{ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } لأنه شاهد الآية الباهرة وكفر عنادا وظلما ، فاستحق العذاب الأليم والعقاب الشديد . واعلم أن الله تعالى وعد أنه سينزلها ، وتوعدهم -إن كفروا- بهذا الوعيد ، ولم يذكر أنه أنزلها ، فيحتمل أنه لم ينزلها بسبب أنهم لم يختاروا ذلك ، ويدل على ذلك ، أنه لم يذكر في الإنجيل الذي بأيدي النصارى ، ولا له وجود . ويحتمل أنها نزلت كما وعد الله ، والله لا يخلف الميعاد ، ويكون عدم ذكرها في الأناجيل التي بأيديهم من الحظ الذي ذكروا به فنسوه .
أو أنه لم يذكر في الإنجيل أصلا ، وإنما ذلك كان متوارثا بينهم ، ينقله الخلف عن السلف ، فاكتفى الله بذلك عن ذكره في الإنجيل ، ويدل على هذا المعنى قوله : { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } والله أعلم بحقيقة الحال .
ثم ختم - سبحانه - حديثه عن هذه المائدة وما جرى بشأنها بين عيسى والحورايين من أقوال فقال - تعالى - : { قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين } .
وقوله : { منزلها } ورد فيه قراءاتان متواتران .
إحداهما : منزلها - بتشديد الزاي - من التنزيل وهي تفيد التكثير أو التدريج كما تنبئ عن ذلك صيغة التفعيل . وبهذه القراءة قرأ ابن عامر وعاصم ونافع .
وقرأ الباقون { منزلها } بكسر الزاي - من الإِنزال المفيد لنزولها دفعة واحدة .
والمعنى : قال الله - تعالى - إني منزل عليكم المائدة من السماء إجابة لدعاء رسولي عيسى - عليه السلام - { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } أي فمن يكفر بعد نزولها منكم أيها الطالبون لها { فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين } أي : فإن الله - تعالى - يعذب هذا الكافر بآياته عذاباً لا يعذب مثله أحداً من عالمي زمانه أو من العالمين جميعاً .
وقد أكد - سبحانه - عذابه للكافر بآيات الله بعد ظهورها وقيام الأدلة على صحتها بمؤكدات منها : حرف إن في قوله { فإني أُعَذِّبُهُ } ومنها : المصدر في قوله { فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً } إذ المفعول المطلق هنا لتأكيد وقوع الفعل وهو العذاب .
ومنها : وصف هذا العذاب بأنه لا يعذب مثله لأحد من العالمين .
وهذه المؤكدات لوقوع العذاب على الكافر بآيات الله بعد وضوحها من أسبابه : أن الكفر بعد إجابة ما طلبوه ، وبعد رؤيته ومشاهدته ؛ وبعد قيام الأدلة على وحدانية الله وكمال قدرته ، وبعد ظهور البراهين الدالة على صدق رسوله .
أقول : الكفر بعد كل ذلك يكون سببه الجحود والعناد والحسد ، والجاحد والمعاند والحاسد يستحقون أشد العذاب ، وأعظم العقاب .
هذا ، وهنا مسألتان تتعلقان بهذه الآيات الكريم’ ، نرى من الخير أن نتحدث عنهما بشيء من التفصيل .
المسألة الأولى : آراء العلماء في إيمان الحواريين وعدم إيمانهم .
المسألة الثانية : آراء العلماء في نزول المائدة وعدم نزولها .
وللإجابة على المسألة الأولى نقول : لعل منشأ الخلاف في إيمان الحواريين وعدم إيمانهم مرجعه إلى قولهم لعيسى - كما حكى القرآن عنهم - { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } ؟ فإن هذا القول يسشعر بشكهم في قدرة الله على إنزال هذه المائدة .
وقد ذهب فريق من العلماء - وعلى رأسهم الزمخشري - إلى عدم إيمانهم ، وجعلوا الظرف في قوله : { إِذْ قَالَ الحواريون } متعلقا بقوله قبل ذلك { قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } .
أي : أنهم قالوا لعيسى آمنا واشهد بأننا مسلمون ، في الوقت الذي قالوا له فيه { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } فكأنهم ادعوا الإِيمان والاسلام ادعاء بدون إيقان وإذعان ، وإلا فلو كانوا صادقين في دعواهم لما قالوا لعيسى بأسلوب الاستفهام : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قالوا : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } بعد إيمنهم وإخلاصهم ؟ قلت : ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص ، وإنما حكى ادعاءهم لهما ، ثم اتبعه بقوله : ( وَإِذْ قَالُواْ ) فإذن دعواهم كانت باطلة ، وانهم كانوا شاكين ، وقوله : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم . وكذلك قول عيسى لهم معناه : اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ، ولا تقترحوا عليه ولا تحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها { إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة .
وذهب جمهور العلماء إلى أن الحواريين عندما قالوا لعيسى { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } كانوا مؤمنين واستدلوا على ذلك بأدلة منها :
1 - أن الظرف في قوله : { إِذْ قَالَ الحواريون } ليس متعلقا بقوله : { قالوا آمَنَّا } وإنما هو منصوب بفعل مضمر تقديره اذكر ، وهذا ما رجحه العلامة أبو السعود في تفسيره فقد قال :
قوله : { إِذْ قَالَ الحواريون } كلام مستأنف مسوق لبيان بعض ما جرى بينه عليه السلام - وبين قومه منقطع عما قبله ، كما ينبئ عنه الإِظهار في موضع الاضمار وإذ منصوب بمضمر .
وقي : هو ظرف لقالوا أريد به التنبيه على أن ادعاءهم الإيمان والإخلاص لم يكن عن تحقيق وإيقان ولا يساعده النظم الكريم .
2 - أن قول الحواريين لعيسى { لْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } لا يسحب عنهم الإِيمان ، وقد خرج العلماء قولهم هذا بتخريجات منها .
( أ ) أن قولهم لم يكن من باب الشك في قدرة الله ، وإنما هو من باب زيادة الاطمئنان عن طريق ضم علم المشاهدة إلى العلم النظري بدليل أنهم قالوا بعد ذلك { نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } .
وشبيه بهذا قول إبراهيم { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } قال القرطبي ما ملخصه : " الحواريون خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم ، وقد كانوا عالمين باستطاعة الله لذلك ولغيره علم دلالة وخبرونظر فأرادوا علم معاينة كذلك ، كما قال إبراهيم { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } وقد كان إبراهمي علم ذلك علم خبر ونظر ، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة ؛ لأن علم النظر واخلبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات ، وعلم المعاينة ، لا يدخله شيء من ذلك ، ولذلك قال الحواريون : { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } كما قال إبراهيم { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } ( ب ) أن السؤال إنما هو الفعل لا عن القدرة عليه ، وقد بسط الآلوسي هذا المعنى فقال : إن معنى { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } هل يفعل ربك كما تقول للقادر على القيام : هل تستطيع أن تقوم معي مبالغة في التقاضي .
والتعبير عن الفعل بالاستطاعة ، من باب التعبير عن المسبب بالسبب ، إذ هي - أي الاستطاعة - من أسباب الإيجاد .
( ج ) أن الاستطاعة هنا بمعنى الإطاعة - كما سبق أن أشرنا - ويشهد لذلك قول الفخر الرازي : قال السدي ؛ قوله { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } أي : هل يطيعك ربك إن سألته . وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع والسين زائدة .
والذي نراه أن رأى الجمهور أرجح للأدلة التي ذكرناها ، ولأن الله - تعالى - قد ذكر قبل هذه الآية أنه قد امتن عليهم بإلهامهم الإِيمان فقال :
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } ولأنهم لو كانوا غير مؤمنين لكشف الله عن حقيقتهم ، فقد جرت سنته - سبحانه - مع أنبيائه أن يظهر لهم نفاق المنافقين حتى يحذرهم .
ولأنهم لو كانوا غير مؤمنين ، لما أمر الله أتباع النبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي بهم في إخلاصهم ورسوخ يقيتهم قال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنصَارُ الله } وقال - تعالى - { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } فهاتان الآيتان صريحتان في مدح الحواريين وفي أنهم قوم التفوا حول عيسى - عليه السلام - وناصروه مناصرة صادقة ، وآمنوا به إيمانا سليما من الشك والتردد .
وأما المسألة الثانية : وهي آراء العلماء في نزول المائدة : فالجمهور على أنها نزلت .
وقد رجح ذلك ابن جرير فقال ما ملخصه : والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال :
إن الله أنزل المائدة . . لأن الله لا يخلف وعده ، ولا يقع في خبره الخلف وقد قال - تعالى - مخبرا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى حين سأله ما سأله من ذلك { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } وغير جائز أن يقول الله إني منزلهاه عليكم ثم لا ينزلها ، لأن ذلك منه - تعالى - خبر ، ولا يكون منه خلاف ما يخبر .
وقد علق ابن كثير على ما رجحه ابن جرير فقال : وهذا القول هو - والله أعلم - الصواب ، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم .
ومن الآثار ما خرجه الترمذي عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحما ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد : فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخهم قردة وخنازير " .
قال الترمذي : وقد روى عن عمار من طريق موقوفا وهو أصح .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب عن ابن عباس ، أن عيسى ابن مريم قالوا له ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء . قال : فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها . عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة . فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم .
والذي يراجع بعض كتب التفسير يرى كلاما كثيراً عما كان على المائدة من أصناف الطعام ، وعن كيفية نزولها ومكانه ، وعن كيفية استقبالها وكشف غطائها ، والأكل منها والباقي عليها بعد الأكل . وهذا الكلام الكثير رأينا من الخير أن نضرب عنه صفحا ، لضعف أسانيده ، ولأنه لا يخلو عن غرابة ونكارة - كما قال ابن كثير - فقد ذكر - رحمه الله - أثرا طويلا في هذا المعنى ثم قال في نهايته : هذا أثر غريب جدا قطعه ابن حاتم في مواضع من هذه القصة ، وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم .
ويعجبني في هذا المقام قول ابن جرير : وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة ، فأن يقال : كان عليها مأكول . وجائز أن يكون هذا المأكول سمكا وخبزاً ، وجائز أن يكون من ثمر الجنة ، وغير نافع العلم به ، ولا ضار الجهل به ، إذا أقر تالي الآية بظاهر ما احتمله التنزيل .
ويرى الحسن ومجاخد أن المائدة لم تنزل ، فقد روى ابن جرير - بسنده - عن قتادة قال : كان الحسن يقول : لما قيل لهم : { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } قالوا : لا حاجة لنا فيها فلم تنزل .
وروى منصور بن زادان عن الحسن أيضاً أنه قال في المائدة : إنها لم تنزل .
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال : هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء .
أي : مثل ضربه الله للناس نهيا لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه .
قال الحافظ ابن كثير : وهذه أساندي صحيحة إلى مجاهد والحسن وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى . ولس في كتابهم ، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله . وكان يكون موجوداً في كتابهم متواتراً ولا أقل من الآحاد .
وقد علق بعض العلماء على كلام ابن كثير هذا فقال : ولنا أن نقول : إن هذا الاستدلال إن كان يعني عدم نزولها فقط ، فقد يكون له شيء من الوجاهة وإن كان يعني أنها لا تنزل ولم يسأل ، فهو محل نظير كبير ، لأن السؤال مالم ينته بإجابة كونية فعلية تبرز بها المائدة للناس ويرونها بأعينهم ويلمسونها بأيديهم فلا يعد بذلك مما تتوافر الدواعي على نقله ، لا سيما وعيسى في بيئة محصورة : جماعة سألوا وأجيبوا ، وانتهى الأمر برجوعهم عما سألوا فعدم تواتر سؤالها في كتب النصارى أو عدم وجوده فيها لا يستغرب كما يستغرب الأمر فيما لو نزلت المائدة فعلا ورآها الناس فعلا وأكلوا منها . وتذوقوا طعامها ، ولم يذكر عن ذلك شيء .
وقد ذكر القرآن هذه الحقيقة ابتداء وانفرد بها عن سائر الكتب ، ولا يلزم أن يكون كل ما قصه الله - تعالى - في القرآن قد قصه في غيره من الكتب المتقدمة ، ولا أن أصحاب الأناجيل علموا بكل شيء حتى بمثل هذه المحاورة الخاصة التي لم تنته بحادث كوني حتى يكون عدم ذكرهم إياها في أنا جيلهم - التي وضعوها - دليلا على عدم سؤالها . فقصة السؤال إذن لم ترد فيما عند النصارى ولكنها وردت فيما عند المسلمين .
ومن الجائز أن تكون مما ورد في الأناجيل ، وأن تكون مما أخفاه أهل الكتاب أو ضاع منهم علمه بسبب ما . والقرآن كما وصف بنفسه مهيمن على كتبهم التي وصفها بأنهم حرفوها وأنهم كانوا يخفون كثيراً منها ، وأنه يبين لهم كثقيرا مما كانوا يخفون .
هذا ومما سبق يتبين لنا أن العلماء متفقون على أن الحواريين قد سألوا عيسى أن يدعو ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء ، وأن عيسى قد دعا ربه فعلا أن ينزلها ، كما جاء في الآية الكريمة .
ومحل الخلاف بينهم أنزلت أم لا ؟ فالجمهور يرون أنها نزلت لأن الله وعد بذلك في قوله { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } والحسن ومجاهد يريان أنها لم تنزل ، لأن الوعد بنزلوها مقيد بما رتب علي من وقوع العذاب بهم إذا لم يؤمنوا بعد نزولها ، وأن القوم بعد أن سمعوا هذا الشرط قالوا : لا حاجة لنا فيها . فلم تنزل . ويبدو لنا أن رأى الجمهور أقرب إلى الصواب ، لأن ظاهر الآيات يؤيده ، وكذلك الآثار التي وردت في ذلك .
{ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ } أي : فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها { فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } أي : من عالمي زمانكم ، كقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] ، {[10531]} وكقوله : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [ النساء : 145 ] .
وقد روى ابن جرير ، من طريق عَوْف الأعرابي ، عن أبي المغيرة القوَّاس ، عن عبد الله بن عمرو قال : إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون . {[10532]}
وجملة { قال الله إنّي منزّلها } جواب دعاء عيسى ، فلذلك فصلت على طريقة المحاورة . وأكّد الخبر ب { إنّ } تحقيقاً للوعد . والمعنى إنّي منزّلها عليكم الآن ، فهو استجابة وليس بوعد .
وقوله : { فَمنْ يكفرْ } تفريع عن إجابة رغبتهم ، وتحذير لهم من الوقوع في الكفر بعد الإيمان إعلاماً بأهمّية الإيمان عند الله تعالى ، فجعل جزاء إجابته إيّاهم أن لا يعودوا إلى الكفر فإن عادوا عُذّبوا عذاباً أشدّ من عذاب سائر الكفَّار لأنّهم تعاضد لديهم دليل العقل والحسّ فلم يبق لهم عُذر .
والضمير المنصوب في قوله { لا أعذّبه } ضمير المصدر ، فهو في موضع المفعول المطلق وليس مفعولاً به ، أي لا أعذّب أحداً من العالمين ذلك العذاب ، أي مثل ذلك العذاب .
وقد وقفت قصّة سؤال المائدة عند هذا المقدار وطُوي خبر ماذا حدث بعد نزولها لأنّه لا أثر له في المراد من القصّة ، وهو العبرة بحال إيمان الحواريَّين وتعلّقهم بما يزيدهم يقيناً ، وبقربهم إلى ربّهم وتحصيل مرتبة الشهادة على من يأتي بعدهم ، وعلى ضراعة المسيح الدالّة على عبوديته ، وعلى كرامته عند ربّه إذْ أجاب دعوته ، وعلى سعة القدرة . وأمّا تفصيل ما حوته المائدة وما دار بينهم عند نزولها فلا عبرة فيه . وقد أكثر فيه المفسَّرون بأخبار واهية الأسانيد سوى ما أخرجه الترمذي في أبواب التفسير عن الحسن بن قزعة بسنده إلى عمّار بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً » الحديث . قال الترمذي : هذا الحديث رواه غير واحد عن عمّار بن ياسر موقوفاً ولا نعرفه مرفوعاً إلاّ من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلاً .
واختلف المفسّرون في أنّ المائدة هل نزلت من السماء أو لم تنزل . فعن مجاهد والحسن أنّهم لمّا سمعوا قوله تعالى : { فَمَن يكفر بعد منكم } الآية خافوا فاستعفوا من طلب نزولها فلم تنزل . وقال الجمهور : نزلت . وهو الظاهر لأنّ قوله تعالى : { إنّي منزّلها عليكم } وعد لا يخلف ، وليس مشروطاً بشرط ولكنه معقّب بتحذير من الكفر ، وذلك حاصل أثره عند الحواريّين وليسوا ممّن يخشى العود إلى الكفر سواء نزلت المائدة أم لم تنزل .
وأمّا النصارى فلا يعرفون خبر نزول المائدة من السماء ، وكم من خبر أهملوه في الأناجيل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا جواب من الله تعالى القوم فيما سألوا نبيهم عيسى مسألة ربهم من إنزاله مائدة عليهم، فقال تعالى ذكره: إني منزلها عليكم أيها الحواريون فمطعمكموها. "فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ ": فمن يجحد بعد إنزالها عليكم وإطعامكموها منكم رسالتي إليه وينكر نبوّة نبيي عيسى (صلى الله عليه وسلم) ويخالف طاعتي فيما أمرته ونهيته، فإني أعذّبه عذابا لا أعذّبه أحدا من عالمي زمانه. ففعل القوم، فجحدوا وكفروا بعد ما أنزلت عليهم -فيما ذكر لنا- فعذّبوا -فيما بلغنا- بأن مسخوا قردة وخنازير.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أجابه إلى سؤاله لهم، ولكن توعدهم بأليم العقاب لو خالفوا بعده، لِيَعْلَمَ السالكون أَنَّ المراد إذا حصل، وأَن الكرامة إذا تحققت فالخطر أشدُّ، والحالُ من الآفة أقربُ. وكلما كانت الرتبة أعلى كانت الآفة أخفى، ومحن الأكابر إذا حلَّت جلَّت.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ظاهر سؤالهم من الاستفهام عن الاستطاعة للاضطراب وإن كان للإلهاب، أكد الجواب فقال: {إني منزلها عليكم} أي الآن بقدرتي الخاصة بي {فمن يكفر بعد} أي بعد إنزالها {منكم} وهذا السياق مشعر بأنه يحصل منهم كفر، وقد وجد ذلك حتى في الحواريين على ما يقال في يهودا الإسخريوطي أحدهم الذي دل على عيسى عليه السلام، فألقى شبهه عليه، ولهذا خصه بهذا العذاب فقال: {فإني أعذبه} أي على سبيل البتّ والقطع {عذاباً لا أعذبه} أي مثله أبداً فيما يأتي من الزمان {أحداً من العالمين} وفي هذا أتم زاجر لهذه الأمة عن اقتراح الآيات...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قال الله إني منزلها عليكم}: وعد الله عيسى بتنزيلها عليهم مرة أو مرارا، ولكنه رتب على هذا الوعد شرطا أي شرط، فقال: {فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين (115)} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، مثل {إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر} [الكوثر: 1، 2] و المعنى أن من يكفر منهم بعد هذه الآية التي اقترحوها على الوجه الذي لا يحتمل الاشتباه ولا التأويل فإن الله تعالى يعذبه عذابا شديدا لا يعذب مثله أحدا من سائر كفار العالمين كلهم أو عالمي أمتهم الذين لم يعطوا مثل هذه الآية. وإنما يعاقب الخاطئ والكافر بقدر تأثير الخطيئة أو الكفر، والبعد فيه عن الشبهة والعذر، وما أعطي من موجبات الشكر، وأي شبهة أو عذر لمن يرى الآيات من رسوله ثم يقترح آية بينة على وجه مخصوص تشترك في العلم بها جميع حواسه، وينتفع بها في دنياه قبل آخرته، فيعطى ما طلب أو خيرا منه ثم ينكص بعد ذلك كله على عقبيه ويكون من الكافرين؟
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
واستجاب الله دعاء عبده الصالح عيسى بن مريم؛ ولكن بالجد اللائق بجلاله سبحانه.. لقد طلبوا خارقة. واستجاب الله. على أن يعذب من يكفر منهم بعد هذه الخارقة عذابا شديدا بالغا في شدته لا يعذبه أحدا من العالمين: (قال الله: إني منزلها عليكم، فمن يكفر بعد منكم، فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين).. فهذا هو الجد اللائق بجلال الله؛ حتى لا يصبح طلب الخوارق تسلية ولهوا. وحتى لا يمضي الذين يكفرون بعد البرهان المفحم دون جزاء رادع! وقد مضت سنة الله من قبل بهلاك من يكذبون بالرسل بعد المعجزة.. فأما هنا فإن النص يحتمل أن يكون هذا العذاب في الدنيا، أو أن يكون في الآخرة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {قال الله إنّي منزّلها} جواب دعاء عيسى، فلذلك فصلت على طريقة المحاورة. وأكّد الخبر ب {إنّ} تحقيقاً للوعد. والمعنى إنّي منزّلها عليكم الآن، فهو استجابة وليس بوعد...
وقد وقفت قصّة سؤال المائدة عند هذا المقدار وطُوي خبر ماذا حدث بعد نزولها لأنّه لا أثر له في المراد من القصّة، وهو العبرة بحال إيمان الحواريَّين وتعلّقهم بما يزيدهم يقيناً، وبقربهم إلى ربّهم وتحصيل مرتبة الشهادة على من يأتي بعدهم، وعلى ضراعة المسيح الدالّة على عبوديته، وعلى كرامته عند ربّه إذْ أجاب دعوته، وعلى سعة القدرة.
وأمّا تفصيل ما حوته المائدة وما دار بينهم عند نزولها فلا عبرة فيه. وقد أكثر فيه المفسَّرون بأخبار واهية الأسانيد سوى ما أخرجه الترمذي في أبواب التفسير عن الحسن بن قزعة بسنده إلى عمّار بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً» الحديث. قال الترمذي: هذا الحديث رواه غير واحد عن عمّار بن ياسر موقوفاً ولا نعرفه مرفوعاً إلاّ من حديث الحسن بن قزعة ولا نعلم للحديث المرفوع أصلاً.