{ 19 } { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
يدعو تبارك وتعالى أهل الكتاب -بسبب ما من عليهم من كتابه- أن يؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ويشكروا الله تعالى الذي أرسله إليهم على حين { فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ } وشدة حاجة إليه .
وهذا مما يدعو إلى الإيمان به ، وأنه يبين لهم جميع المطالب الإلهية والأحكام الشرعية .
وقد قطع الله بذلك حجتهم ، لئلا يقولوا : { مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } يبشر بالثواب العاجل والآجل ، وبالأعمال الموجبة لذلك ، وصفة العاملين بها . وينذر بالعقاب العاجل والآجل ، وبالأعمال الموجبة لذلك ، وصفة العاملين بها .
{ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } انقادت الأشياء طوعا وإذعانا لقدرته ، فلا يستعصي عليه شيء منها ، ومن قدرته أن أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وأنه يثيب من أطاعهم ويعاقب من عصاهم .
وينهي هذا البيان ، بتكرار النداء الموجه إلى أهل الكتاب ، يقطع به حجتهم ومعذرتهم ويقفهم أمام المصير وجها لوجه . بلا غبش ولا عذر ، ولا غموض :
( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل . . أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير . . فقد جاءكم بشير ونذير . والله على كل شيء قدير ) . .
وبهذه المواجهة الحاسمة ، لا تعود لأهل الكتاب جميعا حجة من الحجج . . لا تعود لهم حجة في أن هذا الرسول الأمي لم يرسل إليهم . فالله - سبحانه - يقول :
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا . .
ولا تعود لهم حجة في أنهم لم ينبهوا ولم يبشروا ولم ينذروا في مدى طويل ؛ يقع فيه النسيان ويقع فيه الانحراف . . فقد جاءهم - الآن - بشير ونذير . .
ثم يذكرهم أن الله لا يعجزة شيء . . لا يعجزه أن يرسل رسولا من الأميين . ولا يعجزه كذلك أن يأخذ أهل الكتاب بما يكسبون :
وتنتهي هذه الجولة مع أهل الكتاب ؛ فتكشف انحرافاتهم عن دين الله الصحيح الذي جاءتهم به رسلهم من قبل . وتقرر حقيقة الاعتقاد الذي يرضاه الله من المؤمنين . وتبطل حجتهم في موقفهم من النبي الأمي ؛ وتأخذ عليهم الطريق في الاعتذار يوم الدين . .
وبهذا كله تدعوهم إلى الهدى من ناحية ؛ وتضعف تأثير كيدهم في الصف المسلم من ناحية أخرى . وتنير الطريق للجماعة المسلمة ولطلاب الهدى جميعا . . إلى الصراط المستقيم . .
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ عَلَىَ فَتْرَةٍ مّنَ الرّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : يا أهْلَ الكِتابِ اليهود الذين كانوا بين ظهرانيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزلت هذه الاَية . وذلك أنهم أو بعضهم فيما ذُكِر لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الايمان به وبما جاءهم به من عند الله ، قالوا : ما بعث الله من نبيّ بعد موسى ، ولا أنزل بعد التوراة كتابا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثين محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود : يا معشر اليهود ، اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته . فقال رابع بن حَرْملة وهب بن يهوذا : أما قلنا هذا لكم وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده . فأنزل الله عزّ وجلّ في ( ذلك من ) قولهما : يا أهْلَ الكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ أنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنّ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
ويعني بقوله جلّ ثناؤه : قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا : قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم رسولنا ، يُبَيّنُ لَكُمْ يقول : يعرّفكم الحقّ ، ويوضح لكم أعلام الهدى ، ويرشدكم إلى دين الله المرتضى . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَينُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، جاء بالفرقان الذي فرق الله به بين الحقّ والباطل ، فيه بيان الله ونوره وهداه ، وعصمة لمن أخذ به .
عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ يقول : على انقطاع من الرسل . والفّترة في هذا الموضع : الانقطاع ، يقول : قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحقّ والهدى على انقطاع من الرسل . والفترة : الفَعْلة ، من قول القائل : فَتَر هذا الأمر يَفْتُر فتورا ، وذلك إذا هدأ وسكن ، وكذلك الفَترة في هذا الموضع معناها : السكون ، يراد به سكون مجِييء الرسُل ، وذلك انقطاعها .
ثم اختلف أهل التأويل في قدر مدة تلك الفترة ، فاختُلف في الرواية في ذلك عن قتادة . فروى معمر عنه ، ما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : على فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ قال : كان بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم خمسمائة وستون سنة . وروى سعيد بن أبي عَرُوبة عنه ، ما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، ذكر لنا أنها كانت ستمائة سنة ، أو ما شاء من ذلك الله أعلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أصحابه ، قوله : قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَينُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ قال : كان بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم خمسمائة سنة وأربعون سنة . قال معمر : قال قتادة : خمسمائة سنة وستون سنة . وقال آخرون بما :
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : على فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ قال : كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم أربعمائة سنة وبضعا وثلاثين سنة .
ويعين بقوله : أنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ : أن لا تقولوا ، وكي لا تقولوا ، كما قال جلّ ثناؤه : يُبّينُ اللّهُ لكُمْ أنْ تَضِلّوا بمعنى : أن لا تضلوا ، وكي لا تضلوا . فمعنى الكلام : قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ، كي لا تقولوا : ما جاءنا من بشير ولا نذير . يُعلمهم عزّ ذكره أنه قد قطع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم ، وأبلغ إليهم في الحجة . ويعني بالبشير : المبشر من أطاع الله وآمن به وبرسوله وعمل بما آتاه من عند الله بعظيم ثوابه في آخرته ، وبالنذير المنذر من عصاه وكذّب رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه بما لا قِبَل له به من أليم عقابه في معاده وشديد عذابه في قيامته .
القول في تأويل قوله تعالى : فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
يقول جلّ ثناؤه لهؤلاء اليهود الذين وصفنا صفتهم : قد أعذرنا إليكم ، واحتججنا عليكم برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إليكم ، وأرسلناه إليكم ، ليبين لكم ما أشكل عليكم من أمر دينكم ، كيلا تقولوا لم يأتنا من عندك رسول يبين لنا ما نحن عليه من الضلالة ، فقد جاءكم من عندي رسول ، يبشر من آمن بي وعمل بما أمرتُهُ ، وانتهى عما نهيته عنه ، ويُنذر من عصاني وخالف أمري ، وأنا القادر على كلّ شيء ، أقدر على عقاب من عصاني وثواب من أطاعني ، فاتقوا عقابي على معصيتكم إياي وتكذيبكم رسولي ، واطلبوا ثوابي على طاعتكم إياي ، وتصديقكم بشيري ونذيري ، فإني أنا الذي لا يعجزه شيء أراده ولا يفوته شيء طلبه .
{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم } أي الدين ، وحذف لظهوره ، أو ما كتمتم وحذف لتقدم ذكره ويجوز أن لا يقدر مفعول على معنى يبذل لكم البيان والجملة في موضع الحال أي جاءكم رسولنا مبينا لكم . { على فترة من الرسل } متعلق بجاءكم أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي ، أو يبين حال من الضمير فيه . { أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير } كراهة أن تقولوا ذلك وتعتذروا به . { فقد جاءكم بشير ونذير } متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا ب{ ما جاءنا } فقد جاءكم . { والله على كل شيء قدير } فيقدر على الإرسال تترى كما فعل بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، إذ كان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي ، وعلى الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كان بينهما ستمائة أو خمسمائة وتسع وستون سنة وأربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي ، وفي الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وكانوا أحوج ما يكونون إليه .