{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
أي : { ولقد صدقكم الله وعده } بالنصر ، فنصركم عليهم ، حتى ولوكم أكتافهم ، وطفقتم فيهم قتلا ، حتى صرتم سببا لأنفسكم ، وعونا لأعدائكم عليكم ، فلما حصل منكم الفشل وهو الضعف والخور { وتنازعتم في الأمر } الذي فيه ترك أمر الله بالائتلاف وعدم الاختلاف ، فاختلفتم ، فمن قائل نقيم في مركزنا الذي جعلنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قائل : ما مقامنا فيه وقد انهزم العدو ، ولم يبق محذور ، فعصيتم الرسول ، وتركتم أمره من بعد ما أراكم الله ما تحبون وهو انخذال أعدائكم ؛ لأن الواجب على من أنعم الله عليه بما أحب ، أعظم من غيره .
فالواجب في هذه الحال خصوصًا ، وفي غيرها عموما ، امتثال أمر الله ورسوله .
{ منكم من يريد الدنيا } وهم الذين أوجب لهم ذلك ما أوجب ، { ومنكم من يريد الآخرة } وهم الذين لزموا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتوا حيث أمروا .
{ ثم صرفكم عنهم } أي : بعدما وجدت هذه الأمور منكم ، صرف الله وجوهكم عنهم ، فصار الوجه لعدوكم ، ابتلاء من الله لكم وامتحانا ، ليتبين المؤمن من الكافر ، والطائع من العاصي ، وليكفر الله عنكم بهذه المصيبة ما صدر منكم ، فلهذا قال : { ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } أي : ذو فضل عظيم عليهم ، حيث منَّ عليهم بالإسلام ، وهداهم لشرائعه ، وعفا عنهم سيئاتهم ، وأثابهم على مصيباتهم .
ومن فضله على المؤمنين أنه لا يقدر عليهم خيرا ولا مصيبة ، إلا كان خيرا لهم . إن أصابتهم سراء فشكروا جازاهم جزاء الشاكرين ، وإن أصابتهم ضراء فصبروا ، جازاهم جزاء الصابرين .
ثم ذكر الله - تعالى - المؤمنين بما حدث لهم في غزوة أحد ، وكيف أنهم انتصروا على أعدائهم فى أول معركة ، ثم كيف أنهم أصيبوا بالهزيمة بعد ذلك بسبب فشلهم وتنازعهم ومعصيتهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم ، ثم صور - سبحانه - أحوالهم فى هذه المعركة تصويرا بليغا مؤثرا وحكى أقوال ضعاف الإيمان ورد عليها بما يدحضها . استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك فيقول : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ . . . } .
قال القرطبى : قال محمد بن كعب القرظى : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد ، وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ؟ فنزل قوله - تعالى - { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } الآية .
وذلك أنهم قتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم بعده على اللواء ، وكان الظفر ابتداء للمسلمين ، غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة وترك بعض الرماة أيضاً مراكزهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة .
وقد روى البخارى عن البراء بن عازب قال : لما كان يوم أحد ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم : " لا تبرحوا من مكانكم . إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ، وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا " .
قال : فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددت الجبل - أى يسرعن الفرار - يرفعن عن سوقهن ، قد بدت خلاخلهن . فجعلوا يقولون - أى الرماة - " الغنيمة . . الغنيمة " فقال لهم أميرهم عبد الله بن جبير . أمهلوا . أما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا أماكنكم ؟ فأبوا - وانطلقوا لجمع الغنائم - فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا " .
وصدق الوعد معناه : تحقيقه والوفاء به ، الصدق مطابقة الخبر للواقع . والمراد بهذا الوعد ، ما وعد الله به المؤمنين من النصر والظفر فى مثل قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } وفى مثل قوله - تعالى - { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } وفى مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم للرماة قبل أن تبدأ المعركة " لا تبرحوا أماكنكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " .
ومعنى " تحسونهم تقتلونهم قتلا شديدا يفقدون معه حسهم وحركتهم . يقال : حسه حسا إذا قتله . وحقيقته : أصاب حاسته بآفة فأبطلها ، يقال : كبده وفأده أى : أصاب كبده وفؤاده . ومنه جراد محسوس ، وهو الذى قتله البرد أو مسته النار فأهلكته .
والمعنى : ولقد حقق الله - تعالى - لكم - أيها المؤمنون - ما وعدكم به من النصر على أعدائكم إذ إيدكم فى أول معركة أحد بعونه وتأييده فصرتم تقتلون المشركين قتلا ذريعا شديدا بإذنه وتيسيره ورعايته وكان حليفا لكم فى أول المعركة .
و " صدق " يتعدى لاثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر تقول : صدقت زيداً فى الحديث . وقد يتعدى بنفسه إلى مفعولين كما هنا إذ المفعول الأول ضمير المخاطبين ، والثانى قوله { وَعْدَهُ } .
وقوله { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } معمول لصدقكم أى صدقكم فى هذا الوقت وهو وقت قتلهم وقوله " بإذنه " متعلق بمحذوف لأنه حال من فاعل " تحسونهم " أى تقتلونهم مأذونا لكم فى ذلك .
فالجملة الكريمة تذكر المؤمنين بما كان من نصر الله - تعالى - لهم عندما أقبلوا على معركة أحد بقلوب مخلصة ، ونفوس ثابتة وعزيمة صادقة . . ثم بين - سبحانه - أن ما أصابهم من هزيمة بعد ذلك كان بسبب فشلهم وتنازعهم فقال - تعالى - : { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } .
والفشل : بمعنى الجبن والضعف ، يقال فشل يفشل فهو فشل وفاشل والتنازع : التخاصم والتحالف .
والمعنى : ولقد صدقكم الله وعده فى النصر - أيها المؤمنون - عندما كنتم تقاتلون أعداءكم بإيمان صادق ، وإخلاص الله - تعالى - حتى إذا ضعفت نفوسكم وعجزتم عن مقاومة أهوائكم وتنازعتم فيما بينكم ( أنتبع الغنائم نجمعها أم نبقى فى أماكننا التى حددها الرسول صلى الله عليه وسلم لنا ) ؟ ومال أكثركم إلى طلب الغنائم مخالفاً أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من بعد ما أراكم الله فى أول المعركة من نصر مؤزر تحبونه وترجونه ، ومن مغانم تتطلعون إليها بلهفة وشوق .
حتى إذا فعلتم ذلك منع الله - تعالى - عنكم نصره ، وتحول نصركم إلى هزيمة وفقدتم أنفسكم وما جمعتموه من غنائم .
وهكذا نرى أن ما أصاب المسلمين فى أحد من هزيمة كان بسبب فشل بعضهم وتنازعهم وعصيانهم أمر رسولهم صلى الله عليه وسلم وصدق الله إذ يقول : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } ولقد رتب الله - تعالى - ما حدث من بعض المؤمنين فى غزوة أحد ترتيباً دقيقاً ، يتفق مع ما حصل منهم وذلك لأنهم حدث منهم - أولا - الفشل بمعنى العجز النفسي عن الثبات والصبر . ثم ترتب على ذلك أن تنازعو فيما بينهم ونتج عن هذا التنازع أن ترك معظمهم مكانه ونزل إلى ميدان المعركة لجمع المغانم ، ثم ترتب على كل ذلك معصيتهم لأمر رسولهم وقائدهم صلى الله عليه وسلم .
قال الجمل ما ملخصه : وقوله { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } فى حتى هذه قولان :
أحدهما : أنها حرف جر بمعنى إلى وفى متعلقها حينئذ ثلاثة أوجه .
أحدها : أنها متعلقة بقوله : { تَحُسُّونَهُمْ } أى تقتلونهم إلى هذا الوقت .
والثانى : أنها متعلقة " بصدقكم " أى صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم . والثالث : أنها متعلقة بمحذوف دل عليه السياق تقديره : ودام لكم ذلك إلى وقت فشلكم .
