179 وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ .
يقول تعالى مبينا كثرة الغاوين الضالين ، المتبعين إبليس اللعين : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا أي : أنشأنا وبثثنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ صارت البهائم أحسن حالة منهم .
لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا أي : لا يصل إليها فقه ولا علم ، إلا مجرد قيام الحجة .
وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا ما ينفعهم ، بل فقدوا منفعتها وفائدتها .
وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا سماعا يصل معناه إلى قلوبهم .
أُولَئِكَ الذين بهذه الأوصاف القبيحة كَالأنْعَامِ أي : البهائم ، التي فقدت العقول ، وهؤلاء آثروا ما يفنى على ما يبقى ، فسلبوا خاصية العقل .
بَلْ هُمْ أَضَلُّ من البهائم ، فإن الأنعام مستعملة فيما خلقت له ، ولها أذهان ، تدرك بها ، مضرتها من منفعتها ، فلذلك كانت أحسن حالا منهم .
أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ الذين غفلوا عن أنفع الأشياء ، غفلوا عن الإيمان باللّه وطاعته وذكره .
خلقت لهم الأفئدة والأسماع والأبصار ، لتكون عونا لهم على القيام بأوامر اللّه وحقوقه ، فاستعانوا بها على ضد هذا المقصود .
فهؤلاء حقيقون بأن يكونوا ممن ذرأ اللّه لجهنم وخلقهم لها ، فخلقهم للنار ، وبأعمال أهلها يعملون .
وأما من استعمل هذه الجوارح في عبادة اللّه ، وانصبغ قلبه بالإيمان باللّه ومحبته ، ولم يغفل عن اللّه ، فهؤلاء ، أهل الجنة ، وبأعمال أهل الجنة يعملون .
ويؤيد ما ذهبنا إليه في فهم الآية السابقة وأخواتها نص الآية التالية :
ولقد ذرانا لجهنم كثيراً من الجن والإنس . لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها . . أولئك كالأنعام ، بل هم أضل . . أولئك هم الغافلون . .
إن هؤلاء الكثيرين من الجن والإنس مخلوقون لجهنم ! وهم مهيأون لها ! فما بالهم كذلك ؟
الاعتبار الأول : أنه مكشوف لعلم الله الأزلي أن هؤلاء الخلق صائرون إلى جهنم . . وهذا لا يحتاج إلى بروز العمل الذي يستحقون به جهنم إلى عالم الواقع الفعلي لهم . فعلم الله سبحانه شامل محيط غير متوقف على زمان ولا على حركة ينشأ بعدها الفعل في عالم العباد الحادث .
والاعتبار الثاني : أن هذا العلم الأزلي - الذي لا يتعلق بزمان ولا حركة في عالم العباد الحادث - ليس هو الذي يدفع هذه الخلائق إلى الضلال الذي تستحق به جهنم . إنما هم كما تنص الآية :
( لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ) . .
فهم لم يفتحوا القلوب التي أعطوها ليفقهوا - ودلائل الإيمان والهدى حاضرة في الوجود وفي الرسالات تدركها القلوب المفتوحة والبصائر المكشوفة - وهم لم يفتحوا أعينهم ليبصروا آيات الله الكونية . ولم يفتحوا آذانهم ليسمعوا آيات الله المتلوة . لقد عطلوا هذه الأجهزة التي وهبوها ولم يستخدموها . . لقد عاشوا غافلين لا يتدبرون :
( أولئك كالأنعام ، بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون ) . .
والذين يغفلون عما حولهم من آيات الله في الكون وفي الحياة ؛ والذين يغفلون عما يمر بهم من الأحداث والغير فلا يرون فيها يد الله . . أولئك كالأنعام بل هم أضل . . فللأنعام استعدادات فطرية تهديها . أما الجن والإنس فقد زودوا بالقلب الواعي والعين المبصرة والأذن الملتقطة . فإذا لم يفتحوا قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ليدركوا . إذا مروا بالحياة غافلين لا تلتقط قلوبهم معانيها وغاياتها ؛ ولا تلتقط أعينهم مشاهدها ودلالاتها ؛ ولا تلتقط آذانهم إيقاعاتها وإيحاءاتها . . فإنهم يكونون أضل من الأنعام الموكولة إلى استعداداتها الفطرية الهادية . . ثم هم يكونون من ذرء جهنم ! يجري بهم قدر الله إليها وفق مشيئته حين فطرهم باستعداداتهم تلك ، وجعل قانون جزائهم هذا . فكانوا - كما هم في علم الله القديم - حصب جهنم منذ كانوا !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنّمَ كَثِيراً مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلََئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ أُوْلََئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ولقد خلقنا لجهنم كثيرا من الجنّ والإنس ، يقال منه : ذرأ الله خلقه يذرؤهم ذَرْءا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني عليّ بن الحسين الأزديّ ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، في قوله : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لجَهَنّمَ كَثِيرا مِنَ الجِنّ والإنْسِ قال : مما خلقنا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن مبارك ، عن الحسن ، في قوله : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لجَهَنّمَ قال : خلقنا .
