{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ }
هذه الآيات مشتملات على ذكر ثواب المؤمنين وعقاب العاصين ، والسبب في ذلك ، ودعوة الخلق إلى الاعتبار بذلك ، فقال : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وهؤلاء رؤساء الكفر ، وأئمة الضلال ، الذين جمعوا بين الكفر بالله وآياته ، والصد لأنفسهم وغيرهم عن سبيل الله ، التي هي الإيمان بما دعت إليه الرسل واتباعه .
فهؤلاء { أَضَلَّ } الله { أَعْمَالَهُمْ } أي : أبطلها وأشقاهم بسببها ، وهذا يشمل أعمالهم التي عملوها ليكيدوا بها الحق وأولياء الله ، أن الله جعل كيدهم في نحورهم ، فلم يدركوا مما قصدوا شيئا ، وأعمالهم التي يرجون أن يثابوا عليها ، أن الله سيحبطها عليهم ، والسبب في ذلك أنهم اتبعوا الباطل ، وهو كل غاية لا يراد بها وجه الله من عبادة الأصنام والأوثان ، والأعمال التي في نصر الباطل لما كانت باطلة ، كانت الأعمال لأجلها باطلة .
1- هذه السورة تسمى بسورة محمد صلى الله عليه وسلم لما فيها من الحديث عما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم وتسمى –أيضاً- بسورة القتال ، لحديثها المستفيض عنه .
وهي من السور المدنية التي يغلب على الظن أن نزولها كان بعد غزوة بدر وقبل غزوة الأحزاب ، وقد ذكروا أن نزولها كان بعد سورة " الحديد " ( {[1]} ) .
وعدد آياتها أربعون آية في البصري ، وثمان وثلاثون في الكوفي ، وتسع وثلاثون في غيرهما .
2- وتفتتح السورة الكريمة ببيان سوء عاقبة الكافرين ، وحسن عاقبة المؤمنين ، ثم تحض المؤمنين على الإغلاظ في قتال الكافرين ، وفي أخذهم أسارى ، وفي الإعلاء من منزلة المجاهدين في سبيل الله .
قال –تعالى- : [ والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم ، سيهديهم ويصلح بالهم ، ويدخلهم الجنة عرفها لهم . . . ] .
3- ثم وجه –سبحانه- نداء إلى المؤمنين وعدهم فيه بالنصر متى نصروه وتوعد الكافرين بالتعاسة والخيبة ، ووبخهم على عدم اعتبارهم واتعاظهم ، كما بشر المؤمنين –أيضا- بجنة فيها ما فيها من نعيم .
قال –تعالى- : [ مثل الجنة التي وعد المتقون ، فيها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، ولهم فيها من كل الثمرات ، ومغفرة من ربهم ، كمن هو خالد في النار ، وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ] .
4- ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن المنافقين ، فذكرت جانبا من مواقفهم السيئة من النبي صلى الله عليه وسلم ومن دعوته ، ووبختهم على خداعهم وسوء أدبهم .
قال –تعالى- : [ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ] .
5- ثم صورت السورة الكريمة ما جبل عليه هؤلاء المنافقون من جبن وهلع ، وكيف أنهم عندما يدعون إلى القتال يصابون بالفزع الخالع .
قال –سبحانه- [ ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة ، فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال ، رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم . طاعة وقول معروف ، فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ] .
6- وبعد أن بينت السورة الكريمة أن نفاق المنافقين كان بسبب استحواذ الشيطان عليهم ، وتوعدتهم بسوء المصير في حياتهم وبعد مماتهم .
بعد كل ذلك أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بأوصافهم الذميمة ، فقال –تعالى- : [ أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم . ولو نشاء لأريناكهم ، فلعرفتهم بسيماهم ، ولتعرفنهم في لحن القول ، والله يعلم أعمالكم ] .
7- ثم عادت السورة إلى الحديث عن الكافرين وعن المؤمنين ، فتوعدت الكافرين بحبوط أعمالهم . وأمرت المؤمنين بطاعة الله ورسوله . ونهتهم عن اليأس والقنوط ، وبشرتهم بالنصر والظفر ، وحذرتهم من البخل ، ودعتهم إلى الإنفاق في سبيل الله .
