تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

ثم ذكر مثلهم الكاشف لها غاية الكشف ، فقال : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

أي : مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا ، أي : كان في ظلمة عظيمة ، وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره ، ولم تكن عنده معدة ، بل هي خارجة عنه ، فلما أضاءت النار ما حوله ، ونظر المحل الذي هو فيه ، وما فيه من المخاوف وأمنها ، وانتفع بتلك النار ، وقرت بها عينه ، وظن أنه قادر عليها ، فبينما هو كذلك ، إذ ذهب الله بنوره ، فذهب عنه النور ، وذهب معه السرور ، وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة ، فذهب ما فيها من الإشراق ، وبقي ما فيها من الإحراق ، فبقي في ظلمات متعددة : ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة المطر ، والظلمة الحاصلة بعد النور ، فكيف يكون حال هذا الموصوف ؟ فكذلك هؤلاء المنافقون ، استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين ، ولم تكن صفة لهم ، فانتفعوا بها{[56]}  وحقنت بذلك دماؤهم ، وسلمت أموالهم ، وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا ، فبينما هم على ذلك{[57]}  إذ هجم عليهم الموت ، فسلبهم الانتفاع بذلك النور ، وحصل لهم كل هم وغم وعذاب ، وحصل لهم ظلمة القبر ، وظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظُلَمُ{[58]}  المعاصي على اختلاف أنواعها ، وبعد ذلك ظلمة النار [ وبئس القرار ] . فلهذا قال تعالى [ عنهم ] : { صُمٌّ }


[56]:- في ب: ما استضاءوا بها مؤقتا وانتفعوا فحقنت.
[57]:- في ب: هم كذلك.
[58]:- في ب: وظلمة.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

وبعد أن وصف الله تعالى حال المنافقين في الآيات السابقة ، ساق مثلين لتوضيح سوء تصرفهم ، وشدة حيرتهم واضطرابهم . فقال تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً . . . . }

قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ } أي : صفتهم ، وأصل المثل بمعنى المثل - بكسر الميم وسكون الثاء - والمثل النظير والشبيه ، ثم أطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه - وهو الذي يضرب فيه - لمورده الذي ورد فيه أولا ، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شان عجيب وفيها غرابة ، وعلى هذا المعنى يحمل المثل في هذه الآية ، وإنما تضرب الأمثال لإِيضاح المعنى الخفي وتقريب المعقول من المحسوس ، وعرض الغائب في صورة الشاهد ، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب ، وأثبت في النفوس .

واستوقد النار : طلب وقودها بسطوع نارها واندلاع لهيبا ، أو أوقدها لأن أوقد واستوقد قد يكونان بمعنى واحد كأجاب واستجاب .

والنار : جوهر لطيف حار محرق من نار ينور إذا نفر لحركتها واضطرابها ، وأضاءت ما حوله ، جعلت ما حوله مضئياً ، أو أشرقت فيما حوله . وحول الشيء : ما يحيط به من جميع نواحيه ، ولذا قيل للعام حول ، للفه ودورانه حتى يعود كما كان .

والنور : الضوء الذي يكون للشيء المضيء ، وهو مأخوذ من النار .

ومعنى : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } سلبه منهم ، وفي إسناد ذهب إلى الله تعالى - إشعار بأن النور الذي سلب عنهم لن يستطيع أحد أن يرده عليهم ، لأن الذي سلبه عنهم إنما هو الله الغالب على أمره .

وقال { بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنارهم ، لأن إيقاد النار يكون للإِضاءة وللإِحراق والمقصود من إيقاد النار الواردة في المثل إنما هو الإِضاءة .

وقال { بِنُورِهِمْ } ولم يقل بنوره ، مع أن الضمير يعود { الذي استوقد } وهو بحسب الظاهر مفرد ، لأن { الذي } قد يطلق أحيانا قد يطلق بمعنى الذين ، كما في قوله تعالى : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } أو لأن { الذي } أريد منه جنس المستوقد ، لا مستوقد بعينه ، فصار في معنى جماعة من المستوقدين . وصح أن يعود عليه ضمير الجمع في قوله { بِنُورِهِمْ } لذلك .

وأورد الظلمات بصيغة الجمع للمبالغة في شدتها ، فكأنها لشدة كثافتها ظلمات بعضها فوق بعض ، وأكد هذا بقوله { لاَّ يُبْصِرُونَ } أي : أن هذه الظلمات بالغة في الشدة حتى أولئك المحاطين بها لا يتأتى لهم أن يبصروا ، كما أن الشان كذلك بالنسبة للذين طمس على أعينهم .

