وإنما يجلد القاذف ، إذا لم يأت بأربعة شهداء إذا لم يكن زوجا ، فإن كان زوجا ، فقد ذكر بقوله : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } .
وإنما كانت شهادات الزوج على زوجته ، دارئة عنه الحد ، لأن الغالب ، أن الزوج لا يقدم على رمي زوجته ، التي يدنسه ما يدنسها إلا إذا كان صادقا ، ولأن له في ذلك حقا ، وخوفا من إلحاق أولاد ليسوا منه به ، ولغير ذلك من الحكم المفقودة في غيره فقال : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ْ } أي : الحرائر{[558]} لا المملوكات .
{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ْ } على رميهم بذلك { شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ْ } بأن لم يقيموا شهداء ، على ما رموهم به { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ْ } سماها شهادة ، لأنها نائبة مناب الشهود ، بأن يقول : " أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به " .
ثم انتقلت السورة الكريمة من الحديث عن حكم القذف بصفة عامة ، إلى الحديث عن حكم القذف إذا ما حدث بين الزوجين ، فقال - تعالى - : { والذين يَرْمُونَ .
ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة ، منها ما أخرجه البخارى عن ابن عباس ، " أن هلال بن أمية ، قذف امرأته عند النبى صلى الله عليه وسلم بشَرِيك بن السحماء ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : " البينة أوحَدٌّ فى ظهرك " . فقال : يا رسول الله ، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبى صلى الله عليه وسلم يقول له : " البينة أو حد فى ظهرك " .
فقال هلال : والذى بعثك بالحق إنى لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهرى من الحد . فنزل جبريل بهذه الآيات .
فانصرف النبى صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يعلم أن أحدكم كاذب ، فهل منكما تائب ؟ ثم قامت زوجته فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا : إنها موجبة - أى للعذاب ولغضب الله - تعالى - .
قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومى سائر اليوم ، فمضت .
وفى رواية فشهدت فى الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ففرق الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد . . " .
والمراد بالرمى فى قوله - تعالى - { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } الرمى بفاحشة الزنا .
وقوله - تعالى - : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } أى : ولم يكن لهؤلاء الأزواج الذين قذفوا زوجاتهم بالزنا من يشهد معهم سوى أنفسهم .
وقوله : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } أى : فشهادة أحدهم التى ترفع عنه حد القذف ، أن يشهد " أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين " فيما رماها به من الزنا .
قال الجمل ما ملخصه : " قوله - تعالى - { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } فى رفع أنفسهم وجها : أحدهما أنه بدل من شهداء ، والثانى ، أنه نعت له على أن إلا بمعنى غير ، ولا مفهوم لهذا القيد . بل يلاعن ولو كان واجدا للشهود الذين يشهدون بزناها . وقوله : { فَشَهَادَةُ } مبتدأ ، وخبره " أربع شهادات " أى : فشهادتهم المشروعة أربع شهادات . . . " .
وقرأ الجمهور : " أربع شهادات " بالنصب على المصدر ، لأن معنى : فشهادة : أن يشهد .
والتقدير : فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما قاله .
لما نزلت الآية المتقدمة في { الذين يرمون } [ النور : 4 ] تناول ظاهرها الأَزواج وغيرهن ، فقال سعد بن عبادة يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة والله لأضربنه بالسيف غير مصفح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني »{[8608]} ، وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة هذا نحو معناها ، ثم جاء بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك ابن سحماء البلوي ، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضربه حد القذف ، فنزلت هذه الآية عند ذلك فجمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وتلاعنا فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت ، وقيل إنها موجبة ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم ولجت ، وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وولدت غلاماً كأنه جمل أورق{[8609]} ثم كان بعد ذلك الغلام أميراً بمصر وهو لا يعرف لنفسه أباً . ثم جاءه أيضاً عويمر العجلاني فرمى امرأته ولاعن{[8610]} . والمشهور أن نازلة هلال قبل وأنها سبب الآية ، وقيل نازلة عويمر قبل وهو الذي وسط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصم بن عدي{[8611]} ، و «الأزواج » في هذا الحكم يعم المسلمات والكافرات والإماء ، فكلهن يلاعنهن الزوج للانتفاء من الحمل ، وتختص الحرة بدفع حد القذف عن نفسه{[8612]} ، وقرأ الجمهور «أربعَ شهادات » بالنصب وهو كانتصاب المصدر والعامل في ذلك قوله { فشهادة } ورفع «الشهادة » على خبر ابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب ، أو على الابتداء بتقدير فعليهم أن يشهدوا وبتقدير حذف الخبر وتقديره في آخر الآية كافية أو واجبة ، وقوله { بالله } من صلة { شهادات } ، ويجوز أن يكون من صلة { فشهادة } ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «أربعُ » بالرفع وذلك على خبر قوله { فشهادة } قال أبو حاتم لا وجه للرفع لأن الشهادة ليست ب { أربع شهادات } و { بالله } على هذه القراءة من صلة { شهادات } ، ولا يجوز أن يكون من صلة «شهادة » لأنك كنت تفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو { أربع شهادات } ، وقوله : { إنه لمن الكاذبين } في قول من نصب «أربعَ شهادات » يجوز أن تكون من صلة «شهادة » وهي جملة في موضع نصب ، لأن الشهادة أوقعتها موقع المفعول به ، ومن رفع «أربعُ شهادات » فقوله { إنه لمن الكاذبين } من صلة { شهادات } لعلة الفصل المتقدمة في قوله { بالله } ، وقرأ حفص عن عاصم «والخامسةَ » بالنصب في الثانية ، وقرأها بالنصب فيهما طلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن والحسن والأعمش ، وقرأ الجمهور فيهما «والخامسةُ » بالرفع ، فأما من نصب فإن كان من قراءته نصب قوله «أربعَ شهدات » فإنه عطف الخامسة على ذلك لأنها من الشهادات ، وأن كان يقرأ «أربعُ » بالرفع ، فإنه جعل نصب قوله ، والخامسة على فعل يدل عليه متقدم الكلام تقديره وتشهد الخامسة ، وأما من رفع قوله «والخامسةُ » فإن كان يقرأ «أربعُ » بالرفع فقوله «والخامسةُ » عطف على ذلك ، وإن كان يقرأ «أربعَ » بالنصب فإنه حمل قوله «والخامسةُ » على المعنى لأن معنى قوله شهادة أحدهم عليهم أربع شهادات والخامسة واستشهد أبو علي لهذا بحمل الشاعر : [ الكامل ]
ومشجج أما سواد قذاله . . . البيت على قوله : «إلا رواكد جمرهن هباء »{[8613]} لأن المعنى ثم رواكد ولا خلاف في السبع في رفع قوله «والخامسةُ » في الأولى ، وإنما خلاف السبع في الثانية فقط فنصبه حمل على قوله { أن تشهد أربع }
{ والخامسة } على القطع والحمل على المعنى{[8608]} ، وقرأ نافع وحده «أن لعنة »{[8609]} و «أنَّ غضب »{[8610]} ، وقرأ الأعرج والحسن وقتادة وأبو رجاء وعيسى «أَن لعنة »{[8611]} و «أن غضب الله »{[8612]} وهذا على إضمار الأمر وهي المخففة كما هي في قول الشاعر : «في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى ينتعل{[8613]} ، البيت » وقرأ باقي السبعة «أنّ لعنة الله » «وأنّ غضب الله » بتشديد النون فيهما ونصب «اللعنة والغضب » ورجح الأخفش القراءة بتثقيل النون لأن الخفيفة إنما يراد بها التثقيل ويضمر معها الأمر والشأن وما لا يحتاج معه إلى إضمار أولى .
قال الفقيه الإمام القاضي : لا سيما وأن الخفيفة على قراءة نافع في قوله «أن غضب » قد وليها الفعل ، قال أبو علي وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل إلا أن يفصل بينها وبينه بشيء نحو قوله تعالى { علم أن سيكون }{[7]} [ المزمل : 20 ] وقوله : { أَفلا يرون ألا يرجع }{[8]} [ طه : 89 ] وأما قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }{[9]} [ النجم : 39 ] فذلك لقلة تمكن ليس في الأفعال وأما قوله : { أن بورك من في النار }{[10]} [ النمل : 8 ] ف { بورك } على معنى الدعاء فلم يجز دخول الفاصل لئلا يفسد المعنى{[11]} ، و «العذاب الُمْدَرُأ » في قول جمهور العلماء الحد وحكى الطبري عن آخرين أنه الحبس وهو قول أصحاب الرأي وأَنه لا حد عليها إن لم تلاعن وليس يوجبه عليها قول الزوج .
قال الفقيه الإمام القاضي : وظاهر حديث الوقفة في الخامسة حين تلكأت ثم مرت في لعانها أَنها كانت تحِّد لقول النبي عليه السلام لها فعذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة{[12]} وجعلت «اللعنة » للرجل الكاذب لأنه مفتر مباهت بالقول فأبعد باللعنة وجعل «الغضب » الذي هو أشد على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت بالقول فهذا معنى هذه الألفاظ والله أَعلم .
قال الفقيه الإمام القاضي : ولا بد أَن نذكر في تفسير هذه الآية ما يتعلق بها من مسائل اللعان إذ لا يستغنى عنها في معرفة حكمه وحيث يجب ، أجمع مالك وأَصحابه على وجوب اللعان بادعاء رؤية زنى لا وطء من الزوج بعده{[13]} ، وكذلك مشهور المذهب ، وقول مالك إن اللعان يحب بنفي حمل يدعى قبله استبراء ، وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة : لا ينفى الولد بالاستبراء لأَن الحيض يأتي على الحمل ، وقاله أشهب في كتاب ابن المواز ، وقاله المغيرة ، وقال لا ينفى الولد إلا بخمس سنين{[14]} ، واختلف المذهب في أن يقذف الرجل أو ينفي حملاً ولا يعلل ذلك لا برؤية ولا باستبراء ، فجل رواة مالك لا يوجب لعاناً بل يحد الزوج ، وقاله ابن القاسم وروي عنه أيضاً أنه قال يلاعن ولا يسأل عن شيء{[15]} ، واختلف بعد القول بالاسبتراء في قدر الاستبراء ، فقال مالك والمغيرة في أحد قوليه يجزىء في ذلك حيضة . وقال أيضاً مالك لا ينفعه إلا ثلاث حيض{[16]} ، وأما موضع اللعان ففي المسجد وعند الحاكم والمستحب أن يكون في المسجد بحضرة الحاكم ، وكذلك يستحب [ أن يكون ]{[17]} بعد العصر تغليظاً بالوقت وكل وقت مجز ، ومن قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا هو لدفع الحد وهي لدرء العذاب ، وأن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدفع الحد ولم تلاعن هي لأَنها لو أقرت لم يلزمها شيء{[18]} ، وقال ابن الماجشون لا حد على قاذف من لم يبلغ ، قال اللخمي فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل ، والمستحب من ألفاظ اللعان أَن يمشي مع ترتيب القرآن ولفظه فيقول الزوج أشهد بالله لرأيت هذه المرأة تزني{[19]} وإني في ذلك لمن الصادقين ، ثم يقول في الخامسة لعنة الله علي أن كنت من الكاذبين ، وقال أصبغ لا بد أَن يقول كالمرود في المكحلة ، وقيل لا يلزمه ذلك وكذلك يقول أشهب لا بد أن يقول بالله الذي لا إله إلا هو ، وأَما في لعان نفي الحمل فقيل يقول الرجل ما هذا الولد مني ولزنت ، وقال ابن القاسم في الموازنة ، لا يقول وزنت من حيث يمكن أَن تغضب ، وتقول المرأة أشهد بالله ما زنيت وأنه في ذلك لمن الكاذبين ، ثم تقول غضب الله علي إن كان من الصادقين فإِن منع جهلهما من ترتيب هذه الأَلفاظ وأتيا بما في معناها أجزأ ذلك ، وحكى اللخمي عن محمد بن أَبي صفرة أَنه قال اللعان لا يرفع العصمة لقول عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها قال : فأحدث طلاقاً ، ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة لا يحتاج معها إلى تفريق حاكم وابن أَبي صفرة هذا ليس بعيد{[20]} يزاحم به الجمهور .
ومذهب الشافعي أن الفرقة حاصلة إثر لعان الزوج وحده ، وقال أبو حنيفة وأصحابه لا تفريق إلا بحكم السلطان بعد لعانهما ، فإن مات أحدهما بعد تمام لعانهما وقبل حكم القاضي ورثه الآخر ، ومذهب المدونة أن اللعان حكم تفريقه حكم الطلاق ويعطى لغير المدخول بها نفس الصداق ، وفي مختصر ابن الجلاب لا شيء لها وهذا على أن تفريق اللعان فسخ ، وقال ابن القصار تفريق اللعان عندنا فسخ وتحريم اللعان أبدي بإجماع فيما أحفظ من مذهب مالك رحمه الله ، ومن فقهاء الكوفة وغيرهم من لا يراه متأبداً ، وإن أكذب نفسه بعد اللعان لم ينتفع بذلك ، وروي عن عبد العزيز بن أَبي سلمة أنه إن أكذب نفسه بعد اللعان كان خاطباً من الخطاب ، وإن تقدمت المرأة في اللعان فقال ابن القاسم لا تعيد ، وقال أشهب تعيد{[21]} .