{ 18-21 } { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا }
يخبر تعالى بفضله ورحمته ، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم ، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة ، وكان سبب هذه البيعة -التي يقال لها " بيعة الرضوان " لرضا الله عن المؤمنين فيها ، ويقال لها " بيعة أهل الشجرة " - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه ، وأنه لم يجئ لقتال أحد ، وإنما جاء زائرا هذا البيت ، معظما له ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان لمكة في ذلك ، فجاء خبر غير صادق ، أن عثمان قتله المشركون ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من المؤمنين ، وكانوا نحوا من ألف وخمسمائة ، فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين ، وأن لا يفروا حتى يموتوا ، فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال ، التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات ، { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من الإيمان ، { فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } شكرا لهم على ما في قلوبهم ، زادهم هدى ، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله ، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم ، وتطمئن بها قلوبهم ، { وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } وهو : فتح خيبر ، لم يحضره سوى أهل الحديبية ، فاختصوا بخيبر وغنائمها ، جزاءا لهم ، وشكرا على ما فعلوه من طاعة الله تعالى والقيام بمرضاته .
( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة عليهم ، وأثابهم فتحا قريبا ، ومغانم كثيرة يأخذونها ، وكان الله عزيزا حكيما ) . .
وإنني لأحاول اليوم من وراء ألف وأربعمائة عام أن أستشرف تلك اللحظة القدسية التي شهد فيها الوجود كله ذلك التبليغ العلوي الكريم من الله العلي العظيم إلى رسوله الأمين عن جماعة المؤمنين . أحاول أن أستشرف صفحة الوجود في تلك اللحظة وضميره المكنون ؛ وهو يتجاوب جميعه بالقول الإلهي الكريم ، عن أولئك الرجال القائمين إذ ذاك في بقعة معينة من هذا الوجود . . وأحاول أن أستشعر بالذات شيئا من حال أولئك السعداء الذين يسمعون بآذانهم ، أنهم هم ، بأشخاصهم وأعيانهم ، يقول الله عنهم : لقد رضي عنهم . ويحدد المكان الذي كانوا فيه ، والهيئة التي كانوا عليها حين استحقوا هذا الرضى : ( إذ يبايعونك تحت الشجرة ) . . يسمعون هذا من نبيهم الصادق المصدوق ، على لسان ربه العظيم الجليل . .
يالله ! كيف تلقوا - أولئك السعداء - تلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الإلهي ? التبليغ الذي يشير إلى كل أحد ، في ذات نفسه ، ويقول له : أنت . أنت بذاتك . يبلغك الله . لقد رضي عنك . وأنت تبايع . تحت الشجرة ! وعلم ما في نفسك . فأنزل السكينة عليك !
إن الواحد منا ليقرأ أو يسمع : ( الله ولي الذين آمنوا ) . . فيسعد . يقول في نفسه : ألست أطمع أن أكون داخلا في هذا العموم ? ويقرأ أو يسمع : ( إن الله مع الصابرين ) . . فيطمئن . يقول في نفسه : ألست ارجو أن أكون من هؤلاء الصابرين ? وأولئك الرجال يسمعون ويبلغون . واحدا واحدا . أن الله يقصده بعينه وبذاته . ويبلغه : لقد رضي عنه ! وعلم ما في نفسه . ورضي عما في نفسه !
( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) . . ( فعلم ما في قلوبهم . فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ) . .
علم ما في قلوبهم من حمية لدينهم لا لأنفسهم . وعلم ما في قلوبهم من الصدق في بيعتهم . وعلم ما في قلوبهم من كظم لانفعالاتهم تجاه الاستفزاز ، وضبط لمشاعرهم ليقفوا خلف كلمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] طائعين مسلمين صابرين .
فانزل السكينة عليهم . . بهذا التعبير الذي يرسم السكينة نازلة في هينة وهدوء ووقار ، تضفي على تلك القلوب الحارة المتحمسة المتأهبة المنفعلة ، بردا وسلاما وطمأنينة وارتياحا .
( وأثابهم فتحا قريبا ) . . هو هذا الصلح بظروفه التي جعلت منه فتحا ، وجعلته بدء فتوح كثيرة . قد يكون فتح خيبر واحدا منها . وهو الفتح الذي يذكره أغلب المفسرين على أنه هو هذا الفتح القريب الذي جعله الله للمسلمين . .
يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وقد تقدم ذكر عدتهم ، وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة ، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية .
قال البخاري : حدثنا محمود ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن طارق بن عبد الرحمن قال : انطلقت حاجًا فمررت بقوم يصلون ، فقلت{[26852]} ما هذا المسجد ؟ قالوا : هذه الشجرة ، حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان ، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته ، فقال سعيد : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة . قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها ، فقال سعيد : إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم ، فأنتم أعلم{[26853]} .
وقوله : { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } أي : من الصدق والوفاء ، والسمع والطاعة ، { فَأَنزلَ السَّكِينَةَ } : وهي الطمأنينة ، { عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } : وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم ، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة ،
ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم ، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا قال : { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا{[26854]} وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }
القول في تأويل قوله تعالى : { لّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } .
يقول تعالى ذكره : لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين إذْ يُبايِعُونَكَ تحْتَ الشّجَرَةِ يعني بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب ، وعلى أن لا يفرّوا ، ولا يولوهم الدبر تحت الشجرة ، وكانت بيعتهم إياه هنالك فيما ذكر تحت شجرة .
وكان سبب هذه البيعة ما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه برسالته إلى الملإ من قريش ، فأبطأ عثمان عليه بعض الإبطاء ، فظنّ أنه قد قتل ، فدعا أصحابه إلى تجديد البيعة على حربهم على ما وصفت ، فبايعوه على ذلك ، وهذه البيعة التي تسمى بيعة الرضوان ، وكان الذين بايعوه هذه البيعة فيما ذُكر في قول بعضهم : ألفا وأربع مئة ، وفي قول بعضهم : ألفا وخمس مئة ، وفي قول بعضهم : ألفا وثلاث مئة . ذكر الرواية بما وصفنا من سبب هذه البيعة :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي ، فبعثه إلى قريش بمكة ، وحمله على جمل له يقال له الثعلب ، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، وذلك حين نزل الحديبية ، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأرادوا قتله ، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله ، حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فحدثني من لا أتهم ، عن عكرِمة مولى ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظتي عليهم ، ولكني أدلك على رجل هو أعزّ بها مني عثمان بن عفان ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت ، معظما لحرمته ، فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها ، فنزل عن دابته ، فحمله بين يديه ، ثم ردفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به ، قال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قُتل .
قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل ، قال : «لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَ القَوْمَ » ، ودعا الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت فكان جابر بن عبد الله يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على الموت ، ولكنه بايعنا على أن لا نفر ، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة ، كان جابر بن عبد الله يقول : لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته ، قد اختبأ إليها ، يستتر بها من الناس ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذُكر من أمر عثمان باطل .
حدثنا محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا موسى بن عبيدة ، عن إياس بن سلمة ، قال : قال سلمة : بينما نحن قائلون زمن الحديبية ، نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس البيعة البيعة ، نزل روح القدس صلوات الله عليه ، قال : فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو تحت شجرة سمرة ، قال : فبايعناه ، وذلك قول الله : لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ .
حدثنا عبد الحميد بن بيان اليشكري ، قال : حدثنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن عامر ، قال : كان أوّل من بايع بيعة الرضوان رجل من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان جديّ يقال له حَزْن ، وكان ممن بايع تحت الشجرة ، فأتيناها من قابل ، فعُميّت علينا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : ثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن بُكير بن الأشجّ أنه بلغه أن الناس بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عَلَى ما اسْتَطَعْتُمْ » . والشجرة التي بُويع تحتها بفج نحو مكة ، وزعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة ، فقال : أين كانت ، فجعل بعضهم يقول هنا ، وبعضهم يقول : ههنا ، فلما كثر اختلافهم قال : سيروا هذا التكلف فذهبت الشجرة وكانت سَمُرة إما ذهب بها سيل ، وإما شيء سوى ذلك . ذكر عدد الذين بايعوا هذه البيعة :
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في عددهم ، ونذكر الروايات عن قائلي المقالات التي ذكرناها إن شاء الله تعالى . ذكر من قال : عددهم ألف وأربع مئة :
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان عن جابر ، قال : كنا يوم الحُديبية ألفا وأربع مئة ، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفرّ ، ولم نبايعه على الموت ، قال : فبايعناه كلنا إلا الجدّ بن قيس اختبأ تحت إبط ناقته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، أخبرني القاسم بن عبد الله بن عمرو ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله «أنهم كانوا يوم الحُديبية أربع عشرة مئة ، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بيده تحت الشجرة ، وهي سمرة ، فبايعنا غير الجدّ بن قيس الأنصاريّ ، اختبأ تحت إبط بعيره ، قال جابر : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفرّ ولم نبايعه على الموت » .
حدثنا يوسف بن موسى القطان ، قال : حدثنا هشام بن عبد الملك وسعيد بن شرحبيل المصري ، قالا : حدثنا ليث بن سعد المصري ، قال : حدثنا أبو الزبير ، عن جابر ، قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربع مئة ، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة ، فبايعناه على أن لا نفرّ ، ولم نبايعه على الموت ، يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، أنه قيل له : إن جابر بن عبد الله يقول : إن أصحاب الشجرة كانوا ألفا وخمس مئة ، قال سعيد : نسي جابر هو قال لي كانوا ألفا وأربع مئة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : كنا أصحاب الحُديبية أربع عشرة مئة .
ذكر من قال : كان عدتهم ألفا وخمس مئة وخمسة وعشرين :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ قال : كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفا وخمس مئة وخمسة وعشرين .
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، فجعلت لهم مغانم خيبر كانوا يومئذ خمس عشرة مئة ، وبايعوا على أن لا يفرّوا عنه .
ذكر من قال ذلك : كانوا ألفا وثلاث مئة :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، قال : سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول : كانوا يوم الشجرة ألفا وثلاث مئة ، وكانت أسلم يومئذ من المهاجرين .
وقوله : فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِم يقول تعالى ذكره : فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة ، من صدق النية ، والوفاء بما يبايعونك عليه ، والصبر معك فأَنْزَل السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ يقول : فأنزل الطمأنينة ، والثبات على ما هم عليه من دينهم وحُسن بصيرتهم بالحقّ الذي هداهم الله له . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِم ، فأنْزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ : أي الصبر والوقار .
وقوله : وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا يقول : وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم أهلها فتحا قريبا ، وذلك فيما قيل : فتح خيبر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا قال : خيبر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا وهي خيبر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا قال : بلغني أنها خيبر .
{ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } روي : أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية بعث جواس بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة ، فهموا به فمنعه الأحابيش فرجع ، فبعث عثمان بن عفان رضي الله عنه فحبسوه فأرجف بقتله ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وكانوا ألفا وثلثمائة أو وأربعمائة أو وخمسمائة ، وبايعهم على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا عنهم وكان جالسا تحت سمرة أو سدرة . { فعلم ما في قلوبهم } من الإخلاص . { فأنزل السكينة عليهم } الطمأنينة وسكون النفس بالتشجيع أو الصلح . { وأثابهم فتحا قريبا } فتح خيبر غب انصرافهم ، وقيل مكة أو هجر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين" إذْ يُبايِعُونَكَ تحْتَ الشّجَرَةِ "يعني بيعة أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم رسولَ الله بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب، وعلى أن لا يفرّوا، ولا يولوهم الدبر تحت الشجرة، وكانت بيعتهم إياه هنالك فيما ذكر تحت شجرة. وكان سبب هذه البيعة ما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه برسالته إلى الملإ من قريش، فأبطأ عثمان عليه بعض الإبطاء، فظنّ أنه قد قتل، فدعا أصحابه إلى تجديد البيعة على حربهم على ما وصفت، فبايعوه على ذلك، وهذه البيعة التي تسمى بيعة الرضوان، وكان الذين بايعوه هذه البيعة فيما ذُكر في قول بعضهم: ألفا وأربع مئة، وفي قول بعضهم: ألفا وخمس مئة، وفي قول بعضهم: ألفا وثلاث مئة... وقوله: "فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِم" يقول تعالى ذكره: فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة، من صدق النية، والوفاء بما يبايعونك عليه، والصبر معك.
"فأَنْزَل السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ" يقول: فأنزل الطمأنينة، والثبات على ما هم عليه من دينهم وحُسن بصيرتهم بالحقّ الذي هداهم الله له...
وقوله: "وأثابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا" يقول: وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم أهلها فتحا قريبا، وذلك فيما قيل فتح خيبر...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لقد رضي الله عن المؤمنين} لما عزموا من الوفاء على ما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق لذلك والتحقيق لما عاهدوا من الوفاء. لذلك أخبر الله أن قد رضي الله عنهم لذلك. فنحن نستدل به على تصديق ذلك وتحقيقه...
{فعلم ما في قلوبهم} هذا يحتمل وجوها:
أحدها: ما ذكرنا: علم ما في قلوبهم من العزم على الوفاء والتصديق لما أعطوا بأيديهم من أنفسهم.
والثالث: علم ما في قلوبهم من الكراهة التي يذكرها أهل التأويل. لكن تلك الكراهة كراهة الطبع لا كراهة الاختيار لأنهم طمِعوا الوصول إلى البيت، ورَجَوا دخوله. فلما جرى الصلح بينهم على ألاّ يدخلوا عامهم ذلك، فانصرفوا، فاشتدّ ذلك عليهم، فكرِهوا ذلك كراهة الطبع لا كراهة الاختيار، وقد يكره طبع الإنسان شيئا، والخيار غيره كقوله عز وجل: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} [النساء: 19] وكقول يوسف: {رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} [الآية: 33] محبة الاختيار لا محبّة الطبع إلى ما يدعونه...
أي أنزل عليهم ما يسكُن به قلوبهم لما علم تحقيق الوفاء لما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق ما أعطوا من أنفسهم {وأثابهم} فكان ما كانوا يرجون، ويطمعون، من دخول مكة وما كرهت أنفسهم من الرجوع {فتحا قريبا} وهو فتح مكة، أو فتح خبير، والله أعلم...
فيه الدلالة على صحة إيمان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان بالحديبية وصِدْقِ بصائرهم... فدلّ على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة أولياء لله، إذ غير جائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة وصدق الإيمان. وقد أكّد ذلك بقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أخبر أنه علم من قلوبهم صحة البصيرة وصدق النية وأن ما أبطنوه مثل ما أظهروه...
وقوله تعالى: {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} يعني الصبر بصدق نياتهم؛ وهذا يدلّ على أن التوفيق يصحب صدق النية...
{لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم} من الصدق كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض {فأنزل السكينة عليهم} حتى بايعوا على الموت، وفيه معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال قبل هذه الآية {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات} فجعل طاعة الله والرسول علامة لإدخال الله الجنة في تلك الآية، وفي هذه الآية بين أن طاعة الله والرسول وجدت من أهل بيعة الرضوان، أما طاعة الله فالإشارة إليها بقوله {لقد رضي الله عن المؤمنين} وأما طاعة الرسول فبقوله {إذ يبايعونك تحت الشجرة} بقي الموعود به وهو إدخال الجنة أشار إليه بقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين} لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة كما قال تعالى: {ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لقد رضي الله} أي الذي له الجلال والجمال {عن المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان...
{إذ} أي حين، وصور حالهم إعلاماً بأنها سارة معجبة شديدة الرسوخ في الرضى فقال: {يبايعونك} في عمرة الحديبية لما صد المشركون عن الوصول إلى البيت... {تحت الشجرة} واللام للعهد الذهني، وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً به في الحديبية، ولأجل هذا الرضى سميت بيعة الرضوان...
{فعلم} أي لما له من الإحاطة {ما في قلوبهم} أي من مطابقته لما قالوا بألسنتهم في البيعة، وأن ما حصل لبعضهم من الاضطراب في قبول الصلح والكآبة منه إنما هو لمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإيثار ما يريد من إعلاء دينه وإظهاره لا عن شك في الدين... {فأنزل السكينة} أي بثبات القلوب وطمأنيتها في كل حالة ترضي الله ورسوله...
. {وأثابهم} أي أعطاهم جزاء لهم على ما وهبهم من الطاعة والسكينة فيها جزاء... {قريباً} بترك القتال الموجب بعد راحتهم وقوتهم وجمومهم لاختلاط بعض الناس ببعض فيدخل في الدين من كان مباعداً له لما يرى من محاسنه، فسيكون الفتح الأعظم فتح لمكة المشرفة الذي هو سبب لفتح جميع البلاد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الدرس كله حديث عن المؤمنين، وحديث مع المؤمنين. مع تلك المجموعة الفريدة السعيدة التي بايعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] تحت الشجرة. والله حاضر البيعة وشاهدها وموثقها، ويده فوق أيديهم فيها. تلك المجموعة التي سمعت الله تعالى يقول عنها لرسوله [صلى الله عليه وسلم]: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا).. وسمعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول لها: "أنتم اليوم خير أهل الأرض"..
حديث عنها من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله [صلى الله عليه وسلم] وحديث معها من الله سبحانه وتعالى:يبشرها بما أعد لها من مغانم كثيرة وفتوح؛ وما أحاطها به من رعاية وحماية في هذه الرحلة، وفيما سيتلوها؛ وفيما قدر لها من نصر موصول بسنته التي لا ينالها التبديل أبدا. ويندد بأعدائها الذين كفروا تنديدا شديدا. ويكشف لها عن حكمته في اختيار الصلح والمهادنة في هذا العام. ويؤكد لها صدق الرؤيا التي رآها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عن دخول المسجد الحرام. وأن المسلمين سيدخلونه آمنين لا يخافون. وأن دينه سيظهر على الدين كله في الأرض جميعا.
ويختم الدرس والسورة بتلك الصورة الكريمة الوضيئة لهذه الجماعة الفريدة السعيدة من أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وصفتها في التوراة وصفتها في الإنجيل، ووعد الله لها بالمغفرة والأجر العظيم..
(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم، وأثابهم فتحا قريبا، ومغانم كثيرة يأخذونها، وكان الله عزيزا حكيما)..
وإنني لأحاول اليوم من وراء ألف وأربعمائة عام أن أستشرف تلك اللحظة القدسية التي شهد فيها الوجود كله ذلك التبليغ العلوي الكريم من الله العلي العظيم إلى رسوله الأمين عن جماعة المؤمنين. أحاول أن أستشرف صفحة الوجود في تلك اللحظة وضميره المكنون؛ وهو يتجاوب جميعه بالقول الإلهي الكريم، عن أولئك الرجال القائمين إذ ذاك في بقعة معينة من هذا الوجود.. وأحاول أن أستشعر بالذات شيئا من حال أولئك السعداء الذين يسمعون بآذانهم، أنهم هم، بأشخاصهم وأعيانهم، يقول الله عنهم: لقد رضي عنهم. ويحدد المكان الذي كانوا فيه، والهيئة التي كانوا عليها حين استحقوا هذا الرضى: (إذ يبايعونك تحت الشجرة).. يسمعون هذا من نبيهم الصادق المصدوق، على لسان ربه العظيم الجليل..
يالله! كيف تلقوا -أولئك السعداء- تلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الإلهي؟ التبليغ الذي يشير إلى كل أحد، في ذات نفسه، ويقول له: أنت. أنت بذاتك. يبلغك الله. لقد رضي عنك. وأنت تبايع. تحت الشجرة! وعلم ما في نفسك. فأنزل السكينة عليك!
إن الواحد منا ليقرأ أو يسمع: (الله ولي الذين آمنوا).. فيسعد. يقول في نفسه: ألست أطمع أن أكون داخلا في هذا العموم؟ ويقرأ أو يسمع: (إن الله مع الصابرين).. فيطمئن. يقول في نفسه: ألست ارجو أن أكون من هؤلاء الصابرين؟ وأولئك الرجال يسمعون ويبلغون. واحدا واحدا. أن الله يقصده بعينه وبذاته. ويبلغه: لقد رضي عنه! وعلم ما في نفسه. ورضي عما في نفسه!
(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة).. (فعلم ما في قلوبهم. فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا)..
علم ما في قلوبهم من حمية لدينهم لا لأنفسهم. وعلم ما في قلوبهم من الصدق في بيعتهم. وعلم ما في قلوبهم من كظم لانفعالاتهم تجاه الاستفزاز، وضبط لمشاعرهم ليقفوا خلف كلمة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] طائعين مسلمين صابرين.
فانزل السكينة عليهم.. بهذا التعبير الذي يرسم السكينة نازلة في هينة وهدوء ووقار، تضفي على تلك القلوب الحارة المتحمسة المتأهبة المنفعلة، بردا وسلاما وطمأنينة وارتياحا.
(وأثابهم فتحا قريبا).. هو هذا الصلح بظروفه التي جعلت منه فتحا، وجعلته بدء فتوح كثيرة. قد يكون فتح خيبر واحدا منها. وهو الفتح الذي يذكره أغلب المفسرين على أنه هو هذا الفتح القريب الذي جعله الله للمسلمين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم). سكينة واطمئناناً لا حدّ لهما، وهم بين سيل الأعداء في نقطة بعيدة عن الأهل والديار والعدو مدجّج بالسلاح، في حين أن المسلمين عُزّل من السلاح «لأنّهم جاؤوا بقصد العمرة لا من أجل المعركة» فوقفوا كالجبل الأشم لم يجد الخوف طريقاً إلى قلوبهم...