{ 6 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }
وهذا أيضًا ، من الآداب التي على أولي الألباب ، التأدب بها واستعمالها ، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره ، ولا يأخذوه مجردًا ، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا ، ووقوعًا في الإثم ، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل ، حكم بموجب ذلك ومقتضاه ، فحصل من تلف النفوس والأموال ، بغير حق ، بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة ، بل الواجب عند خبر الفاسق ، التثبت والتبين ، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه ، عمل به وصدق ، وإن دلت على كذبه ، كذب ، ولم يعمل به ، ففيه دليل ، على أن خبر الصادق مقبول ، وخبر الكاذب ، مردود ، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا ، ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير [ من ] الخوارج ، المعروفين بالصدق ، ولو كانوا فساقًا .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوَاْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىَ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ عن قوم فَتَبَيّنُوا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : فَتَبَيّنُوا فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة «فَتَثَبّتُوا » بالثاء ، وذُكر أنها في مصحف عبد الله منقوطة بالثاء . وقرأ ذلك بعض القرّاء فتبيّنوا بالباء ، بمعنى : أمهلوا حتى تعرفوا صحته ، لا تعجلوا بقبوله ، وكذلك معنى «فَتَثَبّتُوا » .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وذُكر أن هذه الاَية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط . ذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، عن موسى بن عبيدة ، عن ثابت موْلى أمّ سلمة ، عن أمّ سلمة ، قالت : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في صدقات بني المصطلق بعد الوقعة ، فسمع بذلك القوم ، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فحدّثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، قالت : فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قال : فبلغ القوم رجوعه قال : فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفوا له حين صلى الظهر فقالوا : نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله بعثت إلينا رجلاً مصدّقا ، فسررنا بذلك ، وقرّت به أعيننا ، ثم إنه رجع من بعض الطريق ، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله ، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال ، وأذّن بصلاة العصر قال : ونزلت يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا على ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ . . . الاَية ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، ثم أحد بني عمرو بن أمية ، ثم أحد بني أبي معيط إلى بني المصطلق ، ليأخذ منهم الصدقات ، وإنه لما أتّاهم الخبر فرحوا ، وخرجوا لِيَتَلقّوْا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنه لما حدّث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه ، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا ، فبينما هو يحدّث نفسه أن يغزوهم ، إذ أتاه الوفد ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا حدّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق ، وإنا خشينا أن يكون إنما ردّه كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فأنزل الله عذرهم في الكتاب ، فقال يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبإٍ فَتَبَيّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا على ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ قال : الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ، ليصدّقهم ، فتلقوه بالهدية فرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن بني المصطلق جمعت لتقاتلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ . . . حتى بلغ بِجَهالَةٍ وهو ابن أبي معيط الوليد بن عقبة ، بعثه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم مصدّقا إلى بني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه ، فهابهم ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أنهم قد ارتدّوا عن الإسلام ، فبعث نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ، وأمره أن يتثبّت ولا يعجل ، فانطلق حتى أتاهم ليلاً ، فبعث عيونه فلما جاؤوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد ، فرأى الذي يعجبه ، فرجع إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره الخبر ، فأنزل الله عزّ وجلّ ما تسمعون ، فكان نبيّ الله يقول : «التّبَيّنُ مِنَ اللّهِ ، والعَجَلَةُ مِنَ الشّيْطانِ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فذكر نحوه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن هلال الوزّان ، عن ابن أبي ليلى ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيّنُوا قال : نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن حُمَيد ، عن هلال الأنصاري ، عن عبد الرحمن ابن أبي لَيلى إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ قال : نزلت في الوليد بن عقبة حين أُرسل إلى بني المصطلق .
قال : ثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم ، الوليد بن أبي معيط فلما سمعوا به ركبوا إليه فلما سمع بهم خافهم فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أن القوم قد همّوا بقتله ، ومنعوا ما قِبَلهم من صدقاتهم ، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتى همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يغزوهم ، فبينما هم في ذلك قَدِم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا ، فخرجنا إليه لنكرمه ، ولنؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فاستمرّ راجعا ، فبلغنا أنه يزعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خرجنا إليه لنقاتله ، ووالله ما خرجنا لذلك فأنزل الله في الوليد بن عقبة وفيهم : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ . . . الاَية .
قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه إلى قوم يصدقهم ، فأتاهم الرجل ، وكان بينه وبينهم إحنة في الجاهلية فلما أتاهم رحبوا به ، وأقرّوا بالزكاة ، وأعطوا ما عليهم من الحقّ ، فرجع الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، منع بنو فلان الصدقة ، ورَجعوا عن الإسلام ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث إليهم فأتوْه فقال : «أمَنَعْتُمُ الزّكاةَ ، وَطَرَدْتمْ رَسُولي ؟ » فقالوا : والله ما فعلنا ، وإنا لنعلم أنك رسول الله ، ولا بدّ لنا ، ولا منعنا حقّ الله في أموالنا ، فلم يصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الاَية ، فعذرهم .
وقوله : أنْ تُصِيبُوا قَوْما بِجَهالَةٍ يقول تعالى ذكره : فتبيّنوا لئلا تصيبوا قوما برآء مما قُذفوا به بجناية بجهالة منكم فَتُصْبِحُوا على ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ يقول : فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها .
هذا نداء ثالث ابتدىء به غرض آخر وهو آداب جماعات المؤمنين بعضهم مع بعض وقد تضافرت الروايات عند المفسرين عن أم سلمة وابن عباس والحارث بن ضرارة الخزاعي أن هذه الآية نزلت عن سبب قضية حدثت . ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الويد بن عقبة بن أبي مُعيط إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتي بصدقاتهم فلمّا بلغهم مجيئه ، أو لمّا استبطأُوا مجيئه ، فإنهم خرجوا لتلقيه أو خرجوا ليبلغوا صدقاتهم بأنفسهم وعَليهم السلاح ، وأن الوليد بلغه أنهم خرجوا إليه بتلك الحالة وهي حالة غير مألوفة في تلقي المصدقين وحدثته نفسه أنهم يريدون قتله ، أو لما رآهم مقبلين كذلك على اختلاف الروايات خاف أن يكونوا أرادوا قتله إذ كانت بينه وبينهم شحناء من زمن الجاهلية فولّى راجعاً إلى المدينة .
هذا ما جاء في روايات أربع متفقة في صفة خروجهم إليه مع اختلافها في بيان الباعث لهم على ذلك الخروج وفي أن الوليد أُعلم بخروجهم إليه أو رآهم أو استشعرت نفسه خوفاً وأن الوليد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن بني المصطلق أرادوا قتلي وأنهم منعوا الزكاة فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يبعث إليهم خالدَ بن الوليد لينظر في أمرهم ، وفي رواية أنه بعث خالداً وأمره بأن لا يغزوهم حتى يستثبت أمرهم وأن خالداً لما بلغ ديار القوم بعث عيناً له ينظر حالهم فأخبره أنهم يقيمون الأذان والصلاة فأخبرهم بما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقبض زكاتهم وقفل راجعاً . وفي رواية أخرى أنهم ظنوا من رجوع الوليد أن يُظن بهم منع الصدقات فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج خالد إليهم متبرئين من منع الزكاة ونية الفتك بالوليد بن عقبة . وفي رواية أنهم لما وصلوا إلى المدينة وجدوا الجيش خارجاً إلى غزوهم . فهذا تلخيص هذه الروايات وهي بأسانيد ليس منها شيء في « الصحيح » .
وقد روي أن سبب نزول هذه الآية قضيتان أخريان ، وهذا أشهر . ولنشتغل الآن ببيان وجه المناسبة لموقع هذه الآية عقب التي قبلها فإن الانتقال منها إلى هذه يقتضي مناسبة بينهما ، فالقصتان متشابهتان إذ كان وفد بني تميم النازلةُ فيهم الآية السابقة جاؤوا معتذرين عن ردهم ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبض صدقات بني كعب بن العنبر من تميم كما تقدم ، وبنو المصطلق تبرُّؤوا من أنهم يمنعون الزكاة إلا أن هذا يُناكِده بُعد ما بين الوقتين إلا أن يكون في تعيين سنة وفد بني تميم وَهَم .
وإعادة الخطاب ب { يا أيها الذين آمنوا } وفصله بدون عاطف لتخصيص هذا الغرض بالاهتمام كما علمت في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } .
فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً للمناسبة المتقدم ذكرها .
ولا تعلق لهذه الآية بتشريع في قضية بني المصطلق مع الوليد بن عقبة لأنها قضية انقضت وسُويت .
والفاسق : المتصف بالفسوق ، وهو فعل ما يحرمه الشرع من الكبائر . وفسر هنا بالكاذب قاله ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله .
وأوثر في الشرط حرف { إن } الذي الأصل فيه أن يكون للشرط المشكوك في وقوعه للتنبيه على أن شأن فعل الشرط أن يكون نادر الوقوع لا يقدم عليه المسلمون . واعلم أن ليس الآية ما يقتضي وصف الوليد بالفاسق تصريحاً ولا تلويحاً .
وقد اتفق المفسرون على أن الوليد ظنّ ذلك كما في « الإصابة » عن ابن عبد البر وليس في الروايات ما يقتضي أنه تعمد الكذب . قال الفخر : « إن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد شيء بعيد لأنه توهَّم وظن فأخطأ ، والمخطىء لا يسمى فاسقاً » . قلت : ولو كان الوليد فاسقاً لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تعنيفه واستتابته فإنه روى أنه لم يزد على قوله له « التبيّن من الله والعجلة من الشيطان » ، إذ كان تعجيل الوليد الرجوع عجلة . وقد كان خروج القوم للتعرض إلى الوليد بتلك الهيئة مثار ظنِّه حقاً إذ لم يكن المعروف خروج القبائل لتلقّي السعاة . وأنا أحسب أن عملهم كان حيلة من كبرائهم على انصراف الوليد عن الدخول في حيّهم تعيُّراً منهم في نظر عامتهم من أن يدخل عدوّ لهم إلى ديارهم ويتولى قبض صدقاتهم فتُعيرهم أعداؤهم بذلك يمتعض منهم دهماؤهم ولذلك ذهبوا بصدقاتهم بأنفسهم في رواية أو جاؤوا معتذرين قبل مجيء خالد بن الوليد إليهم في رواية أخرى .
ويؤيد هذا ما جاء في بعض روايات هذا الخبر أن الوليد أعلم بخروج القوم إليه ، وسَمع بذلك فلعل ذلك الإعلام موعَز به إليه ليخاف فيرجع . وقد اتفق من ترجموا للوليد بن عقبة على أنه كان شجاعاً جواداً وكان ذا خلق ومروءة . واعلم أن جمهور أهل السنة على اعتبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عدولاً وإن كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به فهو من أصحابه . وزاد بعضهم شرط أن يروي عنه أو يلازمه ومال إليه المازري . قال في « أماليه » في أصول الفقه « ولسنا نعني بأصْحَاب النبي كل من رآه أو زاره لماماً إنما نريد أصحابه الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وأولئك هم المفلحون شهد الله لهم بالفلاح » اهـ . وإنما تلقف هذه الأخبار الناقمون على عثمان إذ كان من عداد مناقمهم الباطلة أنه أولى الوليد بن عقبة إمارة الكوفة فحملوا الآية على غير وجهها وألصقوا بالوليد وصف الفاسق ، وحاشاه منه لتكون ولايته الإمارة باطلاً .
وعلى تسليم أن تكون الآية إشارة إلى فاسق معين فلماذا لا يحمل على إرادة الذي أعلم الوليدَ بأن القوم خرجوا له ليصدّوه عن الوصول إلى ديارهم قصداً لإرجاعه .
وفي بعض الروايات أن خالداً وصل إلى ديار بني المصطلق . وفي بعضها أن بني المصطلق وردوا المدينة معتذرين ، واتفقت الروايات على أن بين بني المصطلق وبين الوليد بن عقبة شَحناء من عهد الجاهلية . وفي الرواية أنهم اعتذروا للتسلح بقصد إكرام ضيفهم . وفي السيرة الحلبية أنهم قالوا : خشِينا أن يبادئنا بالذي كان بيننا من شحناء . وهذه الآية أصل في الشهادة والرواية من وجوب البحث عن دخيلة من جُهل حال تقواه . وقد قال عمر بن الخطاب لا يُؤسر أحد في الإسلام بغير العدول ، وهي أيضاً أصل عظيم في تصرفات ولاة الأمور وفي تعامل الناس بعضهم مع بعض من عدم الإصغاء إلى كل ما يروى ويخبر به .
والخطاب ب { يا أيها الذين آمنوا } مراد به النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ويشمل الوليد بن عقبة إذ صدق من أخبره بأن بني المصطلق يريد له سوءاً ومن يأتي من حكام المؤمنين وأمرائهم لأن المقصود منه تشريع تعديل من لا يعرف بالصدق والعدالة . ومجيء حرف { إن } في هذا الشرط يومىء إلى أنه مما ينبغي أن لا يقع إلا نادراً .
والتبين : قوة الإبانة وهو متعد إلى مفعول بمعنى أبان ، أي تأملوا وأبينوا . والمفعول محذوف دل عليه قوله بنبإ أي تبينوا ما جاء به وإبانة كل شيء بحسبها . والأمر بالتبيّن أصل عظيم في وجوب التثبت في القضاء وأن لا يتتبع الحاكم القيل والقال ولا ينصاع إلى الجولان في الخواطر من الظنون والأوهام .
ومعنى { فتبينوا } تبينوا الحق ، أي من غير جهة ذلك الفاسق . فخبر الفاسق يكون داعياً إلى التتبع والتثبت يصلح لأن يكون مستنداً للحكم بحال من الأحوال وقد قال عمر بن الخطاب « لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول » .
وإنما كان الفاسق معرَّضاً خبره للريبة والاختلاق لأن الفاسق ضعيف الوازع الديني في نفسه ، وضعف الوازع يجرئه على الاستخفاف بالمحظور وبما يخبر به في شهادة أو خَبَر يترتب عليهما إضرار بالغير أو بالصالح العام ويقوي جُرأته على ذلك دوماً إذا لم يتب ويندم على ما صدر منه ويقلع عن مثله .
والإشراك أشد في ذلك الاجتراء لقلة مراعاة الوازع في أصول الإشراك . وتنكير { فاسق } ، و { نَبإ } ، في سياق الشرط يفيد العموم في الفساق بأي فسق اتصفوا ، وفي الأنباء كيف كانت ، كأنه قيل : أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبَإ فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشافه .
وقرأ الجمهور { فتبينوا } بفوقية فموحدة فتحتية فنون من التبيّن ، وقرأ حمزة والكسائي وخلَف فتثبتوا بفوقية فمُثلثَة فموحدة ففوقية من التثبت . والتبيّن : تطلب البيان وهو ظهور الأمر ، والتثبت التحري وتطلب الثبات وهو الصدق .
ومآل القراءتين واحد وإن اختلف معناهما . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « التثبّتُ من الله والعجلة من الشيطان » .
وموقع { أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا } الخ نصباً على نزع الخافض وهو لام التعليل محذوفة . ويجوز كونه منصوباً على المفعول لأجله .
والمعلل باللام المحذوفة أو المقدرة هو التثبت ، فمعنى تعليله بإصابة يقع إثرها الندم هو التثبت . فمعنى تعليله بإصابة يقع آخرها الندم أن الإصابة علة تحمل على التثبت للتفادي منها فلذلك كان معنى الكلام على انتفاء حصول هذه الإضافة لأن العلة إذا صلحت لإثبات الكف عن فعل تصلح للإتيان بضده لتلازم الضد . وتقدم نظير هذا التعليل في قوله : { أن تحبط أعمالكم } [ الحجرات : 2 ] في هذه السورة .
وهذا التحذير من جراء قبول خبر الكاذب يدل على تحذير من يخطر له اختلاق خبر مما يترتب على خبره الكاذب من إصَابة الناس . وهذا بدلالة فحوى الخطاب .
والجهالة : تطلق بمعنى ضد العلم ، وتطلق بمعنى ضد الحِلم مثل قولهم : جَهْل كجهل السيف ، فإن كان الأول ، فالباء للملابسة وهو ظرف مستقر في موضع الحال ، أي متلبسين أنتم بعدم العلم بالواقع لتصديقكم الكاذب ، ومتعلق { تصيبوا } على هذا الوجه مَحذوف دل عليه السياق سابقاً ولاحقاً ، أي أن تصيبوهم بضرّ ، وأكثر إطلاق الإصابة على إيصال الضرّ وعلى الإطلاق الثاني الباء للتعدية ، أي أن تصيبوا قوماً بفعل من أثر الجهالة ، أي بفعل من الشدة والإضرار .
ومعنى { فتصبحوا } فتصيروا لأن بعض أخوات ( كان ) تستعمل بمعنى الصيرورة . والندم : الأسف على فعل صدر . والمراد به هنا الندم الديني ، أي الندم على التورط في الذنب للتساهل وترك تطلب وجوه الحق .
وهذا الخطاب الذي اشتمل عليه قوله : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } موجه ابتداء للمؤمنين المخبَرين بفتح الباء كل بحسب أثره بما يبلغ إليه من الأخبار على اختلاف أغراض المخبِرين بكسر الباء . ولكنّ هذا الخطاب لا يترك المخبِرين بكسر الباء بمعزل عن المطالبة بهذا التبيّن فيما يتحملونه من الأخبار وبتوخّي سوء العاقبة فيما يختلقونه من المختلقات ولكن هذا تبيّن وتثبت يخالف تبيُّن الآخر وتثبته ، فهذا تثبت من المتلقي بالتمحيص لما يتلقاه من حكاية أو يطرق سمعه من كلام والآخر تمحيص وتمييز لحال المخبر . واعلم أن هذه الآية تتخرج منها أربع مسائل من الفقه وأصوله :
المسألة الأولى : وجوب البحث عن عدالة من كان مجهول الحال في قبول الشهادة أو الرواية عند القاضي وعند الرواة . وهذا صريح الآية وقد أشرنا إليه آنفاً .
المسألة الثانية : أنها دالة على قبول خبر الواحد الذي انتفت عنه تهمة الكذب في شهادته أو روايته وهو الموسوم بالعدالة ، وهذا من مدلول مفهوم الشرط في قوله : { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } وهي مسألة أصولية في العمل بخبر الواحد .
المسألة الثالثة : قيل إن الآية تدل على أن الأصل في المجهول عدم العدالة ، أي عدم ظن عدالته فيجب الكشف عن مجهول الحال فلا يعمل بشهادته ولا بروايته حتى يبحث عنه وتثبت عدالته .
وهذا قول جمهور الفقهاء والمحدثين وهو قول مالك . وقال بعضهم : الأصل في الناس العدالة وينسب إلى أبي حنيفة فيقبل عنده مجهول الباطن ويعبر عنه بمستور الحال . أما المجهول باطنُه وظاهره معاً فحكي الاتفاق على عدم قبول خبره ، وكأنهم نظروا إلى معنى كلمة الأصل العقلي دون الشرعي ، وقد قيل : إن عمر بن الخطاب كان قال : « المسلمون عدول بعضهم عن بعض » وأنه لما بلغه ظهور شهادة الزور رَجع فقال : « لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول » . ويستثنى من هذا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأصل أنهم عدول حتى يثبت خلاف ذلك بوجه لا خلاف فيه في الدين ولا يختلف فيه اجتهاد المجتهدين . وإنما تفيد الآية هذا الأصل إذا حُمل معنى الفاسق على ما يشمل المتهم بالفسق .
المسألة الرابعة : دل قوله : { فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } أنه تحذير من الوقوع فيما يوجب الندم شرعاً ، أي ما يوجب التوبة من تلك الإصابة ، فكان هذا كناية عن الإثم في تلك الإصابة فحُذر ولاة الأمور من أن يصيبوا أحداً بضر أو عقاب أو حد أو غرم دون تبيّن وتحقق توجه ما يوجب تسليط تلك الإصابة عليه بوجه يوجب اليقين أو غلبة الظن وما دون ذلك فهو تقصير يؤاخذ عليه ، وله مراتب بينها العلماء في حكم خطها القاضي وصِفةِ المخطىء وما ينقض من أحكامه . وتقديم المجرور على متعلَّقه في قوله : { على ما فعلتم نادمين } للاهتمام بذلك الفعل ، وهو الإصابة بدون تثبت والتنبيه على خطر أمره .