قال : ثنا زكريا ، عن عَتّاب بن بشير ، عن عليّ بن بِذَيمة ، عن سعيد بن جبير ، قال : أولاد الزنا مما ذرأ الله لجهنم .
قال : ثنا زكريا بن عديّ وعثمان الأحول ، عن مروان بن معاوية ، عن الحسن بن عمرو ، عن معاوية ابن إسحاق ، عن جليس له بالطائف ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ اللّهَ لَمّا ذَرَأَ لجَهَنّمَ ما ذَرَأ ، كانَ وَلَدُ الزّنا مِمّنْ ذَرَأ لجَهَنّمَ » .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لجَهَنّمَ يقول : خلقنا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لجَهَنّمَ قال : لقد خلقنا لجهنم كثيرا من الجنّ والإنس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لجَهَنّمَ خلقنا .
وقال جلّ ثناؤه : وَلَقَدْ ذَرَأْنا لجَهَنّمَ كَثِيرا مِنَ الجِنّ والإنْس لنفاذ علمه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربهم .
وأما قوله : لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بها فإن معناه : لهؤلاء الذين ذرأهم الله لجهنم من خلقه قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله ، ولا يتدبرون بها أدلته على وحدانيته ، ولا يعتبرون بها حججه لرسله ، فيعلموا توحيد ربهم ، ويعرفوا حقيقة نبوّة أنبيائهم . فوصفهم ربنا جلّ ثناؤه بأنهم لا يفقهون بها لإعراضهم عن الحقّ وتركهم تدبر صحة الرشد وبطول الكفر . وكذلك قوله : ولَهُمْ أعيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بها معناه : ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته ، فيتأملوها ويتفكروا فيها ، فيعلموا بها صحة ما تدعوهم إليه رسلهم ، وفساد ما هم عليه مقيمون من الشرك بالله وتكذيب رسله فوصفهم الله بتركهم إعمالها في الحق بأنهم لا يبصرون بها . وكذلك قوله : ولَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بها آيات كتاب الله فيعتبروها ويتفكروا فيها ، ولكنهم يعرضون عنها ، ويقولون : لا تَسْمَعُوا لهذا القُرْآنِ والْغوا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ . وذلك نظير وصف الله إياهم في موضع آخر بقوله : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقلُونَ والعرب تقول ذلك للتارك استعمال بعض جوارحه فيما يصلح له ، ومنه قول مسكين الدارمي :
أعْمَى إذَا ما جارَتي خَرَجَت ***حتى يُوَاريَ جارَتي السّتْرُ
وأصَمّ عَمّا كانَ بَيْنَهُما ***سَمْعي وَما بالسّمْع مِنْ وَقْرِ
فوصف نفسه لتركه النظر والاستماع بالعمى والصمم . ومنه قول الاَخر :
وَعَوْرَاءِ اللّئامِ صَمَمْتُ عَنْها ***وإنّي لَوْ أشاءُ بِها سَمِيعُ
وبَادِرَةٍ وَزَعْتُ النّفْسَ عَنْها ***وَلَوْ بِينَتْ مِنَ العَصَبِ الضّلوعُ
وذلك كثير في كلام العرب وأشعارها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله : لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها قال : لا يفقهون بها شيئا من أمر الاَخرة . ولَهُمْ أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها الهدى . ولَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الحَقّ ثم جعلهم كالأنعام ، ثم جعلهم شرّا من الأنعام ، فقال : بَلْ هُمْ أضَلّ ثم أخبر أنهم هم الغافلون .