وعبر - سبحانه - بقوله : { وَتَرَكَهُمْ } ولم يقل : ذهب بنورهم وبقوا في ظلمات ، ليدل بذلك على قطع الصلة بينهم وبين ربهم ، وأنهم متروكون غضباً عليهم ونكاية بهم .

هذا ، وللعلماء رأيان في تطبيق هذا المثل على المنافقين ، أما الرأي الأول فيرى أصحابه ، أن هذا المثل قد ضرب في قوم دخلوا في الإِسلام عند وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ثم تحولوا بعد ذلك إلى الكفر والنفاق فيقال في تطبيق هذا المثل عليهم : إن قصة هؤلاء المنافقين الذين اكتسبوا بإيمانهم نوراً ، ثم أبطلوا ذلك بنفاقهم ، ووقعوا في حيرة عظيمة ، كقصة من استوقدوا ناراً ؛ فلما أضاءت ما حولهم ، سلب الله منهم الضوء فراحوا في ظلام لا يهتدون إلى الخروج منه سبيلا .

وأما الرأي الثاني فيرى أصحابه أن هذا المثل إنما ضرب في قوم لم يسبق لهم إيمان وإنما دخلوا في الإسلام من أول أمرهم نفاقاً ، فيقال في تطبيق هذا المثل عليهم : إن قصة هؤلاء الذين دخلوا في الإِسلام نفاقاً ، فظفروا بحقن دمائهم وبغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين ، وتمتعوا بذلك في الدنيا قليلا ثم صاروا إلى ظلمات العذاب الدائم في الآخرة - قصة هؤلاء كقصة من استوقدوا نارا لتضيء لهم وينتفعوا بها ، فأضاءت ما حولهم قليلا ، ثم طفئت وصاروا إلى ظلمة شديدة مطبقة .

/خ20

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ }

[ يقال : مثل ومثل ومثيل - أيضا - والجمع أمثال ، قال الله تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ]{[1298]} .

وتقدير هذا المثل : أن الله سبحانه ، شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى ، وصيرورتهم بعد التبصرة إلى العمى ، بمن استوقد نارًا ، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله ، وتَأنَّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره ، وصار في ظلام شديد ، لا يبصر ولا يهتدي ، وهو مع ذلك أصم لا يسمع ، أبكم لا ينطق ، أعمى لو كان ضياء لما أبصر ؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك ، فكذلك هؤلاء{[1299]} المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى ، واستحبابهم الغَيّ على الرّشَد . وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا ، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع ، والله أعلم .

وقد حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال : والتشبيه هاهنا في غاية الصحة ؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النور فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين .

وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] .

والصواب : أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ، ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم ، ولم يستحضر ابن جرير ، رحمه الله ، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 3 ] ؛ فلهذا وجه [ ابن جرير ]{[1300]} هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان ، أي في الدنيا ، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة .

قال : وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد ، كما قال : { رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [ الأحزاب : 19 ] أي : كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] وقال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } [ الجمعة : 5 ] ، وقال بعضهم : تقدير الكلام : مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا . وقال بعضهم : المستوقد واحد لجماعة معه . وقال آخرون : الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر :

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أم خالد{[1301]}

قلت : وقد التفت في أثناء المثل من الواحد{[1302]} إلى الجمع ، في قوله تعالى : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } وهذا أفصح في الكلام ، وأبلغ في النظام ، وقوله تعالى : { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } أي : ذهب عنهم ما ينفعهم ، وهو النور ، وأبقى لهم ما يضرهم ، وهو الإحراق والدخان { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق ، { لا يُبْصِرُونَ } لا يهتدون إلى سبل{[1303]} خير ولا يعرفونها ، وهم مع ذلك { صُمٌّ } لا يسمعون خيرا { بُكْمٌ } لا يتكلمون بما ينفعهم { عُمْيٌ } في ضلالة وعماية البصيرة ، كما قال تعالى : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة .

ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه :

قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ، في قوله تعالى : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } زعم أن ناسًا دخلوا في الإسلام مَقْدَم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، ثم إنهم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة ، فأوقد نارًا ، فأضاءت ما حوله من قذى ، أو أذى ، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه{[1304]} فبينا{[1305]} هو كذلك إذ طفئت ناره ، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى ، فكذلك المنافق : كان في ظلمة الشرك فأسلم ، فعرف الحلال والحرام ، و[ عرف ]{[1306]} الخير والشر ، فبينا{[1307]} هو كذلك إذ كفر ، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ، ولا الخير من الشر .