قال –تعالى- : [ هأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء ، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم . ثم لا يكونوا أمثالكم ] .
8- هذا والمتدبر في هذه السورة الكريمة –بعد هذا العرض الإجمالي لها- يراها تهتم بقضايا من أهمها ما يأتي :
( أ ) تشجيع المؤمنين على الجهاد في سبيل الله –تعالى- : وعلى ضرب رقاب الكافرين ، وأخذهم أسرى ، وكسر شوكتهم ، وإذلال نفوسهم . . كل ذلك بأسلوب قد اشتمل على أسمى ألوان التحضيض على القتال .
نرى ذلك في قوله –تعالى- : [ فإذا لقيتم الذين كفروا فضر الرقاب . حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ] .
وفي قوله –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ] .
( ب ) بيان سوء عاقبة الكافرين في الدنيا والآخرة ، ودعوتهم إلى الدخول في الدين الحق . وإبراز الأسباب التي حملتهم على الجحود والعناد .
نرى ذلك في آيات كثيرة منها قوله –تعالى- : [ وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم . أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ] .
( ج ) كشفها عن أحوال المنافقين وأوصافهم بصورة تميزهم عن المؤمنين وتدعو كل عاقل إلى احتقارهم ونبذهم . يسبب خداعهم وكذبهم ، وجبنهم واستهزائهم بتعاليم الإسلام . ولقد توعدهم الله –تعالى- بأشد ألوان العذاب ، فقال : [ أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ] .
افتتحت سورة القتال بهذا الذم الشديد للكافرين ، وبهذا الثناء العظيم على المؤمنين .
افتتحت بقوله - سبحانه - : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحق مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } .
وقوله : { الذين كَفَرُواْ } . . مبتدأ ، خبره قوله - سبحانه - { أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } .
والمراد بهم كفار قريش ، الذين أعرضوا عن الحق وحرضوا غيرهم على الإِعراض عنه .
فقوله : { صَدُّواْ } من الصد بمعنى المنع ، والمفعول محذوف .
وقوله : { أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أى : أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة ذاهبة لا أثر لها ولا وجود ، والمراد بهذه الأعمال : ما كانوا يعملونه فى الدنيا من عمل حسن ، كإِكرام الضيف ، وبرد الوالدين ، ومساعدة المحتاج . أى : الذين كفروا بالله - تعالى - وبكل ما يجب الإِيمان به ، ومنعوا غيرهم من اتباع الدين الحق الذى أمر الله - تعالى - باتباعه { أَضَلَّ } - .
سبحانه - أعمالهم ، بأن جعلها ذاهبة ضائعة غير مقبولة عنده . كما قال - تعالى - : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } قال صاحب الكشاف : { أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أى : أبطلها وأحبطها : وحقيقته ، جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها ، كالضالة من الإِبل ، التى هى مضيعة لا رب لها يحفظها ويعنى بأمرها ، أو جعلها ضالة فى كفرهم وعاصيهم ، ومغلوبة بها ، كما يضل الماء اللبن . وأعمالهم ما كانوا يعلمونه فى كفرهم بما يسمونه مكارم : من صلة الأرحام ، وفك الأسرى .
وقيل : أبطل ما عملواه من الكيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصد عن سبيل الله ، بأن نصره عليهم وأظهر دينه على الدين كله .
سورة محمد مدنية وآياتها ثمان وثلاثون
هذه السورة مدنية ، ولها اسم آخر . اسمها سورة القتال . وهو اسم حقيقي لها . فالقتال هو موضوعها . والقتال هو العنصر البارز فيها . والقتال في صورها وظلالها . والقتال في جرسها وإيقاعها .
القتال موضوعها . فهي تبدأ ببيان حقيقة الذين كفروا وحقيقة الذين آمنوا في صيغة هجوم أدبي على الذين كفروا ، وتمجيد كذلك للذين آمنوا ، مع إيحاء بأن الله عدو للأولين ولي للآخرين ، وأن هذه حقيقة ثابتة في تقدير الله سبحانه . فهو إذن إعلان حرب منه تعالى على أعدائه وأعداء دينه منذ اللفظ الأول في السورة : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد - وهو الحق من ربهم - كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم . ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم . كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ) .
وعقب إعلان هذه الحرب من الله على الذين كفروا ، أمر صريح للذين آمنوا بخوض الحرب ضدهم . في صيغة رنانة قوية ، مع بيان لحكم الأسرى بعد الإثخان في المعركة والتقتيل العنيف : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، فإما منا بعد وإما فداء ، حتى تضع الحرب أوزارها ) . .
ومع هذا الأمر بيان لحكمة القتال ، وتشجيع عليه ، وتكريم للإستشهاد فيه ، ووعد من الله بإكرام الشهداء ، وبالنصر لمن يخوض المعركة انتصارا لله ، وبهلاك الكافرين وإحباط أعمالهم : ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ، ولكن ليبلو بعضكم ببعض ، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم . يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم . والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم . ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم . .
ومعه كذلك تهديد عنيف للكافرين ، وإعلان لولاية الله ونصرته للمؤمنين ، وضياع الكافرين وخذلانهم وضعفهم وتركهم بلا ناصر ولا معين : فلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ? دمر الله عليهم ، وللكافرين أمثالها . ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم . . كذلك تهديد آخر للقرية التي أخرجت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم ) . .
ثم تمضي السورة بعد هذا الهجوم العنيف السافر في ألوان من الحديث حول الكفر والإيمان ، وحال المؤمنين وحال الكافرين في الدنيا والآخرة . فتفرق بين متاع المؤمن بالطيبات ؛ وتمتع الكافرين بلذائذ الأرض كالحيوان : إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار . والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم . . كما تصف متاع المؤمنين في الجنة بشتى الأشربة الشهية من ماء غير آسن ، ولبن لم يتغير طعمه ، وخمر لذة للشاربين ، وعسل مصفى ، في وفر وفيض . . في صورة أنهار جارية . . ذلك مع شتى الثمرات ، ومع المغفرة والرضوان . ثم سؤال : أهؤلاء ( كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ? ) . .
فإذا انقضت هذه الجولة الأولى في المعركة السافرة المباشرة بين المؤمنين والكافرين . أعقبها في السورة جولة مع المنافقين ، الذين كانوا هم واليهود بالمدينة يؤلفون خطرا على الجماعة الإسلامية الناشئة لا يقل عن خطر المشركين الذين يحاربونها من مكة وما حولها من القبائل في تلك الفترة ، التي يبدو من الوقائع التي تشير إليها السورة أنها كانت بعد غزوة بدر ، وقبل غزوة الأحزاب وما تلاها من خضد شوكة اليهود ، وضعف مركز المنافقين " كما ذكرنا في تفسير سورة الأحزاب " .
والحديث عن المنافقين في هذه السورة يحمل ظلالها . ظلال الهجوم والقتال ، منذ أول إشارة . فهو يصور تلهيهم عن حديث رسول الله ، وغيبة وعيهم واهتمامهم في مجلسه ؛ ويعقب عليه بما يدمغهم بالضلال والهوى : ( ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم : ماذا قال آنفا ? أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ) . .
ويهددهم بالساعة يوم لا يستطيعون الصحو ولا يملكون التذكر : ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ? فقد جاء أشراطها . فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم ? ) . .
ثم يصور هلعهم وجبنهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلفهم القتال - وهم يتظاهرون بالإيمان - والفارق بينهم يومئذ وبين المؤمنين الصادقين : ( ويقول الذين آمنوا : لولا نزلت سورة ! فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ! ) .
ويحثهم على الطاعة والصدق والثبات . ويرذل اتجاهاتهم ، ويعلن عليهم الحرب والطرد واللعن : ( فأولى لهم طاعة وقول معروف . فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم . فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ? أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ) . .
ويفضحهم في توليهم للشيطان ، وفي تآمرهم مع اليهود ، ويهددهم بالعذاب عند الموت بالفضيحة التي تكشف أشخاصهم فردا فردا في المجتمع الإسلامي ، الذي يدمجون أنفسهم فيه ، وهم ليسوا منه ، وهم يكيدون له : ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، الشيطان سول لهم وأملى لهم . ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله : سنطيعكم في بعض الأمر . والله يعلم إسرارهم . فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ? ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم . أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم . ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ، ولتعرفنهم في لحن القول . والله يعلم أعمالكم ، ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ) . .
