تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

{ 30 - 33 } { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }

لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب ، ذكر من أقوالهم الخبيثة ، ما يهيج المؤمنين الذين يغارون لربهم ولدينه على قتالهم ، والاجتهاد وبذل الوسع فيه فقال : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } وهذه المقالة وإن لم تكن مقالة لعامتهم فقد قالها فرقة منهم ، فيدل ذلك على أن في اليهود من الخبث والشر ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة التي تجرأوا فيها على اللّه ، وتنقصوا عظمته وجلاله .

وقد قيل : إن سبب ادعائهم في { عزير } أنه ابن اللّه ، أنه لما سلط الله الملوك{[368]}  على بني إسرائيل ، ومزقوهم كل ممزق ، وقتلوا حَمَلَةَ التوراة ، وجدوا

عزيرا بعد ذلك حافظا لها أو لأكثرها ، فأملاها عليهم من حفظه ، واستنسخوها ، فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة .

{ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ } عيسى ابن مريم { ابْنُ اللَّهِ } قال اللّه تعالى { ذَلِكَ } القول الذي قالوه { قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا .

ومن كان لا يبالي بما يقول ، لا يستغرب عليه أي قول يقوله ، فإنه لا دين ولا عقل ، يحجزه ، عما يريد من الكلام .

ولهذا قال : { يُضَاهِئُونَ } أي : يشابهون في قولهم هذا { قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } أي : قول المشركين الذين يقولون : { الملائكة بنات اللّه } تشابهت قلوبهم ، فتشابهت أقوالهم في البطلان .

{ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يصرفون على الحق ، الصرف الواضح المبين ، إلى القول الباطل المبين .


[368]:- في ب: أنه لما تسلط الملوك.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّىَ يُؤْفَكُونَ } .

اختلف أهل التأويل في القائل : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ فقال بعضهم : كان ذلك رجلاً واحدا ، هو فنحاص . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير ، قوله : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ ، قال : قالها رجل واحد ، قالوا : إن اسمه فنحاص ، وقالوا : هو الذي قال : إنّ اللّهَ فَقِيرٌ ونَحنُ أغْنِياءُ .