القول في تأويل قوله تعالى : أولَئِكَ كالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلّ أولئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : أُولَئِكَ كالأنْعامِ هؤلاء الذين ذرأهم لجهنم هم كالأنعام ، وهي البهائم التي لا تفقه ما يقال لها ولا تفهم ما أبصرته مما يصلح وما لا يصلح ولا تعقل بقلوبها الخير من الشرّ فتميز بينهما ، فشبههم الله بها ، إذ كانوا لا يتذكرون ما يرون بأبصارهم من حججه ، ولا يتفكرون فيما يسمعون من آي كتابه . ثم قال : بَلْ هُمْ أضَلّ يقول : هؤلاء الكفرة الذين ذرأهم لجهنم أشدّ ذهابا عن الحقّ وألزم لطريق الباطل من البهائم ، لأن البهائم لا اختيار لها ولا تمييز فتختار وتميّز ، وإنما هي مسخرة ومع ذلك تهرب من المضارّ وتطلب لأنفسها من الغذاء الأصلح . والذين وصف الله صفتهم في هذه الاَية ، مع ما أُعطوا من الأفهام والعقول المميزة بين المصالح والمضارّ ، تترك ما فيه صلاح دنياها وآخرتها وتطلب ما فيه مضارّها ، فالبهائم منها أسد وهي منها أضلّ ، كما وصفها به ربنا جلّ ثناؤه .
وقوله : أُولَئِكَ هُمُ الغافِلُونَ يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفت صفتهم ، القوم الذين غفلوا ، يعني سهوا عن آياتي وحججي ، وتركوا تدبرها والاعتبار بها والاستدلال على ما دلت عليه من توحيد ربها ، لا البهائم التي قد عرّفها ربها ما سخرها له .
{ ولقد ذرأنا } خلقنا . { لجهنم كثيرا من الجن والإنس } يعني المصرين على الكفر في علمه تعالى . { لهم قلوب لا يفقهون بها } إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في دلائله . { ولهم أعين لا يبصرون بها } أي لا ينظرون إلى ما خلق الله نظر اعتبار . { ولهم آذان لا يسمعون بها } الآيات والمواعظ سماع تأمل وتذكر . { أولئك كالأنعام } في عدم الفقه والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبر ، أو في أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها . { بل هم أضلّ } فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار ، وتجتهد في جلبها ودفعها غاية جهدها ، وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار . { أولئك هم الغافلون } الكاملون في الغفلة .
وصفت هذه الصنفة الكافرة المعرضة عن النظر في آيات الله بأن قلوبهم لا تفقه ، والفقه الفهم ، وأعينهم لا تبصر ، وآذانهم لا تسمع ، وليس الغرض من ذلك نفي هذه الإدراكات عن حواسهم جملة وإنما الغرض نفيها في جهة ما كما تقول : فلان أصم عن الخنا .
ومنه قول مسكين الدارمي : [ الكامل أحذ مضمر ]
أعمى إذا ما جارتي خرجت*** حتى يواري جارتي السترُ
وأصم عمّا كان بينهما*** عمداً وما بالسمعِ من وَقْرِ
وعوراء الكلام صممت عنها*** ولو أني أشاء بها سميع
وبادرة وزعت النفس عنها*** وقد بقيت من الغضب الضلوع
ومنه قول الآخر في وصاة من يدخل إلى دار ملك : [ مخلع البسيط ]
وادخل إذا ما دخلت أعمى*** واخرج إذا ما خرجت أخرسْ
فكأن هؤلاء القوم لما لم ينفعهم النظر بالقلب ولا بالعين ولا ما سمعوه من الآيات والمواعظ استوجبوا الوصف بأنهم { لا يفقهون } و { لا يبصرون } و { لا يسمعون } وفسر مجاهد هذا بأن قال : لهم قلوب لا يفقهون بها شيئاً من أمر الآخرة وأعين لا يبصرون بها الهدى وآذان لا يسمعون بها الحق ، و { أولئك } إشارة إلى من تقدم ذكره من الكفرة وشبههم بالأنعام في أن الأنعام لا تفقه قلوبهم الأشياء ولا تعقل المقاييس ، وكذلك ما تبصره لا يتحصل لها كما يجب ، فكذلك هؤلاء ما يبصرونه ويسمعونه لا يتحصل لهم منه علم على ما هو به حين أبصر وسمع ، ثم حكم عليهم بأنهم { أضل } ، لأن الأنعام تلك هي بنيتها وخلقتها لا تقصر في شيء ولا لها سبيل إلى غير ذلك ، وهؤلاء معدون للفهم وقد خلقت لهم قوى يصرفونها وأعطوا طرقاً في النظر فهم بغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضل على هذا ، ثم بين بقوله : { أولئك هم الغافلون } الطريق الذي به صاروا أضل من الأنعام وهو الغفلة والتقصير .
عطف على جملة : { واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا } [ الأعراف : 175 ] ، والمناسبة أن صاحب القصة المعطوف عليها انتقل من صورة الهدى إلى الضلال ، لأن الله لما خلقه خلقه ليكون من أهل جهنم ، مع مالها من المناسبة للتذييل الذي ختمت به القصة وهو قوله : { من يهد الله فهو المهتدي } [ الأعراف : 178 ] الآية .
وتأكيد الخبر بلام القسم وبقد ؛ لقصد تحقيقه لأن غرابته تُنزل سامعه خالي الذهن منه منزلةَ المتردد في تأويله ، ولأن المخبرَ عنهم قد وصفوا ب { لهم قلوب لا يفقهون بها } إلى قوله { بل هم أضل } ، والمعني بهم المشركون ، وهم ينكرون أنهم في ضلال ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، وكانوا يحسبون أنهم أصحاب أحلام وأفهام ، ولذلك قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم في معرض التهكم { قلوبنا في أكنةٍ مما تدعونا إليه وفي آذاننا وَقْرٌ } [ فصلت : 5 ] .
والذرْء الخلق وقد تقدم في قوله : { وجعلوا لله مما ذَرَأ من الحرث والأنعام نصيباً } في سورة الأنعام ( 136 ) . واللام في لجهنم } للتعليل ، أي خلقنا كثيراً لأجل جهنم .
وجهنم مستعملة هنا في الأفعال الموجبة لها بعلاقة المسببية ، لأنهم خلقوا لأعمال الضلالة المفضية إلى الكون في جهنم ، ولم يُخلقوا لأجل جهنم ، لأن جهنم لا يقصد إيجاد خلق لتعميرها ، وليست اللام لام العاقبة ؛ لعدم انطباق حقيقتها عليها ، وفي « الكشاف » جعلهم لاغراقهم في الكفر ، وأنهم لا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار ، مخلوقين للنار دلالة على تمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار اه ، وهذا يقتضي أن تكون الاستعارة في { ذرأنا } وهو تكلف راعى به قواعد الاعتزال في خَلق أفعال العباد وفي نسبة ذلك إلى الله تعالى .
وتقديم المجرور على المفعول في قوله : { لجهنم كثيراً } ليظهر تعلقه ب { ذرَأنَا } .
ومعنى خلق الكثير لأعمال الشر المفضية إلى النار : أن الله خلق كثيراً فجعل في نفوسهم قُوَى من شأنها إفساد ما أودعه في الناس من استقامة الفطرة المشار إليها في قوله : { وإذْ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } [ الأعراف : 172 ] وهي قوى الشهوة والغضب فخلقها أشد سلطانا على نفوسهم من القوة الفطرية المسماة الحكمة ، فجعلت الشهوةُ والغضب المسمّيْن بالهوى تغلب قوة الفطرة ، وهي الحكمة والرشاد ، فترجح نفوسهم دواعيَ الشهوة والغضب فتتبعها وتُعرض عن الفطرة ، فدلائلُ الحق قائمة في نفوسهم ، ولكنهم ينصرفون عنها ؛ لغلبة الهوى عليهم فَبِحَسَب خلقة نفوسهم غير ذات عزيمة على مقاومة الشهوات : جُعلوا كأنهم خلقوا لجهنم ، وكأنهم لم تخلق فيهم دواعي الحق في الفطرة .
والجن خَلْق غير مَرْئي لنا ، وظاهر القرآن أنهم عقلاء ، وأنهم مطبوعون على ما خلقوا لأجله من نفع أو ضر ، وخير أو شر ، ومنهم الشياطين ، وهذا الخلق لا قبل لنا بتفصيل نظامه ولا كيفيات تلقيه لمراد الله تعالى منه .
وقوله : { لهم قلوب } حال أو صفة لخصوص الإنس ، لأنهم الذين لهم : قلوب ، وعقول ، وعيون وآذان ، ولم يعرف للجن مثلُ ذلك ، وقد قدم الجن على الإنس في الذكر ، ليتعين كون الصفات الواردة من بعدُ صفات للإنس وبقرينة قوله : { أولئك كالأنعام } .
و { القلوب } اسم لموقع العُقول في اللغة العربية ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } في سورة البقرة ( 7 ) .
والفقه تقدم عند قوله : { لعلهم يفقهون } في سورة الأنعام ( 65 ) .
ومعنى نفي الفقه والإبصار والسمع عن آلالتها الكائنة فيهم أنهم عطلوا أعمالها بترك استعمالها في أهم ما تصلح له : وهو معرفة ما يحصل به الخير الأبدي ، ويدفع به الضر الأبدي ، لأن الآت الإدراك والعلم خلقها الله لتحصيل المنافع ودفع المضار ، فلما لم يستعملوها في جلب أفضل المنافع ودفع أكبر المضار ، نفي عنهم عملها على وجه العموم للمبالغة ، لأن الفعل في حيز النفي يعم ، مثل النكرة ، فهذا عام أريد به الخصوص للمبالغة لعدم الاعتداد بما يعلمون من غير هذا ، فالنفي إستعارة بتشبيه بعض الموجود بالمعدوم كله .
وليس في تقديم الأعين على الآذان مخالفة لما جرى عليه اصطلاح القرآن من تقديم السمع على البصر لتشريف السمع يتلقى ما أمر الله به كما تقدم عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ } [ البقرة : 7 ] لأن الترتيب في آية سورة الأعراف هذه سلك طريق الترقي من القلوب التي هي مقر المدركات إلى الآت الإدراك الأعين ثم الآذان فللاذان المرتبة الأولى في الارتقاء .
وجملة : { أولئك كالأنعام } مستأنفة لابتداء كلام بتفظيع حالهم فجعل ابتداء كلام ليكون أدعى للسامعين . وعرّفوا بالإشارة لزيادة تمييزهم بتلك الصفات ، وللتنبيه على أنهم بسببها أحرياء بما سيذكر من تسويتهم بالأنعام أو جعلهم أضل من الأنعام ، وتشبيههم بالأنعام في عدم الانتفاع بما ينتفع به العقلاء فكأن قلوبهم وأعينهم وآذانهم ، قلوب الأنعام وأعينها وآذانها ، في أنها لا تقيس الأشياء على أمثالها ، ولا تنتفع ببعض للدلائل العقلية فلا تعرف كثيراً مما يفضي بها إلى سوء العاقبة .
و ( بل ) في قوله : { بل هم أضل } للانتقال والترقي في التشبيه في الضلال وعدم الانتفاع بما يمكن الانتفاع به ، ولما كان وجه الشبه المستفاد من قوله : { كالأنعام } يؤول إلى معنى الضلال ، كان الارتقاء في التشبيه بطريقة اسم التفضيل في الضلال .
ووجه كونهم أضل من الأنعام : أن الأنعام لا يبلغ بها ضلالها إلى إيقاعها في مهاوي الشقاء الأبدي ، لأن لها إلهاماً تتفصى به عن المهالك كالتردي من الجبال والسقوط في الهوّات ، هذا إذا حمل التفضيل في الضلال على التفضيل في جنسه وهو الأظهر ، وإن حمل على التفضيل في كيفية الضلال ومقارناته كان وجهه أن الأنعام قد خلق إدراكها محدوداً لا يتجاوز ما خلقت لأجله ، فنقصان انتفاعها بمشاعرها ليس عن تقصير منها ، فلا تكون بمحل الملامة ، وأما أهل الضلالة فإنهم حجروا أنفسهم عن مدركاتهم ، بتقصير منهم وإعراض عن النظر والاستدلال فهم أضل سبيلاً من الأنعام .
وجملة : { أولئك هم الغافلون } تعليل لكونهم أضل من الأنعام وهو بلوغهم حد النهاية في الغفلة ، وبلوغهم هذا الحد أفيد بصيغة القصر الادعائي إذ ادُّعي انحصار صفة الغفلة فيهم بحيث لا يوجد غافل غيرهم لعدم الاعتداد بغفلة غيرهم كل غفلة في جانب غفلتهم كلا غفلة ، لأن غفلة هؤلاء تعلقت بأجدر الأشياء بأن لا يغفل عنه ، وهو ما تقضي الغفلة عنه بالغافل إلى الشقاء الأبدي ، فهي غفلة لا تدارك منها ، وعثرة لا لعى لها .
والغفلة عدم الشعور بما يحق الشعور به ، وأطلق على ضلالهم لفظ الغفلة بناء على تشبيه الإيمان بأنه أمر بيّن واضح يعد عدم الشعور به غفلة ، ففي قوله : { هم الغافلون } استعارة مكنية ضمنية ، والغفلة من روادف المشبه به ، وفي وصف { الغافلون } استعارة مصرحة بأنهم جاهلون أو منكرون .
وقد وقع التدرج في وصفهم بهذه الأوصاف من نفي انتفاعهم ، بمداركهم ثم تشبيههم بالأنعام ، ثم الترقي إلى أنهم أضل من الأنعام ، ثم قصر الغفلة عليهم .