لا أخبرك إلا ما حدثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «جاورت في حِراء فلما قضيت جواري هبطت ، فاستبطنت الوادي ، فنوديت ، فنظرت عن يميني وعن شمالي وخلفي وقدّامي ، فلم أر شيئا ، فنظرت فوق رأسي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض ، فخشيت منه » هكذا قال عثمان بن عمرو ، إنما هو : «فجثثت منه ، ولقيت خديجة ، فقلت : دثروني ، فدثروني ، وصبوا عليّ ماءً ، فأنزل الله عليّ : يا أيّها المُدّثّرُ قُمْ فأنْدِرْ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن عليّ بن مبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : سألت أبا سلمة عن أوّل ما نزل من القرآن ، قال : نزلت يا أيّها المُدّثّرُ أوّل قال : قلت : إنهم يقولون اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ ، فقال : سألت جابر بن عبد الله ، فقال : لا أحدّثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «جاوَرْتُ بِحِرَاءً فلمّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ ، فَسَمِعْتُ صَوْتا ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِيِني فَلَمْ أرَ شَيْئا ، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أرَ شَيْئا ، فَرَفَعْتُ رأسي فرأيْتُ شَيْئا ، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ ، فَقُلْتُ : دَثّرُونِي وَصبّوا عَليّ ماء بارِدا ، فنزلت يا أيّها المُدّثّرُ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، قال : فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة ، فحزن حزنا ، فجعل يعدو إلى شواهق رؤوس الجبال ليتردّي منها ، فكلما أوفي بذروة جبل تبدّى له جبريل عليه السلام فيقول : إنك نبيّ الله ، فيسكن جأشه ، وتسكن نفسه فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحدّث عن ذلك ، قال : «بَيْنَما أنا أمْشِي يَوْما إذْ رأيْتُ المَلَكَ الّذِي كان يأتِيني بِحرَاءَ على كُرْسِيّ بَينَ السّماءِ والأرْضِ ، فَجُثِثْتُ مِنْهُ رُعْبا ، فَرَجَعْتُ إلى خَدِيجَةَ فَقُلْتُ : زَمّلُونِي ، فزمّلناه » : أي فدثرناه ، فأنزل الله يا أيّها المُدّثّرُ ، قُمْ فأنْذِرْ ، وَرَبّكَ فَكَبّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال الزهري : فكان أوّل شيء أنزل عليه : اقْرأ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ . . . حتى بلغ ما لَمْ يَعْلَمْ .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : يا أيّها المُدّثّرُ ، فقال بعضهم : معنى ذلك : يا أيها النائم في ثيابه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها المُدّثّرُ قال : يا أيها النائم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها المُدّثّرُ يقول : المتدثر في ثيابه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : يا أيها المتدثر النبوّة وأثقالها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : وسُئل داود عن هذه الاَية : يا أيّها المُدّثّرُ فحدثنا عن عكرمة أنه قال : دثّرت هذا الأمر فقم به .
اختلف القراء في { المدثر } على نحو ما ذكرناه في { المزمل } [ المزمل : 1 ] ، وفي حرف أبيّ بن كعب { المدثر } ومعناه المتدثر بثيابه ، و «الدثار » ، ما يتغطى الإنسان به من الثياب ، واختلف الناس لم ناداه ب { المدثر } ، فقال جمهور المفسرين بما ورد في البخاري من أنه لما فرغ من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض فرعب منه ورجع إلى خديجة فقال : زملوني زملوني نزلت { يا أيها المدثر }{[11408]} ، وقال النخعي وقتادة وعائشة نودي وهو في حال تدثر فدعي بحال من أحواله . وروي أنه كان يدثر في قطيفة . وقال آخرون : معناه أيها النائم . وقال عكرمة معناه { يا أيها المدثر } للنبوة وأثقالها ، واختلف الناس في أول ما نزل من كتاب الله تعالى فقال جابر بن عبد الله وأبو سلمة والنخعي ومجاهد هو { يا أيها المدثر } الآيات . وقال الزهري والجمهور هو { اقرأ باسم ربك الذي خلق } [ العلق : 1 ] وهذا هو الأصح . وحديث صدر كتاب البخاري نص في ذلك{[11409]} .