وقال آخرون : بل كان ذلك قول جماعة منهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامُ بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا : كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله ؟ فأنزل في ذلك من قولهم : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقالَتِ النّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ . . . إلى : أنّى يُؤْفَكُونَ .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وإنما قالوا : هو ابن الله من أجل أن عزيرا كان في أهل الكتاب وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله أن يعملوا ، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحقّ . وكان التابوت فيهم فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء ، رفع الله عنهم التابوت ، وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ، وأرسل الله عليهم مرضا ، فاستطلقت بطونهم ، حتى جعل الرجل يمشي كَبِدُه ، حتى نسوا التوراة ، ونسخت من صدورهم ، وفيهم عزير . فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم ، وكان عزير قبل من علمائهم ، فدعا عزير الله وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخ من صدره من التوراة . فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله ، نزل نور من الله فدخل جوفه ، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة ، فأذن في قومه فقال : يا قوم قد آتاني الله التوراة ، وردّها إليّ فعلق يعلمهم ، فمكثوا ما شاء الله وهو يعلمهم . ثم إن التابوت نزل بعد ذلك ، وبعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم ، فوجدوه مثله ، فقالوا : والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ إنما قالت ذلك ، لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم ، وأخذوا التوراة ، وذهب علماؤهم الذين بقوا فدفنوا كتب التوراة في الجبال . وكان عزير غلاما يتعبد في رءوس الجبال لا ينزل إلا يوم عيد ، فجعل الغلام يبكي ويقول : ربّ تركت بني إسرائيل بغير عالم فلم يزل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه . فنزل مرّة إلى العيد فلما رجع إذا هو بامرأة قد مثلت له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول : يا مطعماه ، ويا كاسياه فقال لها : ويحك ، من كان يطعمك ويكسوك ويسقيك وينفعك قبل هذا الرجل ؟ قالت : الله . قال : فإن الله حيّ لم يمت . قالت : يا عزير ، فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال : الله . قالت : فلم تبكي عليهم ؟ فلما عرف أنه قد خُصِم ولى مدبرا ، فدعته فقالت : يا عزير إذا أصبحت غدا فأت نهر كذا وكذا فاغتسل فيه ، ثم اخرج فصلّ ركعتين ، فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذه فلما أصبح ، انطلق عزير إلى ذلك النهر ، فاغتسل فيه ، ثم خرج فصلى ركعتين ، فجاءه الشيخ فقال : افتح فمك ففتح فمه ، فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعا كهيئة القوارير ثلاث مرار . فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة ، فقال : يا بني إسرائيل ، إني قد جئتكم بالتوراة . فقالوا يا عزير ما كنت كذّابا . فعمد فربط على كلّ أصبع له قلما ، وكتب بأصابعه كلها ، فكتب التوراة كلها . فلما رجع العلماء أخبروا بشأن عزير ، فاستخرج أولئك العلماء كتبهم التي كانوا دفنوها من التوراة في الجبال ، وكانت في خوابٍ مدفونة ، فعارضوها بتوراة عزير فوجدوها مثلها ، فقالوا : ما أعطاك الله هذا إلا أنك ابنه .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين : «وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ » لا ينوّنون «عزيرا » . وقرأه بعض المكيين والكوفيين : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ بتنوين «عزير » . قال : هو اسم مجرى وإن كان أعجميا لخفته ، وهو مع ذلك غير منسوب إلى الله ، فيكون بمنزلة قول القائل : زيد بن عبد الله ، وأوقع الابن موقع الخبر ، ولو كان منسوبا إلى الله لكان الوجه فيه إذا كان الابن خبرا : الإجراء والتنوين ، فكيف وهو منسوب إلى غير أبيه . وأما من ترك تنوين «عزير » ، فإنه لما كانت الباء من ابن ساكنة مع التنوين الساكن والتقى ساكنان فحذف الأوّل منهما استثقالاً لتحريكه ، قال الراجز :

لَتَجِدَنّي بالأَمِيرِ بَرّا *** وبالقَناةِ مِدْعَسا مِكَرا

*** إذا غَطَيْفُ السّلَمِيّ فَرّا ***

فحذف النون للساكن الذي استقبلها .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ بتنوين «عزير » لأن العرب لا تنوّن الأسماء إذا كان الابن نعتا للاسم ، كقولهم : هذا زيد بن عبد الله ، فأرادوا الخبر عن عُزير بأنه ابن الله ، ولم يريدوا أن يجعلوا الابن له نعتا . والابن في هذا الموضع خبر لعزير ، لأن الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا ذلك ، إنما أخبروا عن عزير أنه كذلك ، وإن كانوا بقيلهم ذلك كانوا كاذبين على الله مفترين . وَقالَتِ النّصَارَى المسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذلكَ قَوْلُهُمْ بأفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يعني قول اليهود : عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ . يقول : نسبة قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابن ككذب اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزير إلى أنه لله ابن ، ولا ينبغي أن يكون لله ولد سبحانه ، بل له ما في السموات والأرض ، كلّ له قانتون .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول : يشبهون .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ النصارى يضاهئون قول اليهود في عزير .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول : النصارى يضاهئون قول اليهود .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يقول : قالوا مثل ما قال أهل الأوثان .

وقد قيل : إن معنى ذلك : يحكون بقولهم قول أهل الأديان الذين قالوا : اللات والعُزّى ومناة الثالثة الأخرى .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق : «يُضَاهُونَ » بغير همز . وقرأه عاصم : يُضَاهِئُونَ بالهمز ، وهي لغة لثقيف . وهما لغتان ، يقال : ضاهيته على كذا أضاهيه مضاهاة وضاهأته عليه مضاهأة ، إذا مالأته عليه وأعنته .

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك ترك الهمز ، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار واللغة الفصحى .

وأما قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ فإن معناه فيما ذكر عن ابن عباس ، ما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ يقول : لعنهم الله ، وكلّ شيء في القرآن «قتل » فهو لعن .

وقال ابن جريج في ذلك ، ما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ يعني النصارى ، كلمةٌ من كلام العرب .

فأما أهل المعرفة بكلام العرب فإنهم يقولون معناه : قتلهم الله ، والعرب تقول : قاتعك الله ، وقاتعها الله بمعنى : قاتلك الله ، قالوا : وقاتعك الله أهون من قاتله الله . وقد ذكروا أنهم يقولون : شاقاه الله ما باقاه ، يريدون : أشقاه الله ما أبقاه . قالوا : ومعنى قوله : قاتَلَهُمُ اللّهُ كقوله : قُتِلَ الخَرّاصُونَ وقُتِلَ أصَحابُ الأُخْدُودِ واحد ، وهو بمعنى التعجب . فإن كان الذي قالوا كما قالوا ، فهو من نادر الكلام الذي جاء على غير القياس ، لأن فاعلت لا تكاد أن تجيء فعلاً إلا من اثنين ، كقولهم : خاصمت فلانا وقاتلته ، وما أشبه ذلك . وقد زعموا أن قولهم : عافاك الله منه ، وأن معناه : أعفاك الله ، بمعنى الدعاء لمن دعا له بأن يعفيه من السوء .

وقوله : أنّى يُؤْفَكُونَ يقول : أيّ وجه يذهب بهم ويحيدون ، كيف يصدّون عن الحقّ ، وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

{ وقالت اليهود عُزير ابن الله } إنما قاله بعضهم من متقدميهم أو ممن كانوا بالمدينة ، وإنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة ، وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظا فتعجبوا من ذلك وقالوا : ما هذا إلا أنه ابن الله . والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب . وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب " عزيزُ " بالتنوين على أنه عربي مخبر عنه بابن غير موصوف به وحذفه في القراءة الأخرى إما لمنع صرفه للعجمة والتعريف ، أو لالتقاء الساكنين تشبيها للنون بحروف اللين أو لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا أو صاحبنا وهو مزيف لأنه يؤدي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدر . { وقالت النصارى المسيح ابن الله } هو أيضا قول بعضهم ، وإنما قالوه استحالة لأن يكون ولد بلا أب أو لأن يفعل ما فعله من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى من لم يكن إلها . { ذلك قولهم بأفواههم } إما تأكيد لنسبة هذا القول إليهم ونفي للتجوز عنها ، أو إشعار بأنه قول مجرد عن برهان وتحقيق مماثل للمهمل الذي يوجد في الأفواه ولا يوجد مفهومه في الأعيان . { يُضاهئون قول الذين كفروا } أي يضاهي قولهم قول الذين كفروا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . { من قبل } أي من قبلهم والمراد قدماؤهم على معنى أن الكفر قديم فيهم ، أو المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله ، أو اليهود على أن الضمير للنصارى ، والمضاهاة المشابهة والهمز لغة فيه . وقرأ به عاصم ومنه قولهم امرأة ضهيأ على فعيل للتي شابهت الرجال في أنها لا تحيض . { قاتلهم الله } دعاء عليهم بالإهلاك فإن من قاتله الله هلك ، أو تعجب من شناعة قولهم . { أنّى يؤفكون } كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

الذي كثر في كتب أهل العلم أن فرقة من اليهود تقول هذه المقالة وروي أنه لم يقلها إلا فنحاص ، وقال ابن عباس : قالها أربعة من أحبارهم ، سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، وقال النقاش : لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا .

قال القاضي أبو محمد : فإذا قالها واحد فيتوجه أن يلزم الجماعة شنعة المقالة لأجل نباهة القائل فيهم ، وأقوال النبهاء أبداً مشهورة في الناس يحتج بها ، فمن هنا صح أن تقول الجماعة قول نبيها ، وقرأ عاصم والكسائي «عزير ابن الله » بتنوين عزير ، والمعنى أن ابناً على هذا خبر ابتداء عن عزير ، وهذا هو أصح المذاهب لأن هذا هو المعنى المنعيّ عليهم ، و { عزير } ونحوه ينصرف عجمياً كان أو عربياً ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «عزير ابن الله » دون تنوين عزير ، فقال بعضهم «ابن » خبر عن «عزير » وإنما حذف التنوين من عزير لاجتماع الساكنين{[5600]} ونحوه قراءة من قرأ { أحد الله الصمد }{[5601]} قال أبو علي وهو كثير في الشعر ، وأنشد الطبري في ذلك [ الرجز ]

لَتَجِدَنِّي بالأمير برّا

وبالقناةِ مدْعساً مكرا

إذا عطيف السلمي فرا{[5602]}

قال القاضي أبو محمد : فالألف على هذه القراءة والتأويل ثابتة في «ابن » وقال بعضهم «ابن » صفة ل «عزير » كما تقول زيد بن عمرو وجعلت الصفة والموصوف بمنزلة اسم واحد وحذف التنوين إذا جاء الساكنان كأنهما التقيا من كلمة واحدة « ، والمعنى عزير ابن الله معبودنا وإلهنا أو المعنى معبودنا أو إلهنا عزير ابن الله .

قال القاضي أبو محمد : وقياس هذه القراءة والتأويل أن يحذف الألف من ابن «لكنها تثبت في خط المصحف ، فيترجح من هذا كله أن قراءة التنوين في » عزير «أقواها ، وحكى الطبري وغيره أن بني إسرائيل أصابتهم فتن وبلاء وقيل مرض وأذهب الله عنهم التوراة في ذلك ونسوها ، وكان علماؤهم قد دفنوها أول ما أحسوا بذلك البلاء ، فلما طالت المدة فقدت التوراة جملة فحفظها الله عزيراً كرامة منه له ، فقال لبني إسرائيل إن الله قد حفظني التوراة فجعلوا يدرسونها من عنده ، ثم إن التوراة المدفونة وجدت فإذا هي مساوية لما كان عزير يدرس ، فضوا عند ذلك وقالوا إن هذا لن يتهيأ لعزير إلا وهو ابن الله ، وظاهر قول النصارى { المسيح ابن الله } أنها بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة وكذلك يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما ، وهذا أشنع في الكفر ، قال أبو المعالي : أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن الإله .

قال القاضي أبو محمد : ويقال إن بعضهم يعتقدها بنوة ُحُنٍّو ورحمة ، وهذا المعنى أيضاً لا يحل أن تطلق البنوة عليه ، وهو كفر لمكان الإشكال الذي يدخل من جهة التناسل وكذلك كفرت اليهود في قولهم { عزير ابن الله } وقولهم نحن أبناء الله ، وإنما توجد في كلام العرب استعارة البنوة عبارة عن نسب وملازمات تكون بين الأشياء إذا لم يشكل الأمر وكان أمر النسل لاستحالة من ذلك قول عبد الملك بن مروان : وقد زبنتنا الحرب وزبناها{[5603]} فنحن بنوها وهي أمنا يريد للملازمة ومن ذلك قول حديث بن مخفض : [ الطويل ]

بنو المجد لم تقعد بهم أمهاتهم*** وآباؤهمْ أبناء صدق فأنجبوا{[5604]}

ومن ذلك ابن نعش وابن ماء وابن السبيل ونحو ذلك ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

*والأرض تحملنا وكانت أمنا*

ومنه أحد التأويلات في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة ابن زنى »{[5605]} أي ملازمة والتأويل الآخر أن لا يدخلها مشكل الأمر والتأويلان في قول النصارى { المسيح ابن الله } كما تقدم من الصفة والخبر إلا أن شغب التنوين ارتفع هاهنا ، و { عزير } نبي من أنبياء بني إسرائيل ، وقوله { بأفواههم } يتضمن معنيين : أحدهما إلزامهم المقالة والتأكيد في ذلك كما قال { يكتبون الكتاب بأيديهم }{[5606]} ، وكقوله { ولا طائر يطير بجناحيه }{[5607]} ، والمعنى الثاني في قوله { بأفواهم } أي هو ساذج لا حجة عليه ولا برهان{[5608]} غاية بيانه أن يقال بالأفواه قولاً مجرداً نفس دعوى{[5609]} ، و { يضاهون } قراءة الجماعة ومعناه يحاكون ويبارون ويماثلون ، وقرأ عاصم وحده من السبعة وطلحة بن مصرف «يضاهئون » بالهمز على أنه من ضاهأ وهي لغة ثقيف بمعنى ضاهى .

قال القاضي أبو محمد : ومن قال إن هذا مأخوذ من قولهم امرأة ضهياء وهي التي لا تحيض وقيل التي لا ثدي لها سميت بذلك لشبهها بالرجال فقوله خطأ قاله أبو علي : لأن الهمزة في ضاهأ أصلية ، وفي ضهياء زائدة كحمراء{[5610]} ، وإن كان الضمير في { يضاهون } لليهود والنصارى جميعاً فالإشارة بقوله { الذين كفروا من قبل } هي إما لمشركي العرب إذ قالوا الملائكة بنات الله وهم أول كافر وهو قول الضحاك : وإما لاسم سالفة قبلهما ، وإما للصدر الأول من كفرة اليهود والنصارى ، ويكون { يضاهون } لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن كان الضمير في { يضاهون } للنصارى فقط كانت الإشارة ب { الذين كفروا من قبل } إلى اليهود ، وعلى هذا فسر الطبري وحكاه الزهراوي عن قتادة ، وقوله { قاتلهم الله } دعاء عليهم عام لأنواع الشر ، ومعلوم أن من قاتله الله فهو المغلوب المقتول ، وحكى الطبري عن ابن عباس أن المعنى لعنهم الله{[5611]} ، و{ أنى يؤفكون } مقصده أنى توجهوا أو أنى ذهبوا ، وبدل مكان هذا الفعل المقصود فعل سوء يحق لهم ، وذلك فصيح في الكلام كما تقول لعن الله الكافر أنى هلك كأنك تحتم عليه بهلاك وكأنه حتم عليهم في هذه الآية بأنهم يؤفكون ، ومعناه يحرمون ويصرفون عن الخير ، والأرض المأفوكة التي لم يصبها مطر ، قال أبو عبيدة { يؤفكون } معناه يحدون .

قال القاضي أبو محمد : يريد من قولك رجل محدود أي محروم لا يصيب خيراً ، وكأنه من الإفك الذي هو الكذب ، فكأن المأفوك هو الذي تكذبه أراجيه فلا يلقى خيراً{[5612]} ، ويحتمل أن يكون قوله تعالى : { أنى يؤفكون } ابتداء تقرير ، أي بأي سبب ومن أي جهة يصرفون عن الحق بعدما تبين لهم ، و «قاتل » في هذه الآية بمعنى قتل وهي مفاعلة من واحد وهذا كله بين .


[5600]:- يرى أبو حيان في "البحر" أنّ من زعم ذلك وكذلك من زعم أن (ابنا) صفة لـ [عزير] وقه بين علمين فحذف تنوينه والخبر محذوف، أي: معبودنا- فقوله متمحّل، لأن الذي أنكر عليهم إنما هو نسبة البنوّة إلى الله تعالى.
[5601]:- الآيتان (1، 2) من سور (الإخلاص).
[5602]:-دعسه بالرمح يدعسه دعسا: طعنة، ورجل مدعس: طعّان، ويكون بالصاد، قال صاحب اللسان: "وهو الأعرف"، وقال سيبويه: "وكذلك الأنثى بغير هاء، ولا يجمع بالواو والنون لأن الهاء لا تدخل مؤنثة". والشاهد في قوله: "عُطيف السلمي" بدون تنوين في (عُطيف).
[5603]:- ومنه قولهم: "حرب زبون" لأنها تزبن الناس أي تدفعهم وتصدمهم على التشبيه بالناقة الزّبون وهي التي تدفع حالبها عن حلبها، وفي حديث معاوية: "فربما زبنت فكسرت أنف حالبها".
[5604]:- يصفهم بالمجد والشرف من جهة الأمهات ومن جهة الآباء، ومعنى "لم تقعد بهم أمهاتهم": لم تقصر من ناحية الشرف، يقال: فلان مقعد الحسب إذا لم يكن له شرف، وقد أقعده آباؤه وتقعدوه، قال الطّرماح يهجو رجلا: ولكنه عبد تقعد رأيه لئام الفحول وارتخاص المناكح وأنجب الرجل: ولد نجيبا. والنجيب الكريم، قال الشاعر: أنجب أزمان والده به إذ نجلاه فنعم ما نجلا
[5605]:-تقدم الكلام على هذا عند تفسير قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس} وهي الآية (179) من سورة (الأعراف).
[5606]:- من الآية (79) من سورة (البقرة).
[5607]:- من الآية (38) من سورة (الأنعام).
[5608]:- وردت كلمة (ساذج) في بعض النسخ بالدال المهملة أي (سادج)، والسّدج والتّسدّج: الكذب وتقوّل الأباطيل، وقد سدج سْدجا وتسدّج أي: تكذب، قال الشاعر: "فينا أقاويل امرئ تسدّجا"، فالمعنى: هو كلام كاذب لا حجة عليه.
[5609]:- هكذا بالأصل.
[5610]:- اختلف العلاء في (ضهيأ) هل يمد أولا؟ فقال ابن ولاّد: امرأة ضهيأ، وهي التي لا تحيض، مهموز غير ممدود، وسيبويه يمده فيجعله ضهياء، والهمزة فيه زائدة لأنهم عند الجمع يقولون: نساء ضهي فيحذفون الهمزة، ونقل أبو الحسن عن النجيرميّ "امرأة ضهياء" بالمدّ والهاء. جمع بين علامتي تأنيث، حكاه عن أبي عمر الشيباني، وأنشد: "ضهياءة أو عاقر جماد".
[5611]:- قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل شيء في القرآن قتل فهو لعن، ومنه قوله أبان بن ثغلب: قاتلها الله تلحاني وقد علَمت أني لنفسي إفسادي وإصلاحي وقال النقاش: أصل "قاتل الله" الدعاء، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر وهم لا يريدون الدعاء، وأنشد الأصمعي: يا قاتل الله ليلى كيف تُعجبني وأخبر الناس أني لا أباليها؟
[5612]:- من الإفك بمعنى الصرف عن الحق قوله تعالى: {يؤفك عنه من أفك} أي: يصرف عن الإيمان من صُرف، ومنه أيضا قوله تعالى: {أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا} أي: لتصرفنا وتصدنا؟ ويأتي الأفيك والمأفوك بمعنى المخدوع عن رأيه، وبمعنى من لا حزم له ولا حيلة، وعليه قول الشاعر: "مالي أراك عاجزا أفيكا"؟.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ عُزَيۡرٌ ٱبۡنُ ٱللَّهِ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَى ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ ٱللَّهِۖ ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ يُضَٰهِـُٔونَ قَوۡلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبۡلُۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (30)

عطف على جملة { ولا يدينون دين الحق } [ التوبة : 29 ] والتقدير : ويقول اليهود منهم عزيز ابن الله ، ويقول النصارى منهم : المسيح ابن الله ، تشنيعاً على قائِليهما من أهل الكتاب بأنّهم بلغوا في الكفر غايته حتّى ساووا المشركين .

وعزيز : اسم حَبر كبير من أحبار اليهود الذين كانوا في الأسر البابلي ، واسمه في العبرانية ( عِزْرا ) بكسر العين المهملة بن ( سرايا ) من سبط اللاويين ، كان حافظاً للتوراة . وقد تفضّل عليه ( كورش ) ملك فارس فأطلقه من الأسر ، وأطلق معه بني إسرائيل من الأسر الذي كان عليهم في بابل ، وأذنهم بالرجوع إلى أورشليم وبناء هيكلهم فيه ، وذلك في سنة 451 قبل المسيح ، فكان عزرا زعيم أحبار اليهود الذين رجعوا بقومهم إلى أورشليم وجدّدوا الهيكل وأعاد شريعة التوراة من حِفْظه ، فكان اليهود يعظّمون عِزرا إلى حدّ أن ادّعى عامّتهم أنّ عزرا ابن الله ، غُلوا منهم في تقديسه ، والذين وصفوه بذلك جماعة من أحبار اليهود في المدينة ، وتبعهم كثير من عامّتهم . l وأحسب أنّ الداعي لهم إلى هذا القول أن لا يكونوا أخلياء من نسبة أحد عظمائهم إلى بنوة الله تعالى مثل قول النصارى في المسيح كما قال متقدموهم { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] .

قال بهذا القول فرقة من اليهود فألصق القول بهم جميعاً لأنّ سكوت الباقين عليه وعدم تغييره يلزمهم الموافقة عليه والرضا به ، وقد ذكر اسم عِزرا في الآية بصيغة التصغير ، فيحتمل أنّه لمّا عرّب عُرب بصيغة تشبه صيغة التصغير ، فيكون كذلك اسمه عند يهود المدينة ويحتمل أنّ تصغيره جرى على لسان يهود المدينة تحبيباً فيه .

قرأ الجمهور { عزيرُ } ممنوعاً من التنوين للعجمة وهو ما جزم به الزمخشري وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب : بالتنوين على اعتباره عربياً بسبب التصغير الذي أدخل عليه لأنّ التصغير لا يدخل في الأعلام العجمية ، وهو ما جزم به عبد القاهر في فصل النظم من « دلائل الإعجاز » ، وتأوّل قراءة ترك التنوين بوجهين لم يرتضهما الزمخشري .

وأمّا قول النصارى ببنوة المسيح فهو معلوم مشهور . وقد مضى الكلام على المسيح عند قوله تعالى : { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } في سورة البقرة ( 87 ) . وعند قوله تعالى : { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } في سورة آل عمران ( 45 ) .

والإشارة { بذلك } إلى القول المستفاد من { قالت اليهود وقالت النصارى } . والمقصود من الإشارة تشهير القول وتمييزه ، زيادة في تشنيعه عند المسلمين .

و { بأفواههم } حال من القول ، والمراد أنّه قول لا يعدو الوجودَ في اللسان وليس له ما يحقّقه في الواقع ، وهذا كناية عن كونه كاذباً كقوله تعالى : { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً } [ الكهف : 5 ] . وفي هذا أيضاً إلزام لهم بهذا القول ، وسدّ باب تنصّلهم منه إذ هو إقرارهم بأفواههم وصريح كلامهم .

والمضاهاة : المشابهة ، وإسنادها إلى القائلين : على تقدير مضاف ظاهرٍ من الكلام ، أي يضاهي قولُهم .

و { الذين كفروا من قبل } هم المشركون : من العرب ، ومن اليونان ، وغيرهم ، وكونُهم من قَبل النصارى ظاهر ، وأمّا كونهم من قبلِ اليهود : فلأنّ اعتقاد بنوة عُزير طارىء في اليهود وليس من عقيدة قُدمائهم .

وجملة { قاتلهم الله } دعاء مستعمل في التعجيب ، وهو مركّب يستعمل في التعجّب من عمل شنيع ، والمفاعلة فيه للمبالغة في الدعاء : أي قتلهم الله قتلاً شديداً . وجملة التعجيب مستأنفة كشأن التعجب .

وجملة { أنى يؤفكون } مستأنفة . والاستفهام فيها مستعمل في التعجيب من حالهم في الاتّباع الباطل ، حتّى شبه المكان الذي يُصرفون إليه باعتقادهم بمكان مجهول من شأنه أن يُسأل عنه باسم الاستفهام عن المكان ، ومعنى { يؤفكون } يُصرفون . يقال : أفَكَه يأفِكه إذا صرفه ، قال تعالى : { يؤفك عنه من أفك } [ الذاريات : 9 ] والإفك بمعنى الكذب قد جاء من هذه المادّة لأنّ الكاذب يصرف السامع عن الصدق ، وقد تقدّم ذلك غير مرة .