وقال مجاهد : { فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ }{[1308]} أما إضاءة النار فإقبالهم{[1309]} إلى المؤمنين ، والهدى .

وقال عطاء الخرساني في قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } قال : هذا مثل المنافق ، يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا ، ثم يدركه عمى القلب .

وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ، والحسن والسدي ، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، في قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } إلى آخر الآية ، قال : هذه صفة المنافقين . كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم ، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا{[1310]} ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه ، كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون .

وقال العوفي ، عن ابن عباس ، في هذه الآية ، قال : أما النور : فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به ، وأمَّا الظلمة : فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به ، وهم قوم كانوا على هدى ، ثمّ نزع منهم ، فعتوا بعد ذلك .

وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } قال : هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام ، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العِزّ ، كما سُلِب صاحب النار ضَوءه .

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الرّبيع بن أنس ، عن أبي العالية : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } فإنما ضوء النار ما أوقدتها ، فإذا خمدت ذهب نورها ، وكذلك المنافق ، كلما تكلم بكلمة الإخلاص ، بلا إله إلا الله ، أضاء له ، فإذا شك وقع في الظلمة .

وقال الضحاك [ في قوله ]{[1311]} { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به .

وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } فهي{[1312]} لا إله إلا الله ؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا ، ونكحوا النساء ، وحقنوا دماءهم ، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون .

وقال سعيد ، عن قتادة في هذه الآية : إن المعنى : أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له الدنيا ، فناكح بها المسلمين ، وغازاهم بها ، ووارثهم بها ، وحقن بها دمه وماله ، فلما كان عند الموت ،

سلبها المنافق ؛ لأنه{[1313]} لم يكن لها أصل في قلبه ، ولا حقيقة في عمله{[1314]} .

{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } يقول : في عذاب إذا ماتوا .

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } أي يبصرون الحق ويقولون به ، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم{[1315]} ونفاقهم فيه ، فتركهم الله في ظلمات الكفر ، فهم لا يبصرون هدى ، ولا يستقيمون على حق .

وقال السدي في تفسيره بسنده : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } فكانت الظلمة نفاقهم .

وقال الحسن البصري : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ } فذلك{[1316]} حين يموت المنافق ، فيظلم عليه عمله عمل السوء ، فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق{[1317]} به قول : لا إله إلا الله{[1318]} . { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } قال السدي بسنده : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } فهم خرس عمي{[1319]} .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } يقول : لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه ، وكذا قال أبو العالية ، وقتادة بن دعامة .

{ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } قال ابن عباس : أي لا يرجعون إلى هدى ، وكذلك{[1320]} قال الرّبيع بن أنس .

وقال السدي بسنده : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } إلى الإسلام .

وقال قتادة : { فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } أي لا يتوبون{[1321]} ولا هم يذكرون .

/خ20


[1298]:زيادة من جـ، ط.
[1299]:في جـ: "هم".
[1300]:زيادة من و.
[1301]:البيت للأشهب بن رميلة، كما في اللسان، مادة "فلج".
[1302]:في جـ، ط، ب، أ، و: "الوحدة".
[1303]:في طـ، ب: "سبيل".
[1304]:في جـ، ط، ب: "منها".
[1305]:في أ، و: "فبينما".
[1306]:زيادة من جـ.
[1307]:في أ، و: "فبينما".
[1308]:في جـ: "ما حوله ذهب الله بنورهم".
[1309]:في جـ، ط، ب: "فإقباله".
[1310]:في جـ: "استوقد نارا".
[1311]:زيادة من جـ، ط، ب.
[1312]:في جـ: "فهو".
[1313]:في جـ: "لأنها".
[1314]:في جـ: "علمه".
[1315]:في جـ: "طعنوا بكفرهم به".
[1316]:في جـ: "فبذلك".
[1317]:في جـ: "يصدقه".
[1318]:في طـ، ب، و: "إلا هو".
[1319]:في جـ: "عمي خرس".
[1320]:في جـ، ط، ب، أ: "وكذا".
[1321]:في جـ: "لا يؤمنون".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل زيادة في التوضيح والتقرير ، فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم الألد ، لأنه يريك المتخيل محققا والمعقول محسوسا ، ولأمر ما أكثر الله في كتبه الأمثال ، وفشت في كلام الأنبياء والحكماء . والمثل في الأصل بمعنى النظير يقال : مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده ، ولا يضرب إلا ما فيه غرابة ولذلك حوفظ عليه من التغيير ، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة مثل قوله تعالى { مثل الجنة التي وعد المتقون } وقوله تعالى { ولله المثل الأعلى } . والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا والذي : بمعنى الذين كما في قوله تعالى : { وخضتم كالذي خاضوا } إن جعل مرجع الضمير في بنورهم ، وإنما جاز ذلك ولم يجز وضع القائم موضع القائمين لأنه غير مقصود بالوصف ، بل الجملة التي هي صلته وهو وصلة إلى وصف المعرفة بها لأنه ليس باسم تام بل هو كالجزء منه ، فحقه أنه لا يجمع كما لا نجمع أخواتها ، ويستوي فيه الواحد والجمع وليس الذين جمعه المصحح ، بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى ولذلك جاء بالياء أبدا على اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل ، ولكونه مستطالا بصلته استحق التخفيف ، ولذلك بولغ فيه فحذف ياؤه ثم كسرته ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ، أو قصد به جنس المستوقدين ، أو الفوج الذي استوقد . والاستيقاد : طلب الوقود والسعي في تحصيله ، وهو سطوع النار وارتفاع لهبها . واشتقاق النار من : نار ينور نورا إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا .

{ فلما أضاءت ما حوله } أي النار ، ما حول المستوقد إن جعلتها متعدية ، وإلا أمكن أن تكون مسندة إلى ما والتأنيث لأن ما حوله أشياء وأماكن أو إلى ضمير النار ، وما : موصولة في معنى الأمكنة ، نصب على الظرف ، أو مزيدة ، وحوله ظرف وتأليف الحول للدوران . وقيل للعام حول لأنه يدور . { ذهب الله بنورهم } جواب لما ، والضمير للذي ، وجمعه للحمل على المعنى ، وعلى هذا إنما قال : { بنورهم } ولم يقل : بنارهم لأنه المراد من أيقادها . أو استئناف أجيب به اعتراض سائل يقول : ما بالهم شبهت حالهم بحال مستوقد قد انطفأت ناره ؟ أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان . والضمير على الوجهين للمنافقين ، والجواب محذوف كما في قوله تعالى : { فلما ذهبوا به } للإيجاز وأمن الالتباس . وإسناد الذهاب إلى الله تعالى إما لأن الكل بفعله ، أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفي ، أو أمر سماوي كريح أو مطر ، أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك ، يقال ذهب السلطان بماله إذا أخذه ، وما أخذه الله وأمسكه فلا مرسل له ، ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور ، فإنه لو قيل : ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا ، والغرض إزالة النور عنهم رأسا ألا ترى كيف قرر ذلك وأكده بقوله { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } فذكر الظلمة التي هي عدم النور ، وانطماسه بالكلية ، وجمعها ونكرها ووصفها بأنها ظلمة خالصة لا يتراءى فيها شبحان . وترك في الأصل بمعنى طرح وخلى ، وله مفعول واحد فضمن معنى صير فجرى مجرى أفعال القلوب كقوله تعالى : { وتركهم في ظلمات } وقول الشاعر :

فتركته جزر السباع ينشنه *** يقضمن حسن بنانه والمعصم

والظلمة مأخوذة من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا ، أي ما منعك ، لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية ، وظلماتهم : ظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظلمة يوم القيامة { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } . أو ظلمة الضلال ، وظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السرمدي ، أو ظلمة شديدة كأنها ظلمة متراكمة ، ومفعول { لا يبصرون } من قبيل المطروح المتروك فكأن الفعل غير متعد .

والآية مثل ضربه الله لمن آتاه ضربا من الهدى فأضاعه ، ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيرا متحسرا ، تقريرا وتوضيحا لما تضمنته الآية الأولى ، ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر ، وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم ، ومن آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة ، أو ارتد عن دينه بعدما آمن ومن صح له أحوال الإرادة فادعى أحوال المحبة فأذهب الله عنه ما أشرق عليه من أنوار الإرادة ، أو مثل لإيمانهم من حيث إنه يعود عليهم يحقن الدماء ، وسلامة الأموال والأولاد ، ومشاركة المسلمين في المغانم . والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة ، ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها .