تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (105)

{ 105 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

يقول تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } أي : اجتهدوا في إصلاحها وكمالها وإلزامها سلوك الصراط المستقيم ، فإنكم إذا صلحتم لا يضركم من ضل عن الصراط المستقيم ، ولم يهتد إلى الدين القويم ، وإنما يضر نفسه .

ولا يدل هذا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يضر العبدَ تركُهما وإهمالُهما ، فإنه لا يتم هداه ، إلا بالإتيان بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

نعم ، إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر بيده ولسانه وأنكره بقلبه ، فإنه لا يضره ضلال غيره .

وقوله : { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } أي : مآلكم يوم القيامة ، واجتماعكم بين يدي الله تعالى . { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من خير وشر .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (105)

وبعد أن بين - سبحانه - ما بين من التكاليف والأحكام واحلال والحرام ، وذم المقلدين لآبائهم تقليداً أعمى . وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين ، أمرهم فيه بأن يلزموا أنفسهم طاعة الله ، وأنهم ليس عليهم شيء من آثام غيرهم ما داموا قد نصحوهم وأرشدوهم إلى الخير فقال - تعالى - :

{ ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ . . . }

قوله { عَلَيْكُمْ } اسم فعل أمر بمعنى : الزموا وقوله : { أَنْفُسَكُمْ } منصوب على الإِغراء بقوله : { عَلَيْكُمْ } - والصحيح أنه في موضع جر كما كان قبل أن تنقل الكلمة أنه في موضع جر كما ان قبل أن تنقل الكلمة إلى الإغراء .

والمعنى : يأيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا ، الزموا العمل بطاعة الله ، بأن تؤدوا ما أمركم به ، وتنتهوا عما نهاكم عنه ، وأنتم بعد ذلك " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " أي : لا يضركم ضلال من ضل وغوى ، ما دمتم أنتم قد أديتم حق أنفسكم عليكم بصيانتها عما يغضب الله وأديتم حق غيركم عليكم بإرشاده ونصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر . فإن أبي هذا الغير الاستجابة لكم بعد النصح والإِرشاد والأخذ على يده من الوقوع في الظلم فلا ضير عليكم في تمادية في غيه وضلاله ، فإن مصيركم ومرجعكم جميعاً إلى الله - تعالى - وحده { فَيُنَبِّئُكُمْ } يوم القيامة { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا من خير أو شر ، ويجازي أهل الخير بما يستحقون من ثواب ، ويجازي أهل الشر بما يستحقون من عقاب .

هذا ، وقد يقول قائل : إن ظاهر هذه الآية قد يفهم منه بعض الناس ، أنه لا يضر المؤمنين أن يتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما داموا قد أصلحوا أنفسهم ، لأنها تقول : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } فهل هذا الفهم مقبول ؟

والجواب على ذلك ، أن هذا الفهم ليس مقبولا ، لأن الآية الكريمة مسوقة لتسلية المؤمنين ، ولإِدخال الطمأنينة ، على قلوبهم إذا لم يجدوا أذنا صاغية لدعوتهم .

فكأنها تقول لهم : إنكم - أيه المؤمنون - إذا قمتم بما يجب عليكم ، لا يضركم تقصير غيركم . ولا شك أن مما يجب عليهم القيام به : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ لا يكون المرء مهتديا إلى الحق مع تركه لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما يكون مهتديا متى أصلح نفسه ودعا غيره إلى الخير والصلاح .

أي أن الهداية التي ذكرها - سبحانه - في قولهم { إِذَا اهتديتم } لا تتم إلا بإصلاح النفس ودعوة الغير إلى الخير والبر .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المعاني بقوله : كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة ، يتمنون دخولهم في الإِسلام ، فقيل لهم { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى { لاَ يَضُرُّكُمْ } الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين . وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فإن من تركهما مع القدرة عليهما لا يكون مهتديا ، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه .

ويبدو أن هذه الآية الكريمة قد فهمهما بعض الناس فهما غير سليم - حتى في الصدر الأول من الإِسلام .

قال القرطبي : روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن قيس بن أبي حازم قال : خطبنا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فقال : أيها الناس - إنكم تقرءون هذه الآية وتتأولونها على غير تأويلها { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده " .

وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبه الخشني فقلت له : كيف تصنع بهذه الآية ؟ فقال : أية آية ؟ قلت : قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا . سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ائتمروا كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة ، فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم " .

وفي رواية قيل يا رسول الله ! " أجر خمسين منا أو منهم ؟ قال : " بل أجر خمسين منكم " " .

وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال : " كنت في حلقة فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإني لأصغر القوم ؛ فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فقلت أنا : أليس الله يقول : { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } فأقبلوا على بلسان واحد وقالوا : تنزع آية من القرآن لا تعرفها . ولا تدري ما تأويلها - حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت - ثم أقبلوا يتحدثون ، فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام حدث السن وإنك نزعت آية لا تدري ما هي ، وعسى أن تدرك ذلك الزمان ، إذا رأيت شحا مطاعاً ، وهوى متبعا ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت " .

والخلاصة أن الآية الكريمة لا ترخص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنها - كما قال الحاكم - لو استدل بها على وجوبهما لكان أولى ، لأن قوله { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } معناه : الزموا أن تصلحوا أنفسكم باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة روله والعقليات المؤيدة بها ، ودعوة الإِخوان إلى ذلك ، بإقامة الحجج ودفع الشبه ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ولا تقصروا في ذلك .

ونقل الفخر الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنه - سبحانه - قال { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } يعني عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار . وهذا كقوله فاقتلوا أنفسكم ، يعني أهل دينكم فقوله { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم } يعني بأن يعظ بعضكم بعضاً . ويرغب بعضكم بعضاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (105)

{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } أي احفظوها والزموا إصلاحها ، والجار مع المجرور جعل اسما لإلزموا ولذلك نصب أنفسكم . وقرئ بالرفع على الابتداء . { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } لا يضركم الضلال إذا كنتم مهتدين ، ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كما قال عليه الصلاة والسلام " من رأى منكم منكرا واستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه " . والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم ، وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك فنزلت . و{ لا يضركم } يحتمل الرفع على أنه مستأنف ويؤيده أن قرئ " لا يضيركم " والجزم على الجواب أو النهي لكنه ضمت الراء إتباعا لضمه الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة وتنصره قراءة من قرأ { لا يضركم } بالفتح ، و{ لا يضركم } بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره . { إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره .