{ 29-32 } { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
كان الله تعالى قد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق إنسهم وجنهم وكان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة .
فالإنس يمكنه عليه الصلاة والسلام دعوتهم وإنذارهم ، وأما الجن فصرفهم الله إليه بقدرته وأرسل إليه { نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا } أي : وصى بعضهم بعضا بذلك ، { فَلَمَّا قُضِي } وقد وعوه وأثر ذلك فيهم { وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } نصحا منهم لهم وإقامة لحجة الله عليهم وقيضهم الله معونة لرسوله صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته في الجن .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قَالُوَاْ أَنصِتُواْ فَلَمّا قُضِيَ وَلّوْاْ إِلَىَ قَوْمِهِم مّنذِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره مقرّعا كفار قريش بكفرهم بما آمنت به الجنّ وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ يا محمد نَفَرا مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ ذكر أنهم صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحادث الذي حدث من رَجْمهم بالشهب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد ، عن سعيد بن جُبير ، قال : كانت الجنّ تستمع ، فلما رُجِموا قالوا : إن هذا الذي حدث في السماء لِشيء حدث في الأرض ، فذهبوا يطلبون حتى رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم خارجا من سوق عكاظ يصلي بأصحابه الفجر ، فذهبوا إلى قومهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جُبير ، قال : «لما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم حُرِست السماء ، فقال الشيطان : ما حُرِست إلا لأمر قد حدث في الأرض فبعث سراياه في الأرض ، فوجدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم قائما يصلي صلاة الفجر بأصحابه بنَخْلة ، وهو يقرأ ، فاستمعوا حتى إذا فرغ وَلّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ . . . إلى قوله مُسْتَقِيمٍ » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ . . . . إلى آخر الاَية ، قال : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يقعدون مقاعد للسمع فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم حرست السماء حرسا شديدا ، ورُجِمت الشياطين ، فأنكروا ذلك ، وقالوا : لا نَدْرِي أَشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أمْ أرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدا فقال إبليس : لقد حدث في الأرض حدث ، واجتمعت إليه الجنّ ، فقال : تفرّقوا في الأرض ، فأخبروني ما هذا الخبر الذي حدث في السماء ، وكان أوّل بعث ركب من أهل نصيبين ، وهي أشراف الجنّ وساداتهم ، فبعثهم إلى تهامة ، فاندفعوا حتى بلغوا الوادي ، وادي نخلة ، فوجدوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة ، فاستمعوا فلما سمعوه يتلو القرآن ، قالوا : أنصتوا ، ولم يكن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين .
واختلف أهل التأويل في مبلغ عدد النفر الذين قال الله وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ فقال بعضهم : كانوا سبعة نفر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبد الحميد ، قال : حدثنا النضر بن عربيّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ . . . الاَية ، قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم .
وقال آخرون : بل كانوا تسعة . نفر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زِرّ وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ قال : كانوا تسعة نفر فيهم زَوْبعة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زرّ بن حبيش ، قال : أنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ببطن نخلة ، فَلَمّا حَضَرُوهُ قال : كانوا تسعة أحدهم زَوْبَعَة .
وقوله : فَلَمّا حَضَرُوهُ يقول : فلما حضر هؤلاء النفر من الجنّ الذين صرفهم الله إلى رسوله نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
واختلف أهل العلم في صفة حضورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتعرّفون الأمر الذي حدث من قبله ما حدث في السماء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشعر بمكانهم ، كما قد ذكرنا عن ابن عباس قبل . وكما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ قال : ما شعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاؤوا ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليهِ فيهم ، وأخبر عنهم .
وقال آخرون : بل أمر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليهم القرآن ، وأنهم جمعوا له بعد أن تقدّم الله إليه بإنذارهم ، وأمره بقراءة القرآن عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ قال : ذكر لنا أنهم صرفُوا إليه من نِيْنَوَى ، قال : فإن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجنّ ، فأيكم يتبعني » ؟ فأطرقوا ، ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا ، فقال رجل : يا رسول الله إنك لذو بدئه ، فاتبعه عبد الله بن مسعود ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له شعب الحجون . قال : وخطّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله خطا ليثبته به ، قال : فجعلت تهوي بي وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها ، وسمعت لغطا شديدا ، حتى خفت على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تلا القرآن فلما رجع نبيّ الله قلت : يا نبيّ الله ما اللغط الذي سمعت ؟ قال : «اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم ، فقُضي بينهم بالحقّ » . وذُكر لنا أن ابن مسعود لما قَدِم الكوفة رأى شيوخا شُمطا من الزّط ، فراعوه ، قال : من هؤلاء ؟ قالوا : هؤلاء نفر من الأعاجم ، قال : ما رأيت للذين قرأ عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم الإسلام من الجنّ شبها أدنى من هؤلاء .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ذهب وابن مسعود ليلة دعا الجنّ ، فخطّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على ابن مسعود خطا ، ثم قال له : «لا تخرج منه » . ثم ذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الجنّ ، فقرأ عليهم القرآن ، ثم رجع إلى ابن مسعود فقال : «هل رأيت شيئا » ؟ قال : سمعت لغَطا شديدا ، قال : إن الجنّ تدارأت في قتيل قُتل بينها ، فقُضِي بينهم بالحقّ ، وسألوه الزاد ، فقال : «كل عظم لكم عرق ، وكلّ روث لكم خُضْرة » . قالوا : يا رسول الله تقذّرها الناس علينا ، فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بأحدهما فلما قدم ابن مسعود الكوفة رأى الزّطّ ، وهم قوم طوال سود ، فأفزعوه ، فقال : أظَهَرُوا ؟ فقيل له : إن هؤلاء قوم من الزّطّ ، فقال ما أشبههم بالنفر الذين صُرِفوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم .
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر . عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن عمرو بن غَيلان الثقفيّ أنه قال لابن مسعود : حُدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجنّ ، قال : أجَل ، قال : فكيف كان ؟ فذكر الحديث كله . وذُكِر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطّ عليه خطا وقال : «لا تبرح منها » ، فذكر أن مثل العجاجة السوداء غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذُعِر ثلاث مرّات ، حتى إذا كان قريبا من الصبح ، أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «أنِمْتَ » ؟ قلت : لا والله ، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول : «اجلسوا » ، قال : «لو خرجتَ لم آمن أن يختطفك بعضهم » ، ثم قال : «هل رأيت شيئا ؟ » قال : نعم رأيت رجالاً سودا مستشعري ثياب بيض ، قال : «أولئك جنّ نصيبين ، سألوني المتاع ، والمتاع الزاد ، فمتعتهم بكلّ عظم حائل أو بعرة أو روثة » ، فقلت : يا رسول الله ، وما يغني ذلك عنهم ؟ قال : «إنّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَظْما إلاّ وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَهُ يَوْمَ أُكِل ، وَلا رَوْثَةً إلاّ وَجَدُوا فِيها حَبّها يَوْمَ أُكِلَتْ ، فَلا يَسْتَنْقِيَنّ أحَدٌ مِنْكُمْ إذَا خَرَجَ مِنَ الخَلاءِ بعَظْمٍ وَلا بَعْرَةٍ وَلا رَوْثَةٍ » .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : أخبرنا أبو زُرْعة وهب بن راشد ، قال : قال يونس ، قال ابن شهاب : أخبرني أبو عثمان بن شبة الخزاعي ، وكان من أهل الشام أن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة : «مَنْ أَحَبّ منْكُمْ أنْ يَحْضُرَ أمْرَ الجنّ اللّيْلَةَ فَلْيَفْعَلْ » . فلم يحضر منهم أحد غيري ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة ، خطّ لي برجله خطا ، ثم أمرني أن أجلس فيه ، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن ، فغشيته أسودة كبيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، حتى بقي منهم رهط ، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، فانطلق متبرّزا ، ثم أتاني فقال : «ما فَعَلَ الرّهْطُ » ؟ قلت : هم أولئك يا رسول الله ، فأخذ عظما أو روثا أو جمجمة فأعطاهم إياه زادا ، ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو روث .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي ، وكان من أهل الشأم ، أن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله سواء ، إلا أنه قال : فأعطاهم روثا أو عظما زادا ، ولم يذكر الجمجمة .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي ، قال : أخبرني يونس ، عن الزهريّ ، عن عبيد الله بن عبد الله ، أن ابن مسعود ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «بِتّ اللّيْلَةَ أقْرأُ عَلى الجِنّ رُبُعا بالحَجُونِ » .
واختلفوا في الموضع الذي تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه القرآن ، فقال عبد الله بن مسعود قرأ عليهم بالحَجون ، وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك .
وقال آخرون : قرأ عليهم بنخلة ، وقد ذكرنا بعض من قال ذلك ، ونذكر من لم نذكره .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا خلاد ، عن زهير بن معاوية ، عن جابر الجعفي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن النفر الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنّ نصيبين أتوه وهو بنخلة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ قال : لقيهم بنخلة ليلتئذ .
وقوله : فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا يقول تعالى ذكره : فلما حضروا القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ، قال بعضهم لبعض : أنصتوا لنستمع القرآن . كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زِرّ فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا قالوا : صَهْ .
قال : ثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زِرّ بن حُبَيْش ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا قد علم القوم أنهم لن يعقلوا حتى ينصتوا .
وقوله : فَلَمّا قُضِيَ يقول : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من القراءة وتلاوة القرآن . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، فَلَمّا قُضِيَ يقول : فلما فرغ من الصلاة وَلّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ . وقوله : وَلّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ يقول : انصرفوا منذرين عذاب الله على الكفر به .
وذُكر عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلهم رسلاً إلى قومهم .
حدثنا بذلك أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبد الحميد الحِمّانيّ ، قال : حدثنا النضر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . وهذا القول خلاف القول الذي رُوي عنه أنه قال : لم يكن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن ، لأنه محال أن يرسلهم إلى آخرين إلا بعد علمه بمكانهم ، إلا أن يقال : لم يعلم بمكانهم في حال استماعهم للقرآن ، ثم علم بعد قبل انصرافهم إلى قومهم ، فأرسلهم رسلاً حينئذٍ إلى قومهم ، وليس ذلك في الخبر الذي روي .
{ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن } أملناهم إليك والنفر دون العشرة وجمعه أنفار . { يستمعون القرآن } حال محمولة على المعنى . { فلما حضروه } أي القرآن أو الرسول . { قالوا أنصتوا } قالوا بعضهم لبعض اسكتوا لنسمعه . { فلما قضي } أتم وفرغ من قراءته ، وقرئ على بناء الفاعل وهو ضمير الرسول عليع الصلاة والسلام . { ولوا إلى قومهم منذرين } أي منذرين إياهم بما سمعوا . روي أنهم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرأ في تهجده .
هذا تأييد للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن سخر الله الجن للإيمان به وبالقرآن فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقاً عند الثقلين ومعظَّماً في العالَمَيْن وذلك ما لم يحصل لرسول قبله .
والمقصود من نزول القرآن بخبر الجن توبيخ المشركين بأن الجن وهم من عالم آخر عَلِموا القرآن وأيقنوا بأنه من عند الله والمشركون وهم من عالم الإنس ومن جنس الرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث بالقرآن وممن يتكلم بلغة القرآن لم يزالوا في ريب منه وتكذيب وإصرار ، فهذا موعظة للمشركين بطريق المضادة لأحوالهم بعد أن جرت موعظتهم بحال مماثليهم في الكفر من جنسهم . ومناسبة ذكر إيمان الجن ما تقدم من قوله تعالى : { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } [ الأحقاف : 18 ] .
فالجملة معطوفة على جملة { واذكر أخا عاد } [ الأحقاف : 21 ] عطف القصة على القصة ويتعلق قوله هنا { إذْ صرفنا } بفعل يدل عليه قوله : { واذكر أخا عاد } والتقدير : واذكر إذ صرفنا إليك نفراً من الجن . وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر هذا للمشركين وإن كانوا لا يصدقونه لتسجيل بلوغ ذلك إليهم لينتفع به من يهتدي ولتكتب تبعته على الذين لا يهتدون .
وليس في هذه الآية ما يقتضي أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الجن واختلف المفسرون لِهذه الآية في أن الجن حضروا بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أو بدون علمه . ففي « جامع الترمذي » عن ابن عباس قال : « ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ فلما كانوا بنخْلة ، اسم موضع وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان نفر من الجن فيه فلما سمعوا القرآن رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً » . وفي « الصحيح » عن ابن مسعود « افتقدْنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو بمكة فقلنا ما فَعل به اغتيل أو واستطيرَ فبتنا بشرِّ ليلة حتى إذا أصبحنا إذا نحن به من قِبَل حِراء فقال " أتاني دَاعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن "
وأيًّا مَّا كان فهذا الحادث خارق عادة وهو معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد تقدم قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي } في سورة الأنعام ( 130 ) .
والصرف : البعث . والنفر : عدد من الناس دون العشرين . وإطلاقه على الجن لتنزيلهم منزلة الإنس وبيانه بقوله : { من الجن } .
وجملة { يستمعون القرآن } في موضع الحال من الجن وحيث كانت الحال قيداً لعاملها وهو { صرفنا } كان التقدير : يستمعون منك إذا حضروا لديك فصار ذلك مؤديا مؤدَّى المفعول لأجله .
فالمعنى : صرفناهم إليك ليستمعوا القرآن .
وضمير { حضروه } عائد إلى القرآن ، وتعدية فعل حضروا إلى ضمير القرآن تعدية مجازية لأنهم إنما حضروا قارىء القرآن وهو الرسول صلى الله عليه وسلم و { أنصتوا } أمر بتوجيه الأسماع إلى الكلام اهتماماً به لئلا يفوت منه شيء . وفي حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : « استنصت الناس » ، أي قبل أن يبدأ في خطبته .
وفي الحديث : " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنْصِت والإمام يخطب فقد لغوت " ، أي قالوا كلُّهم : أنصتوا ، كل واحد يقولها للبقية حرصاً على الوعي فنطق بها جميعهم .
و { قُضِي } مِبني للنائب . والضمير للقرآن بتقدير مضاف ، أي قضيت قراءته ، أي انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة حين حضروا وبانتهائه من القراءة تمّ مراد الله من صرف الجن ليستمعوا القرآن ف ( ولَّوا ) ، أي انصرفوا من مكان الاستماع ورجعوا إلى حيث يكون جنسهم وهو المعبر عنه ب { قومهم } على طريقة المجاز ، نزل منزلة الإنس لأجل هذه الحالة الشبيهة بحالة الناس ، فإطلاق القوم على أمة الجن نظير إطلاق النفر على الفريق من الجن المصروف إلى سماع القرآن .
ومعنى { ولوا إلى قومهم منذرين } رجعوا إلى بني جنسهم بعد أن كانوا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يتسمعون القرآن فأبلغوهم ما سمعوا من القرآن مما فيه التخويف من بأس الله تعالى لمن لا يؤمن بالقرآن . والتبشير لمن عمِل بما جاء به القرآن . ولا شك أن الله يسّر لهم حضورهم لقراءة سورة جامعة لما جاء به القرآن كفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص .