تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

ومن ذلك ، نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على الذين كفروا من أهل الكتاب من بني النضير حين غدروا برسوله فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم التي ألفوها وأحبوها .

وكان إخراجهم منها أول حشر وجلاء كتبه الله عليهم على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فجلوا إلى خيبر ، ودلت الآية الكريمة أن لهم حشرا وجلاء غير هذا ، فقد وقع حين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر ، ثم عمر رضي الله عنه ، [ أخرج بقيتهم منها ] .

{ مَا ظَنَنْتُمْ } أيها المسلمون { أَنْ يَخْرُجُوا } من ديارهم ، لحصانتها ، ومنعتها ، وعزهم فيها .

{ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ } فأعجبوا بها وغرتهم ، وحسبوا أنهم لا ينالون بها ، ولا يقدر عليها أحد ، وقدر الله تعالى وراء ذلك كله ، لا تغني عنه الحصون والقلاع ، ولا تجدي فيهم القوة والدفاع .

ولهذا قال : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } أي : من الأمر والباب ، الذي لم{[1027]}  يخطر ببالهم أن يؤتوا منه ، وهو أنه تعالى { قذف فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } وهو الخوف الشديد ، الذي هو جند الله الأكبر ، الذي لا ينفع معه عدد ولا عدة ، ولا قوة ولا شدة ، فالأمر الذي يحتسبونه ويظنون أن الخلل يدخل عليهم منه إن دخل هو الحصون التي تحصنوا بها ، واطمأنت نفوسهم إليها ، ومن وثق بغير الله فهو مخذول ، ومن ركن إلى غير الله فهو عليه وبال{[1028]}  فأتاهم أمر سماوي نزل على قلوبهم ، التي هي محل الثبات والصبر ، أو الخور والضعف ، فأزال الله قوتها وشدتها ، وأورثها ضعفا وخورا وجبنا ، لا حيلة لهم ولا منعة معه{[1029]}  فصار ذلك عونا عليهم ، ولهذا قال : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } وذلك أنهم صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم ، على أن لهم ما حملت الإبل .

فنقضوا لذلك كثيرا من سقوفهم ، التي استحسنوها ، وسلطوا المؤمنين بسبب بغيهم على إخراب ديارهم وهدم حصونهم ، فهم الذين جنوا على أنفسهم ، وصاروا من أكبر عون عليها ، { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } أي : البصائر النافذة ، والعقول الكاملة ، فإن في هذا معتبرا يعرف به صنع الله تعالى في المعاندين للحق ، المتبعين لأهوائهم ، الذين لم تنفعهم عزتهم ، ولا منعتهم قوتهم ، ولا حصنتهم حصونهم ، حين جاءهم أمر الله ، ووصل إليهم النكال بذنوبهم ، والعبرة بعموم اللفظ{[1030]}  لا بخصوص السبب ، فإن هذه الآية تدل على الأمر بالاعتبار ، وهو اعتبار النظير بنظيره ، وقياس الشيء على مثله ، والتفكر فيما تضمنته الأحكام من المعاني والحكم التي هي محل العقل والفكرة ، وبذلك يزداد{[1031]}  العقل ، وتتنور البصيرة ويزداد الإيمان ، ويحصل الفهم الحقيقي ، ثم أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لم يصبهم جميع ما يستحقون من العقوبة ، وأن الله خفف عنهم .


[1027]:- كذا في ب، وفي أ: لا.
[1028]:- في ب: كان وبالا عليه.
[1029]:- في ب: لا حيلة لهم في دفعه فصار.
[1030]:- في ب: العبرة بعموم المعنى.
[1031]:- في ب: يكمل العقل.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ هُوَ الّذِيَ أَخْرَجَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ } الله الذي أخرج الذين جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ، وهم يهود بني النضير من ديارهم ، وذلك خروجهم عن منازلهم ودورهم ، حين صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يؤمنهم على دمائهم ونسائهم وذراريهم ، وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من أموالهم ، ويخلو له دورهم ، وسائر أموالهم ، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ، فخرجوا من ديارهم ، فمنهم من خرج إلى الشام ، ومنهم من خرج إلى خيبر ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارهِمْ لأوّل الْحَشْر } ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عزّ وجلّ : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ }قال : النضير حتى قوله : { وَلِيُخْزيَ الفاسِقِينَ } .

ذكر ما بين ذلك كله فيهم :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ }قيل : الشام ، وهم بنو النضير حيّ من اليهود ، فأجلاهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر ، مَرْجِعَه من أحد .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري { مِنْ دِيارِهِمْ لأَوّل الْحَشْرِ } قال : هم بنو النضير قاتلهم النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى صالحهم على الجلاء ، فأجلاهم إلى الشام ، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من شيء إلا الحلقة ، والحلقة : السلاح ، كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى ، وكان الله عزّ وجلّ قد كتب عليهم الجلاء ، ولولا ذلك عذبهم في الدنيا بالقتل والسباء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ }قال : هؤلاء النضير حين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا ابن حَميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، قال : نزلت في بني النضير سورة الحشر بأسرها ، يذكر فيها ما أصابهم الله عزّ وجل به من نقمته ، وما سلط عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عمل به فيهم ، فقال : { هُوَ الّذِي أخْرَجَ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ . . . }الاَيات .

وقوله : { لأَوّلِ الْحَشْرِ } يقول تعالى ذكره : لأوّل الجمع في الدنيا ، وذلك حشرهم إلى أرض الشام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، قوله : { لأَوّلِ الْحَشْرِ }قال : كان جلاؤهم أوّل الحشر في الدنيا إلى الشام .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : تجيء نار من مَشرِق الأرض ، تَحْشُر الناس إلى مغاربها ، فتبيت معهم حيث باتُوا ، وتَقِيل معهم حيث قالوا ، وتأكل من تَخَلّف .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أجلى بني النضير ، قال : «امْضوا فَهَذَا أوّل الحَشْرِ ، وَإنّا عَلى الأثَرِ » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { لأَوّلِ الحَشْرِ } قال : الشام حين ردّهم إلى الشام ، وقرأ قول الله عزّ وجلّ : { يا أيّها الّذِينَ أوتُوا الكِتابَ آمَنُوا بِمَا نَزّلْنا مَصَدّقا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أنْ نَطْمِسَ وُجُوها فَنرُدّها على أدْبارِها }قال : من حيث جاءت ، أدبارها أن رجعت إلى الشام ، من حيث جاءت ردّوا إليه .

وقوله : { ما ظَنَنْتُمْ أنْ يخْرُجُوا } ، يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ظننتم أن يخرج هؤلاء الذين أخرجهم الله من ديارهم من أهل الكتاب من مساكنهم ومنازلهم ، { وَظَنّوا أنّهُمْ ما نِعَتُهُمْ حُصُونُهمْ مِنَ اللّهِ } وإنما ظنّ القوم فيما ذكر أن عبد الله بن أُبي وجماعة من المنافقين بعثوا إليهم لما حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرونهم بالثبات في حصونهم ، ويعدونهم النصر ، كما :

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، أن رهطا من بني عوف ابن الخزرج منهم عبد الله بن أُبي ابن سلول ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس ، بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنّعوا ، فإنا لن نسلمكم ، وإن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن خرجتم خرجنا معكم ، فتربصوا لذلك من نصرهم ، فلم يفعلوا ، وكانوا قد تحصنوا في الحصون من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل بهم .

وقوله : { فأتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا }يقول تعالى ذكره : فأتاهم أمر الله من حيث لم يحتسبوا أنه يأتيهم ، وذلك الأمر الذي أتاهم من الله حيث لم يحتسبوا ، قذف في قلوبهم الرعب بنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم في أصحابه ، يقول جلّ ثناؤه : { وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرّعُبَ } .

وقوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ }يعني جلّ ثناؤه بقوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ }بني النضير من اليهود ، وأنهم يخربون مساكنهم ، وذلك أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة فيما ذُكر في منازلهم مما يستحسنونه ، أو العمود أو الباب ، فينزعون ذلك منها بأيديهم وأيدي المؤمنين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ } جعلوا يخربونها من أجوافها ، وجعل المؤمنون يخربون من ظاهرها .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزّهريّ ، قال : لما صالحوا النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا لا يعجبهم خشبة إلا أخذوها ، فكان ذلك خرابها . وقال قتادة : كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها ، وتخربها اليهود من داخلها .

حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، قال : احتملوا من أموالهم ، يعني بني النضير ، ما استقلت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه ، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به ، قال : فذلك قوله : { يُخْربُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ }وذلك هدمهم بيوتهم عن نُجف أبوابهم إذا احتملوها .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله عزّ وجلّ : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ } قال : هؤلاء النضير ، صالحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على ما حملت الإبل ، فجعلوا يقلعوا الأوتاد يخربون بيوتهم .

وقال آخرون : إنما قيل ذلك كذلك ، لأنهم كانوا يخربون بيوتهم ليبنوا بنقضها ما هدم المسلمون من حصونهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ فاعْتَبِرُوا يا أُولي الأبْصَارِ } قال : يعني بني النضير ، جعل المسلمون كلما هدموا شيئا من حصونهم جعلوا ينقضون بيوتهم ويخربونها ، ثم يبنون ما يخرب المسلمون ، فذلك هلاكهم .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بأيْدِيهِمْ وأيْدِي المُؤمِنِينَ } يعني أهل النضير جعل المسلمون كلما هدموا من حصنهم جعلوا ينقضون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، ثم يبنون ما خرّب المسلمون .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والمدينة والعراق سوى أبي عمرو : { يُخْرِبُونَ }بتخفيف الراء ، بمعنى يخرجون منها ويتركونها معطلة خرابا ، وكان أبو عمرو يقرأ ذلك «يخرّبون » بالتشديد في الراء بمعنى يهدّمون بيوتهم . وقد ذكر عن أبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك نحو قراءة أبي عمرو . وكان أبو عمرو فيما ذكر عنه يزعم أنه إنما اختار التشديد في الراء لما ذكرت من أن الإخراب : إنما هو ترك ذلك خرابا بغير ساكن ، وإن بني النضير لم يتركوا منازلهم ، فيرتحلواعنها ، ولكنهم خربّوبها بالنقض والهدم ، وذلك لا يكون فيما قال إلا بالتشديد .

وقوله : { فاعْتَبرُا يا أولي الأبصارِ }يقول تعالى ذكره : فاتعظوا يا معشر ذوي الأفهام بما أحلّ الله بهؤلاء اليهود الذين قذف الله في قلوبهم الرعب ، وهم في حصونهم من نقمته ، واعلموا أن الله ولّى من والاه ، وناصر رسوله على كلّ من ناوأه ، ومحلّ من نقمته به نظير الذي أحلّ ببني النضير . وإنما عنى بالأبصار في هذا الموضع أبصار القلوب ، وذلك أن الاعتبار بها يكون دون الإبصار بالعيون .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن يَخۡرُجُواْۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَيۡثُ لَمۡ يَحۡتَسِبُواْۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ يُخۡرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيۡدِيهِمۡ وَأَيۡدِي ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فَٱعۡتَبِرُواْ يَـٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ} (2)

{ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر }أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك أو في أول حشرهم للقتال أو الجلاء إلى الشام وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إليه أو في أول حشر الناس إلى الشام ، وآخر حشرهم أنهم يحشرون إليه عند قيام الساعة فيدركهم هناك أو أن نارا تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب ، والحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر . { ما ظننتم أن يخرجوا }لشدة بأسهم ومنعتهم ، { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله }أي أن حصونهم تمنعهم من بأس الله وتغيير النظم وتقديم الخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها ، واعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة بسببها ، ويجوز أن تكون حصونهم فاعلا ل مانعتهم { فأتاهم الله }أي عذابه وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء ، وقيل الضمير ل المؤمنين أي فأتاهم نصر الله وقرىء { فآتاهم الله }أي العذاب أو النصر { من حيث لم يحتسبوا }لقوة وثوقهم ، { وقذف في قلوبهم الرعب }وأثبت فيها الخوف الذي يرعبها أي يملؤها { يخربون بيوتهم بأيديهم }ضنا بها على المسلمين وإخراجا لما استحسنوا من آلاتها ، { وأيدي المؤمنين }فإنهم أيضا كانوا يخربون ظواهرها نكاية وتوسيعا لمجال القتال ، وعطفها على أيديهم من حيث أن تخريب المؤمنين مسبب عن نقضهم فكأنهم استعملوهم فيه ، والجملة حال أو تفسير ل الرعب وقرأ أبو عمرو { يخربون } بالتشديد وهو أبلغ لما فيه من التكثير ، وقيل الإخراب التعطيل أو ترك الشيء خرابا ، والتخريب الهدم { فاعتبروا يا أولي الأبصار }فاتعظوا بحالهم فلا تغدروا ولا تعتمدوا على غير الله واستدل به على أن القياس حجة من حيث أنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال وحملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية له على ما قررناه في الكتب الأصولية .