{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }
يخاطب الله الناس كافة ، بأن يتقوا ربهم ، الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فحقيق بهم أن يتقوه ، بترك الشرك والفسوق والعصيان ، ويمتثلوا أوامره ، مهما استطاعوا .
ثم ذكر ما يعينهم على التقوى ، ويحذرهم من تركها ، وهو الإخبار بأهوال القيامة ، فقال :
{ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } لا يقدر قدره ، ولا يبلغ كنهه ، ذلك بأنها إذا وقعت الساعة ، رجفت الأرض وارتجت ، وزلزلت زلزالها ، وتصدعت الجبال ، واندكت ، وكانت كثيبا مهيلا ، ثم كانت هباء منبثا ، ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج .
فهناك تنفطر السماء ، وتكور الشمس والقمر ، وتنتثر النجوم ، ويكون من القلاقل والبلابل ما تنصدع له القلوب ، وتجل منه الأفئدة ، وتشيب منه الولدان ، وتذوب له الصم الصلاب ، ولهذا قال : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } .
بِسمِ اللّهِ الرحمَن الرّحِيمِ
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ إِنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النّاسَ سُكَارَىَ وَمَا هُم بِسُكَارَىَ وَلََكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ } .
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : يا أيها الناس احذروا عقاب ربكم بطاعته ، فأطيعوه ولا تعصُوه ، فإن عقابه لمن عاقبه يوم القيامة شديد . ثم وصف جلّ ثناؤه هول أشراط ذلك اليوم وبدوّه ، فقال : إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةٍ شَيْءٌ عَظِيمٌ .
واختلف أهل العلم في وقت كون الزلزلة التي وصفها جلّ ثناؤه بالشدّة ، فقال بعضهم : هي كائنة في الدنيا قبل يوم القيامة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، في قوله : إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ قال : قبل الساعة .
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدنية ، عن عطاء ، عن عامر : يا أيّها النّاسُ اتقُوا رَبّكُمْ إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظيمٌ قال : هذا في الدنيا قبل يوم القيامة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج في قوله : إنّ زَلْزَلَةَ السَاعَةِ فقال : زلزلتها : أشراطها . . . الاَيات يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَملَها وَتَرَى الناسَ سُكارَى وَما هُمْ بِسُكارَى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن عامر : يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبكُمْ إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ قال : هذا في الدنيا من آيات الساعة .
وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحو ما قال هؤلاء خبر ، في إسناده نظر وذلك ما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع المدني ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لمَا فَرَغَ اللّهُ منْ خَلْقِ السمَوَاتِ والأرْضِ ، خَلَقَ الصّوْرَ فأعْطاهُ إسْرَافِيلَ ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلى فيهِ ، شاخِصٌ بِبَصَرِهِ إلى العَرْشِ ، يَنْتَظِرُ مَتى يُؤْمَرُ . » قال أبو هريرة : يا رسول الله ، وما الصور ؟ قال : «قَرْنٌ » . قال : وكيف هو ؟ قال : «قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فيهِ ثَلاثّ نَفَخاتٍ ، الأُولى : نَفْخَةُ الفَزَعِ ، والثانيَةُ : نَفْخَةُ الصّعْقِ ، والثالِثَةُ : نَفْخَةُ القِيامِ لِرَبّ العالَمِينَ . يَأْمُرُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ إسْرافيلَ بالنّفْخَةِ الأُولى ، فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ فَيَفْزَعُ أهْلُ السّمَواتِ والأَرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ الله ، ويَأْمُرُ اللّهُ فَيُدِيمُها وَيُطَوّلها ، فَلا يَفْتُرُ ، وَهِيَ التِي يَقُولُ اللّهُ : ما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ فَيُسَيّرُ اللّهُ الجِبالَ فَتَكُونُ سَرَابا ، وَتُرَجّ الأرْضُ بأهلها رَجّا ، وَهِيَ الّتِي يَقُولُ اللّهُ : يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ تَتْبَعُها الرّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ، فَتَكُونُ الأرْض كالسّفِينَةِ الموبَقَةِ في البَحْرِ تَضْرِبُها الأَمْوَاجُ تُكْفَأُ بأَهْلها ، أوْ كالقِنْديلِ المُعَلّقِ بالعَرْشِ تُرَجّحُهُ الأَرْوَاحُ فَتَمِيدُ الناسُ عَلى ظَهْرِها فَتَذْهَلُ المَرَاضِعُ ، وَتَضَعُ الحَوَامِلُ ، وَتَشِيبُ الولْدَانُ ، وَتَطيرُ الشياطِينُ هارِبَةً حتى تَأْتي الأَقْطار فَتَلَقّاها المَلائِكَةُ فَتَضْرِبُ وُجُوهَها ، فَترْجِعُ وَيُوَلّي النّاس مُدْبِرِينَ يُنادِي بَعْضَهُمْ بَعْضَا ، وَهُوَ الذِي يَقُولُ اللّهُ : يَوْمَ التنادِ يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادٍ فَبَيْنَما هُمْ عَلى ذلكَ ، إذْ تَصَدّعَتِ الأرْضُ مِنْ قُطْرٍ إلى قُطْرٍ ، فَرَأوْا أمْرا عَظِيما ، وأَخَذَهُمْ لِذَلكَ مِن الكَرْبِ ما اللّهُ أعْلَمُ بِهِ ، ثُمّ نَظَرُوا إلى السّماءِ فإذَا هِيَ كالمُهْلِ ، ثُم خُسِفَ شمْسُها وخُسِفَ قَمَرُها وَانْتَثرَتْ نُجُومُها ، ثُمّ كُشِطَتْ عَنْهُمْ » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والأمْوَاتُ لا يَعْلَمُون بِشَيْءٍ مِنْ ذلكَ » فقال أبو هريرة : فمن استثنى لله حين يقول : فَفَزِعَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللّهُ ؟ قال : «أُولَئِكَ الشّهَدَاءُ ، وإنّمَا يَصلُ الفَزَعُ إلى الأحْياء ، أُولَئِكَ أحْياءٌ عِنْدَ رَبّهمْ يُرْزَقُونَ ، وَقاهُمُ اللّهُ فَزَعَ ذلكَ اليَوْم وآمَنَهُمْ . وَهُوَ عَذَابُ اللّهِ يَبْعَثُهُ عَلى شِرَارِ خَلْقِهِ ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ : يا أيها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ . . . إلى قوله : وَلَكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ » .
وهذا القول الذي ذكرناه عن علقمة والشعبيّ ومن ذكرنا ذلك عنه قولٌ ، لولا مجيء الصحاح من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمعاني وحي الله وتنزيله . والصواب من القول في ذلك ما صحّ به الخبر عنه . ذكر الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا :
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي يحدّث عن قتادة ، عن صاحب له حدّثه ، عن عمران بن حُصين ، قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه وقد فاوت السّير بأصحابه ، إذ نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الاَية : «يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ » . قال : فحَثّوا المطيّ ، حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «هَلْ تَدْرُونَ أيّ يَوْمٍ ذَلكَ ؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : «ذلكَ يَوْمَ يُنادَى آدَمُ ، يُنادِيهِ رَبّهُ : ابْعَثْ بَعْثَ النارِ ، مِنْ كُلّ ألْفٍ تِسْعَ مِئَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إلى النّارِ » قال : فأبلس القوم ، فما وضح منهم ضاحك ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ألا احْمَلُوا وأبْشِرُوا ، فإنّ مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْنِ ما كانَتا فِي قَوْمٍ إلاّ كَثَرَتاهُ ، فَمَنْ هَلَكَ مِنْ بَني آدَمَ ، وَمَنْ هَلَكَ مِنْ بَني إبْلِيسَ وَيأْجُوجَ وَمأْجُوجَ » . قال : «أبْشِرُوا ، ما أنْتُمْ فِي النّاسِ إلاّ كالشّامَةِ فِي جَنْبِ البَعِيرِ ، أو كالرّقْمة في جَناحِ الدّابَة » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا هشام بن أبي عبد الله ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم . وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي وحدثنا ابن أبي عديّ ، عن هشام جميعا ، عن قَتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، عن البنيّ صلى الله عليه وسلم بمثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قَتادة ، عن العلاء بن زياد عن عمران ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العُسْرة ، ومعه أصحابه ، بعد ما شارف المدينة ، قرأ : يا أيّها النّاسُ اتقُوا رَبكُمْ إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها . . . الاَية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتَدْرُونَ أيّ يوم ذَاكُمْ » ؟ قيل : الله ورسوله أعلم . فذكر نحوه ، إلا أنه زاد : «وإنّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولانِ إلاّ كانَ بَيْنَهُما فَتْرَةٌ مِنَ الجاهِلِيّةِ ، فَهُمْ أهْلُ النّارِ وإنّكُمْ بينَ ظَهْرَانْي خَلِيقَتَيْنِ لا يُعادّهما أحدٌ مِنْ أهْلِ الأرْضِ إلاّ كَثَرُوهُمْ ، وَهُمْ يَأْجُوجُ وَمأجُوجُ ، وَهُمْ أهْلُ النارِ ، وَتَكْمُلُ العِدّةُ مِنَ المُنافِقِينَ » .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي سعيد ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «يُقالُ لاَدَمَ : أخْرِجْ بَعْثَ النّار ، قالَ : فَيَقُولُ : وَما بَعْثُ النّارِ ؟ فَيَقُولُ : مِنْ كُلّ ألْفٍ تِسْعَ مئَةٍ وتِسْعَةً وَتِسْعِينَ . فَعِنْدَ ذلكَ يَشِيبُ الصّغِيرُ ، وَتَضَعُ الحاملُ حَمَلها ، وَتَرَى النّاسَ سُكارَى وَما هُمْ بِسُكارَى ، وَلَكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَديدٌ » . قالَ : قُلْنا فَأين الناجي يا رسول الله ؟ قال : «أبْشِرُوا فإنّ وَاحِدا منْكُمْ وألْفا منْ يَأْجُوجَ وَمأجُوجَ » . ثُمّ قالَ : «إنّي لأَطْمَعُ أنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهلِ الجَنّةِ » فَكَبّرْنا وحَمِدْنا اللّهَ . ثم قال : «إنّي لأَطْمَعُ أنْ تكُونُوا ثُلُثَ أهْلِ الجَنةِ » فكَبّرْنا وحَمِدْنا اللّهَ . ثم قال : «إنّي لأطْمَعُ أنْ تَكُونُوا نِصْفَ أهْلِ الجَنةِ إنّمَا مَثَلُكُمْ فِي النّاسِ كمَثَلِ الشّعْرَةِ البَيْضَاءِ في الثّوْرِ الأسْوَدِ ، أو كَمَثلِ الشّعْرَةِ السّوْدَاءِ فِي الثوْرِ الأبْيَضِ » .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخُدْريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَقُول اللّهُ لاَدَمَ يَوْمَ القِيامَةِ » ثم ذكر نحوه .
حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرمليّ ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحشر ، قال : «يقولُ اللّهُ يَوْمَ القِيامَةِ يا آدَمُ فَيَقُولُ : لَبّيْكَ وَسَعْدَيْكَ والخَيْرُ بِيَدَيْكَ فَيَقُولُ : ابْعَثْ بَعْثا إلى النّارِ » . ثم ذكر نحوه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، عن أنس قال : نزلت يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ . . . حتى إلى : عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ . . . الاَية على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في مسير ، فرجّع بها صوته ، حتى ثاب إليه أصحابه ، فقال : «أتَدْرُونَ أيّ يَوْمٍ هَذَا ؟ هَذَا يَوْمَ يَقُولُ اللّهُ لاَدَمَ : يا آدَمُ قُمْ فابْعَثَ النارِ مِنْ كُلّ ألْفٍ تِسْعَ مئَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ » فكُبر ذلك على المسلمين ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «سَدّدُوا وَقارِبُوا وأبْشِرُوا فَوَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما أنْتُمْ فِي الناسِ إلاّ كالشّامَةِ في جَنْبِ البَعِيرِ ، أو كالرّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدّابّةِ ، وإنّ مَعَكُمْ لَخَلِيقَتَيْنِ ما كانَتا فِي شَيْءٍ قَطّ إلاّ كَثَرَتاهُ : يَأْجُوجُ وَمأْجُوجُ ، وَمَنْ هَلَكَ من كَفَرَةِ الجِنّ والإنْسِ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، قال : دخلت على ابن مسعود بيت المال ، فقال : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «أتَرْضَوْنَ أن تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنةِ ؟ » قُلنا نعم ، قال : «أتَرْضَوْنَ أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أهْلِ الجَنةِ ؟ » قلنا : نعم قال : «فوَالّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ، إنّي لأرْجُوا أنْ تَكُونّوا شَطْرَ أهْلِ الجَنّةِ ، وَسأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذلكَ إنّه لا يَدْخُلُ الجَنّةَ إلاّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ ، وَإنّ قِلّةَ المُسْلِمِينَ فِي الكُفّارِ يَوْمَ القِيامَةِ كالشّعْرَةِ السّوْدَاءِ فِي الثّوْرِ الأبْبَضِ ، أو كالشّعْرَةِ البَيْضَاءِ فِي الثّوْرِ الأسْوَدِ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ قال : هذا يوم القيامة .
والزلزلة : مصدر من قوله القائل : زلزلتُ بفلان الأرض أزلزلها زلزلة وزِلزالاً ، بكسر الزاي من الزّلزال ، كما قال الله : إذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا وكذلك المصدر من كل سليم من الأفعال إذا جاءت على فِعلال فبكسر أوّله ، مثل وَسْوس وَسْوَسَة ووِسْواسا ، فإذا كان اسما كان بفتح أوّله الزّلزال والوَسْواس ، وهو ما وسوس إلى الإنسان ، كما قال الشاعر :
يَعْرِف الجاهِلُ المُضَلّلُ أنّ الدّ *** هْرَ فِيهِ النّكْرَاءُ والزّلْزَالُ
هذه السورة مكية سوى ثلاث آيات قوله ' هذان خصمان{[1]} ' إلى تمام ثلاث آيات . قاله ابن عباس ومجاهد وروي أيضا عن ابن عباس أنهن أربع آيات إلى قوله ' عذاب الحريق ' وقال الضحاك هي مدنية وقال قتادة سورة الحج مدنية إلا أربع آيات من قوله ' وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته{[2]} ' إلى قوله ' عذاب يوم عقيم ' فهن مكيات وعد النقاش ما نزل بالمدينة عشر آيات وقال الجمهور مختلطة فيها مكي ومدني وهذا هو الأصح والله أعلم لأن الآيات تقتضي ذلك{[3]} وروي عن أنس بن مالك أنه قال نزل أول السورة في السفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى بها فاجتمع الناس إليه فقال أتدرون أي يوم هذا فبهتوا فقال يوم يقول الله يا آدم أخرج بعث النار فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال فاغتم الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشروا فمنكم رجل ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل الحديث . {[4]}
صدر الآية تحذير بجميع العالم ثم أوجب الخبر وأكده بأمر { زلزلة } القيامة وهي إحدى شرائطها وسماها «شيئاً » إما لأنها حاصلة متيقن وقوعها فيستسهل لذلك أن تسمى شيئاً .
وهي معدومة إذا اليقين بها يشبهها بالموجودات وأما على المآل أي هي أذا وقعت شيء عظيم فكأنه لم يطلق الاسم الآن بل المعنى أنها كانت فهي حينئذ شيء عظيم ، والزلزلة التحريك العنيف{[8291]} وذلك مع نفخة الفزع ومع نفحة الصعق حسبما تضمن حديث أبي هريرة{[8292]} من ثلاث نفخات ومن لفظ الزلزلة قول الشاعر : [ الخفيف ]
يعرف الجاهل المضلل أن . . . الدهر فيه النكراء والزلزال{[8293]}
فيحتمل أن تكون «الزلزلة » في الآية عبارة عن أهوال يوم القيامة كما قال تعالى { مستهم البأساء والضراء وزلزوا }{[8294]} [ البقرة : 214 ] وكما قال عليه السلام «اللهم اهزمهم وزلزلهم »{[8295]} ، والجمهور على أن { زلزلة الساعة } هي كالمعهودة في الدنيا إلا أنها في غاية الشدة ، واختلف المفسرون في «الزلزلة » المذكورة هل هي في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم القيامة ، أم هي في يوم القيامة على جميع العالم ؟ فقال الجمهور هي في الدنيا .
سميت هذه السورة الحج في زمن النبي صلى الله عليه وسلم . أخرج أبو داود ، والترمذي عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين? قال : نعم . وأخرج أبو داود ، وابن ماجه عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل ، وفي سورة الحج سجدتان . وليس لهذه السورة اسم غير هذا .
ووجه تسميتها سورة الحج أن الله ذكر فيها كيف أمر إبراهيم عليه السلام بالدعوة إلى حج البيت الحرام ، وذكر ما شرع للناس يومئذ من النسك تنويها بالحج وما فيه من فضائل ومنافع ، وتقريعا للذين يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام وإن كان نزولها قبل أن يفرض الحج على المسلمين بالاتفاق ، وإنما فرض الحج بالآيات التي في سورة البقرة وفي سورة آل عمران .
واختلف في هذه السورة هل هي مكية أو مدنية . أو كثير منها مكي وكثير منها مدني .
فعن ابن عباس ومجاهد وعطاء : هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله { هذان خصمان } إلى { وذوقوا عذاب الحريق } . قال ابن عطية : وعد النقاش ما نزل منها بالمدينة عشر آيات .
وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة والحسن : هي مدنية إلا آيات { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } إلى قوله تعالى { أو يأتيهم عذاب يوم مقيم } فهن مكيات .
وعن مجاهد ، عن ابن الزبير : أنها مدنية . ورواه العوفي عن ابن عباس .
وقال الجمهور هذه السورة بعضها مكي وبعضها مدني وهي مختلطة ، أي لا يعرف المكي بعينه ، والمدني بعينه . قال ابن عطية : وهو الأصح .
وأقول : ليس هذا القول مثل ما يكثر أن يقولوه في بضع آيات من عدة سور : إنها نزلت في غير البلد الذي نزل فيه أكثر السورة المستثنى منها ، بل أرادوا أن كثيرا منها مكي وأن مثله أو يقاربه مدني ، وأنه لا يتعين ما هو مكي منها وما هو مدني ولذلك عبروا بقولهم : هي مختلطة . قال ابن عطية : روي عن أنس ابن مالك أنه قال : نزل أول السورة في السفر فنادى رسول الله بها فاجتمع إليه الناس وساق الحديث الذي سيأتي . يريد ابن عطية أن نزولها في السفر يقتضي أنها نزلت بعد الهجرة .
ويشبه أن يكون أولها نزل بمكة فإن افتتاحها ب{ يا أيها الناس } جار على سنن فواتح السور المكية . وفي أساليب نظم كثير من آياتها ما يلائم أسلوب القرآن النازل بمكة . ومع هذا فليس الافتتاح ب{ يا أيها الناس } بمعين أن تكون مكية ، وإنما قال ابن عباس { يا أيها الناس } يراد به المشركون . ولذا فيجوز أن يوجه الخطاب به إلى المشركين في المدينة في أول مدة حلول النبي صلى الله عليه وسلم بها ، فإن قوله { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام } يناسب أنه نزل بالمدينة حيث صد المشركون النبي والمؤمنين عن البقاء معهم بمكة . وكذلك قوله { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } فإنه صريح في أنه نزل في شان الهجرة .
روى الترمذي بسنده عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ليهلكن فأنزل الله { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } ، وكذلك قوله { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا } ففيه ذكر الهجرة وذكر من يقتل من المهاجرين وذلك مؤذن بجهاد متوقع كما سيجيء هنالك .
وأحسب أنه لم تتعين طائفة منها متوالية نزلت بمكة ونزل ما بعدها بالمدينة بل نزلت آياتها متفرقة . ولعل ترتيبها كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك كثير .
وقد قيل في قوله تعالى { هذان خصمان اختصموا في ربهم } إنه نزل في وقعة بدر ، لما في الصحيح عن علي وأبي ذر : أنها نزلت في مبارزة حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث مع شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر وكان أبو ذر يقسم على ذلك .
ولذلك فأنا أحسب هذه السورة نازلا بعضها آخر مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كما يقتضيه افتتاحها ب{ يا أيها الناس } فقد تقرر أن ذلك الغالب في أساليب القرآن المكي ، وأن بقيتها نزلت في مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
سميت هذه السورة الحج في زمن النبي صلى الله عليه وسلم . أخرج أبو داود ، والترمذي عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين? قال : نعم . وأخرج أبو داود ، وابن ماجه عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل ، وفي سورة الحج سجدتان . وليس لهذه السورة اسم غير هذا .
ووجه تسميتها سورة الحج أن الله ذكر فيها كيف أمر إبراهيم عليه السلام بالدعوة إلى حج البيت الحرام ، وذكر ما شرع للناس يومئذ من النسك تنويها بالحج وما فيه من فضائل ومنافع ، وتقريعا للذين يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام وإن كان نزولها قبل أن يفرض الحج على المسلمين بالاتفاق ، وإنما فرض الحج بالآيات التي في سورة البقرة وفي سورة آل عمران .
واختلف في هذه السورة هل هي مكية أو مدنية . أو كثير منها مكي وكثير منها مدني .
فعن ابن عباس ومجاهد وعطاء : هي مكية إلا ثلاث آيات من قوله { هذان خصمان } إلى { وذوقوا عذاب الحريق } . قال ابن عطية : وعد النقاش ما نزل منها بالمدينة عشر آيات .
وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة والحسن : هي مدنية إلا آيات { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } إلى قوله تعالى { أو يأتيهم عذاب يوم مقيم } فهن مكيات .
وعن مجاهد ، عن ابن الزبير : أنها مدنية . ورواه العوفي عن ابن عباس .
وقال الجمهور هذه السورة بعضها مكي وبعضها مدني وهي مختلطة ، أي لا يعرف المكي بعينه ، والمدني بعينه . قال ابن عطية : وهو الأصح .
وأقول : ليس هذا القول مثل ما يكثر أن يقولوه في بضع آيات من عدة سور : إنها نزلت في غير البلد الذي نزل فيه أكثر السورة المستثنى منها ، بل أرادوا أن كثيرا منها مكي وأن مثله أو يقاربه مدني ، وأنه لا يتعين ما هو مكي منها وما هو مدني ولذلك عبروا بقولهم : هي مختلطة . قال ابن عطية : روي عن أنس ابن مالك أنه قال : نزل أول السورة في السفر فنادى رسول الله بها فاجتمع إليه الناس وساق الحديث الذي سيأتي . يريد ابن عطية أن نزولها في السفر يقتضي أنها نزلت بعد الهجرة .
ويشبه أن يكون أولها نزل بمكة فإن افتتاحها ب{ يا أيها الناس } جار على سنن فواتح السور المكية . وفي أساليب نظم كثير من آياتها ما يلائم أسلوب القرآن النازل بمكة . ومع هذا فليس الافتتاح ب{ يا أيها الناس } بمعين أن تكون مكية ، وإنما قال ابن عباس { يا أيها الناس } يراد به المشركون . ولذا فيجوز أن يوجه الخطاب به إلى المشركين في المدينة في أول مدة حلول النبي صلى الله عليه وسلم بها ، فإن قوله { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام } يناسب أنه نزل بالمدينة حيث صد المشركون النبي والمؤمنين عن البقاء معهم بمكة . وكذلك قوله { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } فإنه صريح في أنه نزل في شان الهجرة .
روى الترمذي بسنده عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ليهلكن فأنزل الله { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } ، وكذلك قوله { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا } ففيه ذكر الهجرة وذكر من يقتل من المهاجرين وذلك مؤذن بجهاد متوقع كما سيجيء هنالك .
وأحسب أنه لم تتعين طائفة منها متوالية نزلت بمكة ونزل ما بعدها بالمدينة بل نزلت آياتها متفرقة . ولعل ترتيبها كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك كثير .
وقد قيل في قوله تعالى { هذان خصمان اختصموا في ربهم } إنه نزل في وقعة بدر ، لما في الصحيح عن علي وأبي ذر : أنها نزلت في مبارزة حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث مع شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر وكان أبو ذر يقسم على ذلك .
ولذلك فأنا أحسب هذه السورة نازلا بعضها آخر مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كما يقتضيه افتتاحها ب{ يا أيها الناس } فقد تقرر أن ذلك الغالب في أساليب القرآن المكي ، وأن بقيتها نزلت في مدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
وروى الترمذي وحسنه وصححه عن ابن أبي عمر ، عن سفيان عن ابن جدعان ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين أنه لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } إلى قوله { ولكن عذاب الله شديد } . قال : أنزلت عليه هذه وهو في سفر? فقال : { أتدرون } وساق حديثا طويلا . فاقتضى قوله : أنزلت عليه وهو في سفر? أن هذه السورة أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة فإن أسفاره كانت في الغزوات ونحوها بعد الهجرة .
وفي رواية عنه أن ذلك السفر في غزوة بني المصطلق من خزاعة وتلك الغزوة في سنة أربع أو خمس ، فالظاهر من قوله { أنزلت وهو في سفر } أن عمران بن حصين لم يسمع الآية إلا يومئذ فظنتها أنزلت يومئذ فإن عمران بن حصين ما أسلم إلا عام خيبر وهو عام سبعة ، أو أن أحد رواة الحديث أدرج كلمة أنزلت عليه وهو في سفر في كلام عمران بن حصين ولم يقله عمران . ولذلك لا يوجد هذا اللفظ فيما ما روى الترمذي وحسنه وصححه أيضا عن محمد ابن بشار ، عن يحيى بن سعيد عن هشام بن أبي عبد الله عن قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين قال : كنا مع النبي في سفر فرفع صوته بهاتين الآيتين { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } إلى قوله { ولكن عذاب الله شديد } إلى آخره . فرواية قتادة عن الحسن أثبت من رواية ابن جدعان عن الحسن ، لأن ابن جدعان واسمه علي بن زيد قال فيه أحمد وأبو زرعة : ليس بالقوي . وقال فيه ابن خزيمة : سيء الحفظ ، وقد كان اختلط فينبغي عدم اعتماد ما انفرد به من الزيادة . وروى ابن عطية عن أنس بن مالك أنه قال : أنزل أول هذه السورة على رسول الله في سفر . ولم يسنده ابن عطية .
وذكر القرطبي عن الغزنوي أنه قال : سورة الحج من أعاجيب السور نزلت ليلا ونهارا ، سفرا وحضرا ، مكيا ومدنيا ، سلميا وحربيا ، ناسخا ومنسوخا ، محكما ومتشابها .
وقد عدت السورة الخامسة والمائة في عداد نزول سورة القرآن في رواية جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : نزلت بعد سورة النور وقبل سورة المنافقين . وهذا يقتضي أنها عنده مدنية كلها لأن سورة النور وسورة المنافقين مدنيتان فينبغي أن يتوقف في اعتماد هذا فيها .
وعدت آياتها عند أهل المدينة ومكة : سبعا وسبعين . وعدها أهل الشام : أربعا وسبعين . وعدها أهل البصرة : خمسا وسبعين : وعدها أهل الكوفة : ثمانا وسبعين .
ومن أغراض هذه السورة : خطاب الناس بأمرهم أن يتقوا الله ويخشوا يوم الجزاء وأهواله .
والاستدلال على نفي الشرك وخطاب المشركين بأن يقلعوا عن المكابرة في الاعتراف بانفراد الله تعالى بالإلهية وعن المجادلة في ذلك اتباعا لوساوس الشياطين ، وأن الشياطين لا تغني عنهم شيئا ولا ينصرونهم في الدنيا وفي والآخرة .
وتفظيع جدال المشركين في الوحدانية بأنهم لا يستندون إلى علم وأنهم يعرضون عن الحجة ليضلوا الناس .
وأنهم يرتابون في البعث وهو ثابت لا ريبة فيه وكيف يرتابون فيه بعلة استحالة الإحياء بعد الإماتة ولا ينظرون أن الله أوجد الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم طوره أطورا .
وأن الله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتحيا وتخرج من أصناف النبات ، فالله هو القادر على كل ذلك . فهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير .
وأن مجادلتهم بإنكار البعث صادرة عن جهالة وتكبر عن الامتثال لقول الرسول صلى الله عليه وسلم .
ووصف المشركين بأنهم في تردد من أمرهم في اتباع دين الإسلام .
والتعريض بالمشركين بتكبرهم عن سنة إبراهيم عليه السلام الذي ينتمون إليه ويحسبون أنهم حماة دينه وأمناء بيته وهم يخالفونه في أصل الدين .
وتذكير لهم بما من الله عليهم في مشروعية الحج من المنافع فكفروا نعمته .
وتنظيرهم في تلقي دعوة الإسلام بالأمم البائدة الذين تلقوا دعوة الرسل بالإعراض والكفر فحل بهم العذاب .
وأنه يوشك أن يحل بهؤلاء مثله فلا يغرهم تأخير العذاب فإنه إملاء من الله لهم كما أملى للأمم من قبلهم . وفي ذلك تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا ، وبشارة لهم بعاقبة النصر على الذين فتنوهم وأخرجوهم من ديارهم بغير حق .
وأن اختلاف الأمم بين أهل هدى وأهل ضلال أمر به افترق الناس إلى ملل كثيرة .
وأن يوم القيامة هو يوم الفصل بينهم لمشاهدة جزاء أهل الهدى وجزاء أهل الضلال .
وأن المهتدين والضالين خصمان اختصموا في أمر الله فكان لكل فريق جزاؤه .
وسلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الشيطان يفسد في قلوب أهل الضلالة آثار دعوة الرسل ولكن الله يحكم دينه ويبطل ما يلقي الشيطان فلذلك ترى الكافرين يعرضون وينكرون آيات القرآن .
وفيها التنويه بالقرآن والمتلقين له بخشية وصبر . ووصف المفار بكراهيتهم القرآن وبغض المرسل به . والثناء على المؤمنين وأن الله يسر لهم أتباع الحنيفية وسماهم المسلمين .
والإذن للمسلمين بالقتال وضمان النصر والتمكين في الأرض لهم .
وختمت السورة بتذكير الناس بنعم الله عليهم وأن الله اصطفى خلقا من الملائكة ومن الناس فأقبل على المؤمنين بالإرشاد إلى ما يقربهم إلى الله زلفى وأن الله هو مولاهم وناصرهم .
نداء للناس كلهم من المؤمنين وأهل الكتاب والمشركين الذين يسمعون هذه الآية من الموجودين يومَ نزولها ومن يأتون بعدهم إلى يوم القيامة ، ليتلقوا الأمر بتقوى الله وخشيته ، أي خشية مخالفة ما يأمرهم به على لسان رسوله ، فتقوى كل فريق بحسب حالهم من التلبس بما نهى الله عنه والتفريط فيما أمر به ، ليستبدلوا ذلك بضده .
وأول فريق من الناس دخولاً في خطاب { ياأيها الناس } هم المشركون من أهل مكة حتى قيل إن الخطاب بذلك خاص بهم . وهذا يشمل مشركي أهل المدينة قبل صفائها منهم .
وفي التعبير عن الذات العلية بصفة الرب مضافاً إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى استحقاقه أن يُتَّقَى لعظمته بالخالقية ، وإلى جدارة الناس بأن يتقوه لأنه بصفة تدبير الربوبية لا يأمر ولا ينهى إلا لمرعي مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم .
وكلا الأمرين لا يفيده غير وصف الرب دون نحو الخالق والسيّد .
وتعليق التقوى بذات الرب يقتضي بدلالة الاقتضاء معنى اتقاء مخالفته أو عقابه أو نحو ذلك لأن التقوى لا تتعلق بالذات بل بشأننٍ لها مناسببٍ للمقام . وأول تقواه هو تنزيهه عن النقائص ، وفي مقدمة ذلك تنزيهه عن الشركاء باعتقاد وحدانيته في الإلهية .
وجملة { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } في موضع العلة للأمر بالتقوى كما يفيده حرف التوكيد الواقع في مقام خطاببٍ لا تردد للسامع فيه .
والتعليل يقتضي أن لزلزلة الساعة أثراً في الأمر بالتقوى وهو أنه وقت لحصول الجزاء على التقوى وعلى العصيان وذلك على وجه الإجمال المفصل بما بعده في قوله : { ولكن عذاب الله شديد } [ الحج : 2 ] .
والزلزلة حقيقتها : تحرك عنيف في جهة من سطح الأرض من أثر ضغط مجاري الهواء الكائن في طبقات الأرض القريبة من ظاهر الأرض . وهي من الظواهر الأرضية المرعبة ينشأ عنها تساقط البناء وقد ينشأ عنها خسف الأشياء في باطن الأرض .
والساعة : عَلَم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء الدنيا والخلوص إلى عالم الحشر الأخروي ، قال تعالى : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } إلى قوله : { يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم } [ الزلزلة : 16 ] .
وإضافة { زلزلة } إلى { الساعة } على معنى ( في ) ، أي الزلزلة التي تحدث وقت حلول الساعة .
فيجوز أن تكون الزلزلة في الدنيا أو في وقت الحشر . والظاهر حمل الزلزلة على الحقيقة ، وهي حاصلة عند إشراف العالم الدنيوي على الفناء وفساد نظامه فإضافتها إلى الساعة إضافة حقيقية فيكون في معنى قوله تعالى : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } [ الزلزلة : 1 ] الآية .
ويجوز أن تكون الزلزلة مجازاً عن الأهوال والمفزعات التي تحصل يوم القيامة فإن ذلك تستعار له الزلزلة ، قال تعالى : { وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } [ البقرة : 214 ] أي أصيبوا بالكوارث والأضرار لقوله قبله : { مستهم البأساء والضراء } [ البقرة : 214 ] . وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب : " اللهم اهزمهم وزلزلهم " . والإتيان بلفظ { شيء } للتهويل بتوغله في التنكير ، أي زلزلة الساعة لا يعرّف كنهها إلاّ بأنها شيء عظيم ، وهذا من المواقع التي يحسن فيها موقع كلمة { شيء } وهي التي نبّه عليها الشيخ عبد القاهر في « دلائل الإعجاز » في فصل في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة وقد ذكرناه عند قوله تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } في [ سورة البقرة : 229 ] .
والعظيم : الضخم ، وهو هنا استعارة للقوي الشديد ، والمقام يفيد أنه شديد في الشرّ .