والقول الثانى : أنها حرف ابتداء داخلة على الجملة الشرطية { إِذَا } على بابها من كونها شرطية ، والصحيح أن جوابها محذوف أى حتى إذا فشلتم وتنازعتم منع الله عنكم نصره " .
وقال الفخر الرازى : فإن قيل ما الفائدة فى قوله { بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } ؟
فالجواب عنه : أن المقصود منه التنبيه على عظم المعصية ، لأنهم لما شاهدوا أن الله - تعالى - " أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، لأنهم لما شاهدوا أن الله - تعالى - " أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم . وقوله { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } تفصيل للتنازع الذى كان بين الرماة ، أو بين بعض أفراد المسلمين الذين اشتركوا فى هذه الغزوة .
أى : منكم - أيها المسلمون - من يريد الدنيا ومغانمها حتى حمله ذلك على ترك مكانه المخصص له مخالفا نصيحة قائده ورسوله صلى الله عليه وسلم ولو أن هذا البعض منكم خالف هواه ، وحارب مطامعه ، وأطاع أمر رسوله صلى الله عليه وسلم لتم لكم النصر ، ولأتتكم الدنيا بغنائمها وهيى صاغرة .
ومنكم من يريد بجهاده وعمله ثواب الآخرة وهم الذين أطاعوا أمر رسولهم صلى الله عليه وسلم وثبتوا إلى جانبه يدافعون عنه وعن عقيدتهم وعن أنفسهم دفاع الأبطال الصامدين وهؤلاء هم الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم ما يسعدهم فى دنياهم وآخرتهم .
قال ابن جرير : قال ابن عباس : لما هزم الله المشركين يوم أحد ، قال الرماة : أدركوا الناس لا يسبقوكم إلى الغنائم فتكون لهم دونكم ، وقال بعضهم : لا نريم حتى يأذن لنا النبى صلى الله عليه وسلم فنزلت : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } .
وقال ابن مسعود : ما علمنا أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد " .
وقوله { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } عطف على جواب " إذا " المقدر ، وما بينهما اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه .
والتقدير : منع الله نصره عنكم بسبب فشلكم وتنازعكم ومعصيتكم لنبيكم ثم ردكم عنهم دون أن تنالوا ما تبتغون { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أى ليعاملكم الله - تعالى - معاملة من يمتحن غيره ، ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه وليتبين لكم الصابر المخلص من غيره .
وجاء العطف بثم فى قوله { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } للإشعار بالتفاوت الكبير بين المقصد الأصلى الذى خرجوا من أجله وهو النصر والحصول على الغنيمة وبين النتيجة التى انتهوا إليها وهى العودة مقهورين .
وكان التعبير بكلمة { صَرَفَكُمْ } دون كلمة " هزمتم " لأن ما حدث فى أحد لم يكن هزيمة وإن لم يكن نصراً . لأن الهزيمة تقتضى أن يولى المسلمون الأدبار وأن يتحكم فيهم أعداؤهم وما حدث فى أحد لم يكن كذلك ، وإنما كان زيادة فى عدد الشهداء من المسلمين عن عدد القتلى من المشركين لأن بعض المسلمين خالفوا وصية نبيهم صلى الله عليه وسلم وتطلعوا إلى زهرة الدنيا وزينتها بطريقة تتعارض مع ما يقتضيه الإيمان الصادق فكان من الله - تعالى - التأديب لهم .
. وفى هذا التعبير { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } تسلية لهم عما أصابهم ، وتخفيف لمصابهم فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن ما حدث فى أحد إنما هو نوع من الصرف عن الغاية التى من أجلها خرجتم لحكم من أهمها : تمييز الخبيث من الطيب ، وتربيتكم على تحمل المصائب والآلام ، وتأديبكم بالأدب المناسب حتى لا تعودوا مرة أخرى إلى مخالفة رسولكم صلى الله عليه وسلم .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يمسح آلامهم ويذهب الحسرة من قلوبهم فقال - تعالى - { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } .
أى : ولقد عفا - سبحانه - عما صدر منكم تفضلا منه وكرما ، والله تعالى هو صاحب الفضل المطلق الدائم على المؤمنين .
ولقد أكد - سبحانه - هذا العفو باللام وبقد وبالتعبير بالماضى ، ليفتح أمامهم طريق الأمل ، وليحفزهم على التوبة الصادقة والإيمان العميق ، حتى لا ييأسوا من رحمة الله .
والتذييل بقوله { ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } مؤكد لمضمون ما قبله .
قال الآلوسى : " إيذان بأن ذلك العفو ، ولو كان بعد التوبة ، بطريق التفضل لا الوجوب أى : شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو فى جميع الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم ، إذ الابتلاء أيضاً رحمة " .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت المؤمنين بأن الله - تعالى - قد حقق وعده معهم فى أول المعركة بأن سلطهم على المشركين يقتلونهم بتأييده ورعايته قتلا ذريعا فلما صدر من بعض المؤمنين الفشل والتنازع والعصيان منع الله عنهم عونه وصرفهم عن الغاية التى كانوا يتمنونها ليتميز الخبيث من الطيب ومع ذلك فقد عفا الله عما صدر منهم من أخطاء لأنه هو صاحب الفضل الدائم على المؤمنين .
وقوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } قال ابن عباس : وعدهم الله النصر .
وقد يستدل بهذه الآية على أحد القولين المتقدمين في قوله : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنزلِينَ . بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } أن ذلك كان يوم أحد لأن عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل ، فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام ، فلما حصل ما حصل من عصيان الرُّماة وفشل بعض المقاتلة ، تأخر الوعد الذي كان مشروطا بالثبات والطاعة ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ } أي : أول النهار { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } أي : تقتلونهم{[5823]} { بِإِذْنِهِ } أي : بتسليطه إياكم عليهم { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } وقال{[5824]} ابن جريج : قال ابن عباس : الفشل الجبن ، { وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ } كما وقع للرماة { مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } وهو الظفر منهم{[5825]} { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا } وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أي : غفر لكم ذلك الصَّنِيع ، وذلك - والله أعلم - لكثرة عَدد العدو وعُدَدهم ، وقلة عَدد المسلمين وعُدَدهم .
قال ابن جريج : قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } قال : لم يستأصلكم . وكذا قال محمد بن إسحاق ، رواهما ابن جرير { وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود أخبرنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عُبَيد الله{[5826]} عن ابن عباس أنه قال : ما نَصَرَ الله في مَوْطِن كما نصره يوم أحد . قال : فأنكرنا ذلك ، فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتابُ الله ، إن الله يقول في يوم أحد : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } يقول ابن عباس : والحَسُّ : القتل{[5827]} { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ } الآية{[5828]} وإنما عنى بهذا الرماة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ، ثم قال : " احْمُوا ظُهُورَنَا ، فَإنْ رَأيْتُمُونَا نقتل فَلا تَنْصُرُونَا وَإنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلا تُشْرِكُونَا . فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأباحُوا عسكر المشركين أكبّت الرُّماة جميعا [ ودخلوا ]{[5829]} في العسكر ينهبون ، ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَهُم هكذا - وشبك بين يديه - وانتشبوا ، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها ، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضرب{[5830]} بعضهم بعضا والتبسوا ، وقُتل من المسلمين ناس كثير ، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار ، حتى قُتِل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعةٌ ، وجال المسلمون جَوْلَةً نحو الجبل ولم يبلغوا - حيث يقول الناس - الغار ، إنما كان{[5831]} تحت المِهْراس ، وصاح الشيطان : قُتل محمد ، فلم يُشَك فيه أنه حق ، فما زلنا كذلك ما نَشُك أنه حق ، حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين ، نعرفه بتلفته{[5832]} إذا مشى - قال : ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا - قال : فَرَقِيَ نحونا وهو يقول : " اشتد{[5833]} غَضَبَ اللهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ " . ويقول مرة أخرى : " اللَّهم إنه ليس لَهم أنْ يَعْلُونَا " . حتى انتهى إلينا ، فمكث ساعة ، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل : اعْلُ هبل ، مرتين - يعني آلهته - أين ابن أبي كَبْشة ؟ أين ابن أبي قحَافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر : يا رسول الله ، ألا أجيبه ؟ قال : " بلى " قال : فلما قال : اعل هبل . قال عمر : الله أعلى وأجل . فقال أبو سفيان : قد أنعمت عينها فعَادِ عنها{[5834]} أو : فَعَالِ ! فقال : أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قُحَافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ فقال عمر : هذا رسول الله ، وهذا أبو بكر ، وها أنا ذا عمر . قال : فقال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، الأيام دُوَل ، وإن الحرب سِجَال . قال : فقال عمر : لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار . قال{[5835]} إنكم تزعمون{[5836]} ذلك ، لقد خِبْنا إذا وخَسِرْنا ثم قال أبو سفيان : إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة{[5837]} ولم يكن ذلك على رأي سراتنا . قال : ثم أدركَتْه حَمِيَّة الجاهلية فقال : أما إنه إن كان ذلك لم نَكْرهْه .
هذا حديث غريب ، وسياق عجيب ، وهو من مرسلات ابن عباس ، فإنه لم يشهد أحُدًا ولا أبوه .
وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي النَّضْر الفقيه ، عن عثمان بن سعيد ، عن سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس ، به . وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة ، من حديث سليمان بن داود الهاشمي ، به{[5838]} ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها ، فقال{[5839]} الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، حدثنا عطاء بن السائب عن الشعبي ، عن ابن مسعود قال : إن النساء كن يوم أحد ، خلْف المسلمين ، يُجْهزْن {[5840]} على جَرْحى المشركين ، فلو حَلَفت يومئذ رجوت أن أبَر : أنه ليس أحد منا يريد الدنيا ، حتى أنزل الله عز وجل : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } فلما خالف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعَصَوا ما أمروا به ، أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعة : سبعة من الأنصار ، ورجلين من قريش ، وهو عاشرهم ، فلما رهقُوه [ قال : " رَحِمَ اللهُ رجلا رَدَّهُمْ عَنَّا " . قال : فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل ، فلما رَهقُوه ]{[5841]} أيضا قال : " رَحِمَ اللهُ رَجُلا رَدَّهُمْ عَنَّا " . فلم يزل يقول ذا حتى قُتِل السبعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه : " مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا " .
فجاء أبو سفيان فقال : اعْلُ هُبَلُ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قُولُوا : اللهُ أعْلَى وأجَلُّ " . فقالوا : الله أعلى وأجل . فقال أبو سفيان : لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قُولُوا : " اللهُ مَوْلانَا ، وَالْكَافِرُونَ لا مَوْلَى لَهُم " . ثم قال أبو سفيان : يومٌ بيوْم بَدْر ، يومٌ علينا ويوم لنا{[5842]} ويوم نُسَاءُ ويوم نُسَر . حَنْظَلَةَ بِحَنْظَلَةَ ، وفلان بفلان ، وفلان بفلان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا سَوَاء . أمَّا قَتْلانَا فَأْحَيْاءٌ يُرْزَقُونَ ، وَقْتَلاكُمْ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ " . قال أبو سفيان : قد كان{[5843]} في القوم مَثُلَةٌ ، وإنْ كانَتْ لَعَنْ{[5844]} غير مَلأ منَّا ، ما أمرتُ ولا نَهَيْتُ ، ولا أحْبَبْتُ ولا كَرِهتُ ، ولا ساءني ولا سرَّني . قال : فنظروا فإذا حمزةُ قد بُقِرَ بَطْنُه ، وأخذتْ هنْد كَبده فلاكَتْها فلم تستطع أن تأكلها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكَلَتْ شَيْئًا ؟ " قالوا : لا . قال : " مَا كَانَ اللهُ ليُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ " .
قال : فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فَصَلَّى عليه ، وَجِيء برجل من الأنصار فَوُضِع إلى جنبه فصلَّى عليه ، فَرُفِعَ الأنصاري وتُرِكَ حمزة ، ثم جيء بآخر فوضعَه إلى جنب حمزة فصلى [ عليه ]{[5845]} ثم رُفِعَ وتُرِكَ حمزة ، حتى صلَّى عليه يومئذ سبعين صلاة .
تفرد به أحمد أيضًا{[5846]} .
وقال البخاري : حدثنا عُبَيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق : عن البراء قال : لقينا المشركين يومئذ ، وأجْلَس النبي صلى الله عليه وسلم جَيْشا من الرُّماة ، وأمَّر عليهم عبد الله - يعني ابن جُبَيْر - وقال : " لا تَبْرَحُوا إنْ{[5847]} رأيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلا تَبْرَحُوا ، وإنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلا تُعِينُونَا " . فلما لقيناهم هربُوا ، حتى رأينا النساء يَشْتَددْنَ{[5848]} في الجبل ، رَفَعْنَ عن سُوقهن ، وقد بدت خَلاخلهن ، فأخذوا يقولون : الغنيمةَ الغَنيمة . فقال عبد الله : عَهدَ إليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ألا تَبْرَحُوا . فأبَوْا ، فلما أبَوْا صَرَفَ وجوههم ، فأُصِيب سبعون قتيلا فأشرف أبو سفيان فقال : أفي القوم محمد ؟ فقال : " لا تجيبوه " . فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فقال : " لا تُجِيبُوهُ " . فقال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال : إن هؤلاء قد قُتِلوا ، فلو كانوا أحياء لأجابوا . فلم يملك عُمَرُ نفسه فقال : كَذَبْتَ يَا عَدَوَّ اللهِ ، قد أبقى الله لك ما يُحزِنكَ{[5849]} فقال أبو سفيان : اعْل هُبَل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أجِيبُوهُ " . قالوا : ما نقول ؟ قال : " قُولُوا : الله أعْلَى وأجَلُّ " . فقال أبو سفيان : لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أجِيبُوهُ " . قالوا : ما نقول ؟ قال : " قُولُوا : اللهُ مَوْلانَا ، وَلا مَوْلَى لَكُمْ " . قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، والحرب سِجَال ، وتجدون مَثُلَةً لم آمر بها ولم تسؤني .
تفرد به البخاري من هذا الوجه ، ثم رواه عن عَمْرو بن خالد ، عن زُهَير بن معاوية عن أبي إسحاق ، عن البراء ، بنحوه{[5850]} وسيأتي بأبْسط من هذا .
وقال البخاري أيضا : حدثنا عُبَيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عُرْوة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لَمَّا كان يوم أُحد هُزِم المشركون ، فصَرخَ إبليس : أيْ عباد الله ، أخْرَاكم . فَرَجعت أولادهم{[5851]} فاجْتَلَدَتْ هي وأخراهم ، فَبَصُرَ حُذَيفة فإذا هو بأبيه اليمان ، فقال : أيْ عباد الله ، أبي أبي . قال : قالت : فوالله ما احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوه ، فقال حذيفة : يغفر الله لكم . قال عروة : فوالله ما زَالَتْ في حذيفة بقية خير حتى لقي الله عز وجل{[5852]} .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني يحيى بن عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن جَده أن الزبير بن العوام قال : والله لقد رأيتني أنظر إلى خَدَم [ هند ]{[5853]} وصواحباتها مُشَمِّرات هوارب ما دون أخْذهن كثير ولا قليل{[5854]} ومالت الرُّماة إلى العسكر حين كَشَفْنا القوم عنه ، يريدون النهب وَخَلَّوا ظهورنَا للخيل فأتتنا من أدبارنا ، وصرخ{[5855]} صارخ : ألا إنَّ محمدًا قد قُتل . فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصَبْنا أصحاب اللواء ، حتى ما يدنو منه أحد من القوم .
قال محمد بن إسحاق : فلم يزل لواء المشركين صريعا ، حتى أخذته عَمْرَة بنت علقمة الحارثية ، فدفعته لقريش فلاثوا{[5856]} به{[5857]} {[5858]} وقال السُّدِّي عن عبد خير قال : قال{[5859]} عبد الله بن مسعود{[5860]} قال : ما كنتُ أرى أن أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت{[5861]} فينا ما نزل يوم أحد { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ } .
وقد رُوي من غير وَجْه عن ابن مسعود ، وكذا رُوي عن عبد الرحمن بن عَوْف وأبي طلحة ، رواهن ابن مَرْدُويَه في تفسيره .
وقوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } قال ابن إسحاق : حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع ، أحدُ بني عديّ بن النجار قال : انتهى أنسُ بنُ النَّضر ، عَمّ أنس بن مالك ، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عُبَيد الله ، في رجال من المهاجرين والأنصار ، قد ألْقَوْا بأيديهم فقال : ما يخليكم{[5862]} ؟ فقالوا : قُتِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه . ثم استقبل القومَ فقاتل حتى قُتِل .
وقال البخاري : حدثنا حسان بن حسان ، حدثنا محمد بن طلحة ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس بن مالك : أن عمه - يعني أنس بن النضر - غاب عن بدر فقال : غِبْتُ عن أول قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لَئِنْ أشْهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيَرَيَنّ الله ما أُجدّ فلقي يومَ أحد ، فهُزم الناسُ ، فقال : اللهُمّ إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرَأ إليك مما جاء به المشركون ، فتقدم بسيفه فَلقي سعدَ بن مُعَاذ فقال : أينَ يا سعد ؟ إني أجدُ ريح الجنة دون أحد . فمضى فَقُتِل ، فما عُرف حتى عَرَفته أخته ببنانه{[5863]} بشامة{[5864]} وبه بضع وثمانون من طَعْنة وضَرْبة ورَمْية بسَهْم .
هذا لفظ البخاري وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس ، بنحوه{[5865]} .
وقال البخاري [ أيضا ]{[5866]} حدثنا عبدان ، أخبرنا أبو حَمْزَةَ عن عثمان بن مَوْهَب قال : جاء رجل حج البيت ، فرأى قوما جلوسا ، فقال : من هؤلاء القُعُودُ ؟ قالوا : هؤلاء قريش . قال : من الشيخ ؟ قالوا : ابن عُمَر . فأتاه فقال : إني سائلك عن شيء فحدثني . قال : أنْشُدُك بحرمة هذا البيت أتعلم أنَّ عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟ قال : نعم . قال : فَتَعْلَمُه تَغَيَّب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال : نعم . قال : فتعْلم أنه تخلف عن بيعة الرّضْوان فلم يشهَدْها ؟ قال : نعم . قال : فكبر ، فقال{[5867]} ابن عمر : تَعَالَ لأخبرَك ولأبيَّن لك عما سألتني عنه . أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه ، وأما تَغَيُّبه عن بدر فإنه كان تحتَه بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت مريضة ، فقال له رسول الله{[5868]} صلى الله عليه وسلم : " إنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَه " . وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعزّ ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه ، فبعث عثمانَ ، فكانت{[5869]} بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى : " هِذِهِ يَدُ عُثْمَان " . فضرب بها على يده ، فقال : " هِذِهِ يَدُ عُثْمَان اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ " .
ثم رواه البخاري من وجه آخر عن أبي عَوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب{[5870]} .
جاءت المخاطبة في هذه الآيات بجمع ضمير المؤمنين ، وإن كانت الأمور التي عاتبهم الله تعالى عليها لم يقع فيها جميعهم ، ولذلك وجوه من الفصاحة : منها وعظ الجميع وزجره ، إذ من لم يفعل معد أن يفعل إن لم يزجر ، ومنها الستر والإبقاء على من فعل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد المؤمنين النصر يومئذ على خبر الله تعالى -إن صبروا وجدوا- فصدق الله الوعد أولاً ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاف المسلمين يومئذ ورتب الرماة على ما قد ذكرناه في صدر تفسير هذه الآيات في قصة أُحد ، فبارز علي بن أبي طالب أبا سعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين ، وحمل الزبير وأبو دجانة{[3611]} فهزّا عسكر المشركين ، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، فأبلى حمزة بن عبد المطلب وعاصم بن ابي الأقلح ، وانهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلاً فهذا معنى قوله تعالى : { إذ تحسونهم بإذنه } والحس : القتل الذريع ، يقال حسهم إذا استأصلهم قتلاً ، وحس البرد النبات وقال رؤبة : [ الرجز ]
إذا تَشَكَّوْا سُنَّةً حَسُوسا . . . تَأْكُلُ بَعْدَ الأَخْضَرِ الْيَبِيسا{[3612]}
قال بعض الناس : هو مأخوذ من الحاسة ، والمعنى في حس : أفسد الحواس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، و «الإذن » : التمكين مع العلم بالممكن منه ، وقوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } يحتمل أن تكون { حتى } غاية مجردة ، كأنه قال : إلى أن فشلتم ، ويقوي هذا أن { إذا } بمعنى «إذ » لأن الأمر قد كان تقضى ، وإنما هي حكاية حال ، فتستغني { إذا } على هذا النظر عن جواب ، والأظهر الأقوى أن { إذا } على بابها تحتاج إلى الجواب ، وتكون حتى كأنها حرف ابتداء على نحو دخولها على الجمل ، واختلف النحاة في جواب { إذا } فذهبت فرقة إلى أن الجواب قوله { تنازعتم } ، والواو زائدة{[3613]} ، وحكى المهدوي عن أبي علي أنه قال : الجواب قوله : { صرفكم } و { ثم } زائدة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا يشبه نظر أبي علي وسيبويه ، والخليل وفرسان الصناعة ، إن الجواب محذوف مقدر ، يدل عليه المعنى ، تقديره : انهزمتم ونحوه ، و «الفشل » - استشعار العجز وترك الجد ، وهذا مما فعله يومئذ قوم ، و «التنازع » هو الذي وقع بين الرماة ، فقال بعضهم : الغنيمة الغنيمة ، الحقونا بالمسلمين ، وقال بعضهم : بل نثبت كما أمرنا { وعصيتم } عبارة عن ذهاب من ذهب من الرماة حتى تمكن خالد بن الوليد من غرة المسلمين ، وقوله تعالى : { من بعد ما أراكم ما تحبون } يعني من هزم القوم ، قال الزبير بن العوام : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة{[3614]} وصواحبها مشمرات هاربات ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا ، وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم ، وقوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } إخبار عن الذين حرصوا على الغنيمة وكان المال همهم ، قاله ابن عباس وسائر المفسرين ، وقال عبد الله بن مسعود : ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد { منكم من يريد الدنيا } وقوله تعالى : { ومنكم من يريد الآخرة } إخبار عن ثبوت من ثبت من الرماة مع عبد الله بن جبير امتثالاً للأمر حتى قتلوا ، ويدخل في هذا أنس بن النضر وكل من جد ولم يضطرب من المؤمنين ، وقوله تعالى : { ليبتليكم } معناه : لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص ، وقوله تعالى : { ولقد عفا عنكم } إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل ، وهذا تحذير ، والمعنى «ولقد عفا عنكم » بأن لم يستأصلوكم ، فهو بمنزلة : ولقد أبقى عليكم ، ويحتمل أن يكون إخباراً بأنه عفا عن ذنوبهم في قصة أحد ، فيكون بمنزلة العفو المذكور بعد ، وبالتفسير الأول قال ابن جريج وابن إسحاق وجماعة من المفسرين ، وقال الحسن بن أبي الحسن : قتل منهم سبعون ، وقتل عم النبي عليه السلام وشج في وجهه وكسرت رباعيته وإنما العفو أن لم يستأصلهم ، هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله غضاب لله ، يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم ، فأفسق الفاسقين اليوم يجترم كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم .