تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ} (37)

{ 37 } { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ }

وذلك أنه أتى ب " هاجر " أم إسماعيل وبابنها إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو في الرضاع ، من الشام حتى وضعهما في مكة وهي -إذ ذاك- ليس فيها سكن ، ولا داع ولا مجيب ، فلما وضعهما دعا ربه بهذا الدعاء فقال -متضرعا متوكلا على ربه : { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي } أي : لا كل ذريتي لأن إسحاق في الشام وباقي بنيه كذلك وإنما أسكن في مكة إسماعيل وذريته ، وقوله : { بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } أي : لأن أرض مكة لا تصلح للزراعة .

{ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاة } أي : اجعلهم موحدين مقيمين الصلاة لأن إقامة الصلاة من أخص وأفضل العبادات الدينية فمن أقامها كان مقيما لدينه ، { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } أي : تحبهم وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه .

فأجاب الله دعاءه فأخرج من ذرية إسماعيل محمدا صلى الله عليه وسلم حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي وإلى ملة أبيهم إبراهيم فاستجابوا له وصاروا مقيمي الصلاة .

وافترض الله حج هذا البيت الذي أسكن به ذرية إبراهيم وجعل فيه سرا عجيبا جاذبا للقلوب ، فهي تحجه ولا تقضي منه وطرا على الدوام ، بل كلما أكثر العبد التردد إليه ازداد شوقه وعظم ولعه وتوقه ، وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة .

{ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } فأجاب الله دعاءه ، فصار يجبي إليه ثمرات كل شيء ، فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت والثمار فيها متوفرة والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ} (37)

ثم حكى - سبحانه - دعاء آخر من تلك الأدعية التى تضرع بها إبراهيم إليه - تعالى - فقال : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة . . }

و " من " فى قوله { مِنْ ذُرِّيَّتِي } للتبعيض .

والوادى : هو المكان المنخفض بين مرتفعات ، والمقصود به وادى مكة المكرمة .

والمعنى : يا ربنا إنى أسكنت بعض ذريتى وهو ابنى إسماعيل ومن سيولد له ، بواد غير ذى زرع قريبا من بيتك المحرم ، أى : الذى حرمت التعرض له بسوء توقيرا وتعظيما ، والذى جعلته مثابة للناس وأمنا ، وفضلته على غيره من الأماكن .

وقوله { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة } بيان للباعث الذى دفعه لإِسكان بعض ذريته فى هذا المكان الطيب .

أى : يا ربنا إنى أسكنتهم ، هذا المكان ليتفرغوا لإِقامة الصلاة فى جوار بيتك ، وليعمروه بذكرك وطاعتك . رضي الله عنه فاللام فى قوله { ليقيموا } للتعليل وهى متعلقة بأسكنت .

وخصت الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات ، لمزيد فضلها ، ولكمال العناية بشأنها .

قال القرطبى : " تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها ، لأن معنى { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة } أى : أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه .

وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو فى مسجد النبى - صلى الله عليه وسلم - ؟

فذهب عامة أهل الأثر إلى أن الصلاة فى المسجد الحرام أفضل من الصلاة فى مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمائة صلاة ، واحتجوا بحديث عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد ، إلا المسجد الحرام ، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من صلاة فى مسجدى هذا بمائة صلاة " .

وقد روى عن ابن عمر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - حديث ابن الزبير "

وقوله { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } دعاء جامع لمطالب الدين والدنيا ، لأن الناس يذهبون إلى البيت الحرام للتقرب إلى الله - تعالى - ، وليتبادلوا المنافع عن طريق التجارة وغيرها مع السكان المجاورين لهذا البيت المعمور .

والأفئدة : جمع فؤاد ، والمراد بها القلوب والنفوس .

والمراد بالناس فى قوله { مِّنَ الناس } المؤمنون منهم ، لأنهم هم الذين يذهبون إلى البيت الحرام ، ليشهدوا منافع لهم ، وليتقربوا إليه - سبحانه - بحج بيته .

وتهوى إليهم : أى تسرع إليهم ، يقال : هوى - بفتح الواو - يهوى - بكسرها - إذا أسرع فى السير ، ومنه قولهم : هوت الناقة تهوى هويا ، إذا عدت عدوا شديدا .

والأصل فيه أن يتعدى باللام ، وعدى هنا بإلى لتضمنه معنى تميل وتسرع .

أى : يا ربنا إنى تركت بعض ذريتى فى جوار بتيك ، فأسألك يا إلهى أن تجعل نفوس الناس وقلوبهم تحن إلى هذا المكان ، وتطير فرحا إليه ، وارزق من تركتهم وديعة فى جوار بيتك من الثمرات المختلفة ما يغنيهم لعلهم بهذا العطاء الجزيل يزدادون شكرا لك ، ومسارعة فى طاعتك وعبادتك .

وقال - سبحانه - { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ } ولم يقل فاجعل الناس تهوى إليهم ، للإِشارة إلى أن سعى الناس إليهم يكون عن شوق ومحبة حتى لكأن المسرع إلى هذا الجوار الطيب هو القلب والروح وليس الجسد وحده .

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : " وقد أجاب الله - تعالى - دعوة إبراهيم - عليه السلام - فجعل البيت الحرام حرما آمنا تجيى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنه ، ثم فضله ثم وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلادء وأكثرها ثمارا ، وفى أى بلد من الشرق والغرب ، ترى الأعجوبة التى يريكها الله بواد غير ذى زرع - وهى اجتماع البواكير والفواكه المختلفة والأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية فى يوم واحد ، وليس ذلك من آياته عجيب ، معنا الله بسكنى حرمه ، ووفقنا لشكر نعمه وأدام لنا التشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم ، وزرقنا طرفا من سلامة ذلك القلب السليم " .

هذا ، وقد ساق الإِمام الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية قصة إسكان إبراهيم لبعض ذريته فى هذا المكان فقال ما ملخصه : " وهذا الإِسكان إنما كان بعد أن حدث ما حدث بين إبراهيم وبين زوجه سارة ، وذلك أن هاجر أم إسماعيل كانت أمة من القبط لسارة فوهبتها - لإِبراهيم عليه السلام - فتزوجها فولدت له إسماعيل . فدبت الغيرة فى قلب سارة ولم تصبر على بقائها معها فأخرج إبراهيم - عليه السلام - هاجر وابنها إلى أرض مكة ، فوضعهما عند البيت ، عند دوحه فوق زمزم فى أعلى المسجد ، وليس يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفى منطلقا فتبعته هاجر ، فقالت له : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادى الذى ليس فيه أنيس .

قالت له ذلك مرارا وهو لا يلتفت إليها ، فقال له : آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذا لا يضيعنا ، ثم رجعت .

وانطلق إبراهيم - عليه السلام - حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت - وكان إذ ذاك مرتفعا من الأرض كالرابية - ثم دعا بهذه الدعوات ، ورفع يديه فقال : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ . . . } الآية .

ثم إنها جعلت ترضع ابنها وتشرب مما فى السقاء حتى إذا نفد ما فى السقاء ، عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه بتلبط - أى يتلوى ويتمرغ - من شدة العطش ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل فى الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادى تنظر هل ترى أحدا .

فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادى ، رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعى الإِنسان المجهود حتى جاوزت الوادى ، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات ، ولذلك سعى الناس بينهما سبعا .

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه ! تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا صوتا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هى بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه وتغرف منه فى سقائها وهو يفور ، فشربت وأرضعت ولدها ، وقال لها الملك : لا تخافى الضيعة ، فإن هاهنا بيت الله - تعالى - يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله - تعالى - لن يضيع أهله .

ثم إنه مرت بهما رفقة من جرهم ، فرأوا طائراً عائفا - أى يتردد على الماء ولا يمضى - فقالوا : لا طير إلا على الماء ، فبعثوا رسولهم فنظر فإذا بالماء ، فأتاهم فقصدوه وأم إسماعيل عنده ، فقالوا : أشركينا فى مائك نشركك فى ألباننا ، ففعلت ، فلما أدرك إسماعيل - عليه السلام - زوجوه امرأة منهم " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ} (37)

وقوله : { ومن ذريتي } يريد : إسماعيل عليه السلام ، وذلك أن سارة لما غارت بهاجر - بعد أن ولدت إسماعيل - تعذب إبراهيم عليه السلام ، بهما ، فروي أنه ركب البراق وهو وهاجر والطفل - فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة ، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك ، وركب منصرفاً من يومه ذلك ، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى فلما ولَّى دعا بمضمن هذه الآية ، وأما كيفية بقاء هاجر وما صنعت وسائر خبر إسماعيل ، ففي كتاب البخاري والسير وغيره .

و { من } في قوله : { ومن ذريتي } للتبعيض ، لأن إسحاق كان بالشام ، و «الوادي » : ما بين الجبلين ، وليس من شروطه أن يكون فيه ماء .

وهذه الآية تقتضي أن إبراهيم عليه السلام قد كان علم من الله تعالى أنه لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي ، وأنه يرزقهما الماء ، وإنما نظر النظر البعيد للعاقبة فقال : { غير ذي زرع } ، ولو لم يعلم ذلك من الله لقال : غير ذي ماء على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك{[7087]} .

وقوله : { عند بيتك المحرم } إما أن يكون البيت قد كان قديماً - على ما روي قبل الطوفان ، وكان علمه عند إبراهيم - وإما أن يكون قالها لما كان قد أعلمه الله تعالى أنه سيبني هنالك بيتاً لله تعالى ، فيكون محرماً . ومعنى { المحرم } على الجبابرة وأن تنتهك حرمته ويستخف بحقه - قاله قتادة وغيره .

وجمعه الضمير في قوله : { ليقيموا } يدل على أن الله قد أعلمه أن ذلك الطفل سيعقب هنالك ويكون له نسل . واللام في قوله : { ليقيموا } هي لام كي هذا هو الظاهر فيها - على أنها متعلقة ب { أسكنت } ، والنداء اعتراض ، ويصح أن تكون لام أمر ، كأن رغب إلى الله أن يوفقهم بإقامة الصلاة ، ثم ساق عبارة ملزمة لهم إقامة الصلاة ، وفي اللفظ على هذا التأويل بعض تجوز يربطه المعنى ويصلحه .

و { أفئدة } : القلوب ، جمع فؤاد . سمي بذلك لإنفاده ، مأخوذ من فأد ومنه المفتاد ، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم{[7088]} .

وقرأ ابن عامر بخلاف : { فاجعل أفئدة } بياء بعد الهمزة{[7089]} .

وقوله : { من الناس } تبعيض ، ومراده المؤمنون ، قال مجاهد : لو قال إبراهيم : أفئدة الناس - لازدحمت على البيت فارس والروم . وقال سعيد بن جبير : لحجته اليهود والنصارى{[7090]} . و { تهوي } معناه : تسير بجد وقصد مستعجل ، ومنه قول الشاعر [ أبو كبير ] : [ الكامل ]

وإذا رميت به الفجاج رأيته . . . يهوي مخارمها هويَّ الأجدل{[7091]}

ومنه البيت المروي : [ السريع ]

تهوي إلى مكة تبغي الهدى . . . ما مؤمنو الجن كأنجاسها{[7092]}

وقرأ مسلمة بن عبد الله : «تُهوي » بضم التاء ، من أهوى ، وهو الفعل المذكور معدى بالهمزة ، وقرأ علي بن أبي طالب ومحمد بن علي ومجاهد «تَهوَى » بفتح التاء والواو . وتعدي هذا الفعل - وهو من الهوى - ب «إلى » ، لما كان مقترناً بسير وقصد . وروي عن مسلم بن محمد الطائفي : أنه لما دعا عليه السلام بأن يرزق سكان مكة من الثمرات بعث الله جبريل فاقتلع بجناحه قطعة من أرض فلسطين - وقيل من الأردن - فجاء بها وطاف حول البيت بها سبعاً ، ووضعها قريب مكة ، فهي الطائف ، وبهذه القصة سميت ، وهي موضع ثقيف ، وبها أشجار وثمرات وثم هي ركبة .


[7087]:قيل: إن انتفاء كونه ذا زرع يستلزم انتفاء الماء الذي لا يمكن أن يوجد زرع إلا به، فنفي ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء.
[7088]:قال في (اللسان) : "وفأد اللحم في النار يفأده فأدا: شواه، والمفأد والمفأدة: السفود، وهو من فأدت اللحم وافتأدته إذا شويته، ولحم فئد أي: مشوي".
[7089]:وقرىء: "أآفدة" على وزن فاعلة، ويحتمل أن يكون اسم فاعل من أفد أي دنا وقربن والمعنى: جماعات آفدة، وقرأت أم الهيثم: "أفودة" بالواو المكسورة بدل الهمزة، قال صاحب اللوامح: "و هو جمع وفد، والقراءة حسنة ولكني لا أعرف هذه المرأة، بل ذكرها أبو حاتم"، قال أبو حيان الأندلسي: "وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من لغات العرب".
[7090]:المعنى: لو قال إبراهيم : "أفئدة الناس" لحجته اليهود والنصارى.
[7091]:قال في (اللسان): "البيت لأبي كبير الهذلي"، واسمه عامر بن الحليس، وهو من شعراء الحماسة، قيل: إنه أدرك الإسلام وأسلم. ويروى: "ينضو مخارمها" بدلا من "يهوى"، والفجاج: جمع فج وهو الطريق، والمخارم: جمع مخرم، وتطلق المخارم على أنوف الجبال ورءوسها، والأجدل: الصقر، وفي حديث مطرف: يهوى هوي الأجادل، وقوله: "يهوى مخارمها" أراد به: "يهوى في مخارمها"، فهو على هذا ظرف، كقولك: ذهبت الشام، وكقولهم: "عسل الطريق الثعلبث"، أي: في الطريق. وقيل: "يهوي" بمعنى "يقطع"، ومخارمها مفعول صحيح.
[7092]:رواه أبو حيان في "البحر": "ما مؤمن الجن ككفارها"، و "تهوى" في البيت مثلها في الآية: تقصد في جد وسرعة، وتبغى: تريد وتطلب. والبيت غير منسوب.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيۡرِ ذِي زَرۡعٍ عِندَ بَيۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ} (37)

جملة { إني أسكنت من ذريتي } مستأنفة لابتداء دعاء آخر . وافتتحت بالنداء لزيادة التضرع . وفي كون النداء تأكيداً لنداء سابق ضرب من الربط بين الجمل المفتتحة بالنداء ربط المثل بمثله .

وأضيف الرب هنا إلى ضمير الجمع خلافاً لسابقيه لأن الدعاء الذي افتتح به فيه حظ للداعي ولأبنائه . ولعل إسماعيل عليه السلام حاضر معه حين الدعاء كما تدل له الآية الأخرى { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } إلى قوله { واجعلنا مسلمين لك } [ سورة البقرة : 127 ] . وذلك من معنى الشكر المسؤول هنا .

ومِن } في قوله : { من ذريتي } بمعنى بعض ، يعني إسماعيل عليه السلام ، وهو بعض ذريته ، فكأن هذا الدعاء صدر من إبراهيم عليه السلام بعد زمان من بناء الكعبة وتقري مكة ، كما دل عليه قوله في دعائه هذا { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق } [ سورة إبراهيم : 39 ] ، فذكر إسحاق عليه السلام .

والواد : الأرض بين الجبال ، وهو وادي مكة . و{ غير ذي زرع } صفة ، أي بواد لا يصلح للنبت لأنه حجارة ، فإن كلمة { ذُو } تدلّ على صَاحببِ ما أضيفت إليه وتمكنه منه ، فإذا قيل : ذو مال ، فالمال ثابت له ، وإذا أريد ضد ذلك قيل غير ذي كذا ، كقوله تعالى : { قرآناً عربياً غير ذي عوج } [ سورة الزمر : 28 ] ، أي لا يعتريه شيء من العوج . ولأجل هذا الاستعمال لم يقل بواد لا يزرع أولا زرع به .

وعند { بيتك } صفة ثانية لوادٍ أو حال .

والمحرم : الممنع من تناول الأيدي إياه بما يفسده أو يضر أهله بما جعل الله له في نفوس الأمم من التوقير والتعظيم ، وبما شاهدوه من هلكة من يريد فيه بإلحاد بظلم . وما أصحاب الفيل منهم ببعيد .

وعلق { ليقيموا } ب { أسكنت } ، أي علة الإسكان بذلك الوادي عند ذلك البيت أن لا يشغلهم عن إقامة الصلاة في ذلك البيت شاغل فيكون البيت معموراً أبداً .

وتوسيط النداء للاهتمام بمقدمة الدعاء زيادة في الضراعة . وتهيّأ بذلك أن يفرع عليه الدعاء لهم بأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ، لأن همة الصالحين في إقامة الدين .

والأفئدة : جمع فؤاد ، وهو القلب . والمراد به هنا النفس والعقل .

والمراد فاجعل أناساً يهوون إليهم . فأقحم لفظ الأفئدة لإرادة أن يكون مسير الناس إليهم عن شوق ومحبة حتى كأن المسرع هو الفؤاد لا الجسد فلما ذكر { أفئدة } لهذه النكتة حسن بيانه بأنهم { من الناس } ، ف { من } بيانية لا تبعيضية ، إذ لا طائل تحته . والمعنى : فاجعل أناساً يقصدونهم بحبات قلوبهم .

وتهوي مضارع هوَى بفتح الواو : سقط . وأطلق هنا على الإسراع في المشي استعارة ، كقول امرىء القيس :

كجلمود صخْرٍ حَطّه السيلُ من عل

ولذلك عدّي باللام دون { على .

والإسراع : جُعل كناية عن المحبة والشوق إلى زيارتهم .

والمقصود من هذا الدعاء تأنيس مكانهم بتردد الزائرين وقضاء حوائجهم منهم .

والتنكير مطلقٌ يحمل على المتعارف في عمران المدن والأسواق بالواردين ، فلذلك لم يقيده في الدعاء بما يدل على الكثرة اكتفاء بما هو معروف .

ومحبة الناس إياهم يحصل معها محبة البلد وتكرير زيارته ، وذلك سبب لاستئناسهم به ورغبتهم في إقامة شعائره ، فيؤول إلى الدعوة إلى الدين .

ورجاء شكرهم داخل في الدعاء لأنه جُعل تكملة له تعرضاً للإجابة وزيادة في الدعاء لهم بأن يكونوا من الشاكرين . والمقصود : توفر أسباب الانقطاع إلى العبادة وانتفاء ما يحول بينهم وبينها من فتنة الكدح للاكتساب .