تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28)

ومن ذلك : الناس والدواب ، والأنعام ، فيها من اختلاف الألوان والأوصاف والأصوات والهيئات ، ما هو مرئي بالأبصار ، مشهود للنظار ، والكل من أصل واحد ومادة واحدة .

فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة اللّه تعالى ، التي خصصت ما خصصت منها ، بلونه ، ووصفه ، وقدرة اللّه تعالى حيث أوجدها كذلك ، وحكمته ورحمته ، حيث كان ذلك الاختلاف ، وذلك التفاوت ، فيه من المصالح والمنافع ، ومعرفة الطرق ، ومعرفة الناس بعضهم بعضا ، ما هو معلوم .

وذلك أيضا ، دليل على سعة علم اللّه تعالى ، وأنه يبعث من في القبور ، ولكن الغافل ينظر في هذه الأشياء وغيرها نظر غفلة لا تحدث له التذكر ، وإنما ينتفع بها من يخشى اللّه تعالى ، ويعلم بفكره الصائب وجه الحكمة فيها .

ولهذا قال : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } فكل من كان باللّه أعلم ، كان أكثر له خشية ، وأوجبت له خشية اللّه ، الانكفاف عن المعاصي ، والاستعداد للقاء من يخشاه ، وهذا دليل على فضيلة العلم ، فإنه داع إلى خشية اللّه ، وأهل خشيته هم أهل كرامته ، كما قال تعالى : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }

{ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } كامل العزة ، ومن عزته خلق هذه المخلوقات المتضادات .

{ غَفُورٌ } لذنوب التائبين .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28)

وقوله : وَمِنَ النّاسِ وَالدّوَابّ والأنْعامِ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ كما من الثمرات والجبال مختلف ألوانه بالحُمرة والبياض والسواد والصفرة ، وغير ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ألَمْ تَرَ أنّ اللّهَ أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً فأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفا ألْوَانُها أحمر وأخضر وأصفر . وَمِنَ الجِبالِ جُددٌ بِيضٌ : أي طرائق بيض وحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُها أي جبال حمر وبيض وَغَرابِيبُ سُودٌ هو الأسود ، يعني لونه كما اختلف ألوان هذه اختلف ألوان الناس والدوابّ والأنعام كذلك .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَمِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ طرائق بيض ، وحمر وسود ، وكذلك الناس مختلف ألوانهم .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا مروان ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك قوله وَمِنَ الجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ قال : هي طرائق حمر وسود .

وقوله : إنّمَا يَخْشى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ يقول تعالى ذكره : إنما يخاف اللّهَ فيتقي عقابه بطاعته العلماءُ ، بقدرته على ما يشاء من شيء ، وأنه يفعل ما يريد ، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته ، فخافه ورهبه خشية منه أن يعاقبه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ قال : الذين يعلمون أن الله على كلّ شيء قدير .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ قال : كان يقال : كفى بالرهبة عِلما .

وقوله : إنّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ يقول تعالى ذكره : إن الله عزيز في انتقامه ممن كفر به ، غفور لذنوب من آمن به وأطاعه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (28)

{ وَمِنَ الناس والدوآب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه } .

موقعه كموقع قوله : { ومن الجبال جدد } [ فاطر : 27 ] ، ولا يلزم أن يكون مسوغ الابتداء بالنكرة غير مفيد معنى آخر فإن تقديم الخبر هنا سوغ الابتداء بالنكرة .

واختلاف ألوان الناس منه اختلاف عام وهو ألوان أصناف البشر وهي الأبيض والأسود والأصفر والأحمر حسب الاصطلاح الجغرافي . وللعرب في كلامهم تقسيم آخر لألوان أصناف البشر ، وقد تقدم عند قوله : { واختلاف ألسنتكم وألوانكم } في سورة الروم ( 22 ) .

ومن } تبعيضية . والمعنى : أن المختلف ألوانه بعض من الناس ، ومجموع المختلفات كله هو الناس كلهم وكذلك الدواب والأنعام ، وهو نظم دقيق دعا إليه الإِيجاز .

وجيء في جملة { ومن الجبال جدد } [ فاطر : 27 ] و { من الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه } بالاسمية دون الفعلية كما في الجملة السابقة لأن اختلاف ألوان الجبال والحيوان الدال على اختلاف أحوال الإِيجاد اختلافاً دائماً لا يتغير وإنما يحصل مرة واحدة عند الخلق وعند تولد النسل .

{ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عزيز غفور } .

الأظهر عندي أن { كذلك } ابتداء كلام يتنزل منزلة الإِخبار بالنتيجة عقب ذكر الدليل . والمعنى : كذلك أمر الاختلاف في ظواهر الأشياء المشاهد في اختلاف ألوانها وهو توطئة لما يرد بعده من تفصيل الاستنتاج بقوله : { إنما يخشى الله من عباده } أي إنما يخشى الله من البشر المختلفة ألوانهم العلماء منهم ، فجملة { إنما يخشى الله من عباده العلماء } مستأنفة عن جملة { كذلك } . وإذا علم ذلك دل بالالتزام على أن غير العلماء لا تتأتّى منهم خشية الله فدلّ على أن البشر في أحوال قلوبهم ومداركهم مختلفون . وهذا مثل قوله : { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } [ فاطر : 18 ] .

وأوثر هذا الأسلوب في الدلالة تخلصاً للتنويه بأهل العلم والإِيمان لينتقل إلى تفصيل ذلك بقوله : { إن الذين يتلون كتاب الله } [ فاطر : 29 ] الآية . . .

فقوله : { كذلك } خبر لمبتدأ محذوف دل عليه المقام . والتقدير : كذلك الاختلاف ، أو كذلك الأمر على نحو قوله تعالى في سورة الكهف ( 91 ) : { كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً } وهو من فصل الخطاب كما علمت هنالك ولذلك يحسن الوقف على ما قبله ويستأنف ما بعده .

وأما جعل { كذلك } من توابع الكلام السابق فلا يناسب نظم القرآن لضعفه .

والقصر المستفاد من { إنما } قصر إضافي ، أي لا يخشاه الجهال ، وهم أهل الشرك فإن من أخص أوصافهم أنهم أهل الجاهلية ، أي عدم العلم ؛ فالمؤمنون يومئذٍ هم العلماء ، والمشركون جاهلون نفيت عنهم خشية الله . ثم إن العلماء في مراتب الخشية متفاوتون في الدرجات تفاوتاً كثيراً . وتقديم مفعول { يخشى } على فاعله لأن المحصور فيهم خشية الله هم العلماء فوجب تأخيره على سنة تأخير المحصور فيه .

والمراد بالعلماء : العلماء بالله وبالشريعة ، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقْوَى الخشية ؛ فأما العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقربة لهم من خشية الله ، ذلك لأن العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعية فهو يفهم مواقعها حق الفهم ويرعاها في مواقعها ويعلم عواقبها من خير أو شر ، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مراد الله ومقصدُ شرعه ، فإنْ هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات لداعي شهوة أو هوى أو تعجل نفع دنيوي كان في حال المخالفة موقناً أنه مورَّط فيما لا تحمد عقباه ، فذلك الإِيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإِقلاع أو الإِقلال .

وغير العالم إن اهتدى بالعلماء فسعيه مثل سعي العلماء وخشيته متولدة عن خشية العلماء . قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد « والعلم دليل على الخيرات وقائد إليها ، وأقرب العلماء إلى الله أولاهم به وأكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة » .

وجملة { إن الله عزيز غفور } تكميل للدلالة على استغناء الله تعالى عن إيمان المشركين ولكنه يريد لهم الخير . ولما كان في هذا الوصف ضرب من الإِعراض عنهم مما قد يحدث يأساً في نفوس المقاربين منهم ، أُلِّفَتْ قلوبهم بإتباع وصف { عزيز } ، بوصف { غفور } أي فهو يقبل التوبة منهم إن تابوا إلى ما دعاهم الله إليه على أن في صفة { غفور } حظاً عظيماً لأحد طرفي القصر وهم العلماء ، أي غفور لهم .