وفي الجولة الثالثة والأخيرة في السورة عودة إلى الذين كفروا من قريش ومن اليهود وهجوم عليهم : ( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول - من بعد ما تبين لهم الهدى - لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم ) . .
وتحذير للذين آمنوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أعدائهم : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، ولا تبطلوا أعمالكم . إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار ، فلن يغفر الله لهم . .
وتحضيض لهم على الثبات عند القتال : ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ) . .
وتهوين من شأن الحياة الدنيا وأعراضها . وحض على البذل الذي يسره الله ، ولم يجعله استئصالا للمال كله ، رأفة بهم ، وهو يعرف شح نفوسهم البشرية ، وتبرمها وضيقها لو أحفاهم في السؤال :
( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ، وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم . إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ) . .
وتختم السورة بما يشبه التهديد للمسلمين إن هم بخلوا بإنفاق المال ، وبالبذل في القتال : ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ، فمنكم من يبخل ، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء ، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، ثم لا يكونوا أمثالكم ) . .
إنها معركة مستمرة من بدء السورة إلى ختامها ؛ يظللها جو القتال ، وتتسم بطابعه في كل فقراتها .
وجرس الفاصلة وإيقاعها منذ البدء كأنه القذائف الثقيلة : [ أعمالهم . بالهم . أمثالهم . أهواءهم . أمعائهم . . ] وحتى حين تخف فإنها تشبه تلويح السيوف في الهواء : [ أوزارها . أمثالها . أقفالها . . . ] .
وهناك شدة في الصور كالشدة في جرس الألفاظ المعبرة عنها . . فالقتال أو القتل يقول عنه : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ) . . والتقتيل والأسر يصوره بشدة : ( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ) . . والدعاء على الكافرين يجيء في لفظ قاس : ( فتعسا لهم وأضل أعمالهم ) . . وهلاك الغابرين يرسم في صورة مدوية ظلا ولفظا : ( دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ) . . وصورة العذاب في النار تجيء في هذا المشهد : ( وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) . . وحالة الجبن والفزع عند المنافقين تجيء في مشهد كذلك عنيف : ( ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ! ) . . حتى تحذير المؤمنين من التولي يجيء في تهديد نهائي حاسم : ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) . .
وهكذا يتناسق الموضوع والصور والظلال والإيقاع في سورة القتال . .
( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم . والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد - وهو الحق من ربهم - كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم . ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل ؛ وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم . كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ) . .
افتتاح يمثل الهجوم بلا مقدمة ولا تمهيد ! وإضلال الأعمال الذي يواجه به الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله . سواء صدوا هم أم صدوا وصدوا غيرهم - يفيد ضياع هذه الأعمال وبطلانها . ولكن هذا المعنى يتمثل في حركة . فإذا بنا نرى هذه الأعمال شاردة ضالة ، ونلمح عاقبة هذا الشرود والضلال ، فإذا هي الهلاك والضياع . وهي حركة تخلع ظل الحياة على الأعمال ، فكأنما هي شخوص حية أضلت وأهلكت . وتعمق المعنى وتلقي ظلاله . ظلال معركة تشرد فيها الأعمال عن القوم ، والقوم عن الأعمال . حتى تنتهي إلى الضلال والهلاك !
وهذه الأعمال التي أضلت ربما كان المقصود منها بصفة خاصة الأعمال التي يأملون من ورائها الخير . والتي يبدو على ظاهرها الصلاح . فلا قيمة لعمل صالح من غير إيمان . فهذا الصلاح شكلي لا يعبر عن حقيقة وراءه . والعبرة بالباعث الذي يصدر عنه العمل لا بشكل العمل . وقد يكون الباعث طيبا . ولكنه حين لا يقوم على الإيمان يكون فلتة عارضة أو نزوة طارئة . لا يتصل بمنهج ثابت واضح في الضمير ، متصل بخط سير الحياة العريض ، ولا بناموس الوجود الأصيل . فلا بد من الإيمان ليشد النفس إلى أصل تصدر عنه في كل اتجاهاتها ، وتتأثر به في كل انفعالاتها . وحينئذ يكون للعمل الصالح معناه . ويكون له هدفه ويكون له أطراده وتكون له آثاره وفق المنهج الإلهي الذي يربط أجزاء هذا الكون كله في الناموس ؛ ويجعل لكل عمل ولكل حركة وظيفة وأثرا في كيان هذا الوجود ، وفي قيامه بدوره ، وانتهائه إلى غايته .
[ وهي مدنية ]{[1]}
يقول تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بآيات الله ، { وصدوا } غيرهم { عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي : أبطلها وأذهبها ، ولم يجعل لها جزاء ولا ثوابا ، كقوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [ الفرقان : 23 ] .
سميت هذه السورة في كتب السنة سورة محمد . وكذلك ترجمت في صحيح البخاري من رواية أبي ذر عن البخاري ، وكذلك في التفاسير قالوا : وتسمى ( سورة القتال ) .
ووقع في أكثر روايات صحيح البخاري سورة الذين كفروا .
والأشهر الأول ، ووجهه أنها ذكر فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم في الآية الثانية منها فعرفت به قبل سورة آل عمران التي فيها { وما محمد إلا رسول } .
وأما تسميتها سورة القتال فلأنها ذكرت فيها مشروعية القتال ، ولأنها ذكر فيها لفظه في قوله تعالى { وذكر فيها القتال } ، مع ما سيأتي أن قوله تعالى { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة } إلى قوله { وذكر فيها القتال } أن المعني بها هذه السورة فتكون تسميتها سورة القتال تسمية قرآنية .
وهي مدنية بالاتفاق حكاه ابن عطية وصاحب الإتقان . وعن النسفي : أنها مكية . وحكى القرطبي عن الثعلبي وعن الضحاك وابن جبير : أنها مكية . ولعله وهم ناشئ عما روي عن ابن عباس أن قوله تعالى { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك } الآية نزلت في طريق مكة قبل الوصول إلى حراء ، أي في الهجرة .
قيل نزلت هذه السورة بعد يوم بدر وقيل نزلت في غزوة أحد .
وعدت السادسة والتسعين في عداد نزول سور القرآن ، نزلت بعد سورة الحديد وقبل سورة الرعد .
وآيها عدت في أكثر الأمصار تسعا وثلاثين ، وعدها أهل البصرة أربعين ، وأهل الكوفة تسعا وثلاثين .
معظم ما في هذه السورة التحريض على قتال المشركين ، وترغيب المسلمين في ثواب الجهاد .
افتتحت بما يثير حنق المؤمنين على المشركين لأنهم كفروا بالله وصدوا عن سبيله ، أي دينه .
وأعلم الله المؤمنين بأنه لا يسدد المشركين في أعمالهم وأنه مصلح المؤمنين فكان ذلك كفالة للمؤمنين بالنصر على أعدائهم .
وانتقل من ذلك الى الأمر بقتالهم وعدم الإبقاء عليهم .
وفيها وعد المجاهدين بالجنة ، وأمر المسلمين بمجاهدة الكفار وأن لا يدعوهم إلى السلم ، وإنذار المشركين بأن يصيبهم ما أصاب الأمم المكذبين من قبلهم .
ووصف الجنة ونعيمها ، ووصف جهنم وعذابها .
ووصف المنافقين وحال اندهاشهم إذا نزلت سورة فيها الحض على القتال ، وقلة تدبرهم القرآن وموالاتهم المشركين .
وتهديد المنافقين بأن الله ينبي رسوله صلى الله عليه وسلم بسيماهم وتحذير المسلمين من أن يروج عليهم نفاق المنافقين .
وختمت بالإشارة إلى وعد المسلمين بنوال السلطان وحذرهم إن صار إليهم الأمر من الفساد والقطيعة .
صُدّر التحريض على القتال بتوطئة لبيان غضب الله على الكافرين لكفرهم وصدهم الناس عن دين الله وتحقير أمرهم عند الله ليكون ذلك مثيراً في نفوس المسلمين حنقاً عليهم وكراهية فتثور فيهم همة الإقدام على قتال الكافرين ، وعدم الاكتراث بما هم فيه من قوة ، حين يعلمون الله يخذل المشركين وينصر المؤمنين ، فهذا تمهيد لقوله : { فإذا لقيتم الذين كفروا } [ محمد : 4 ] .
وفي الابتداء بالموصول والصلة المتضمنة كُفر الذين كفروا ومناواتهم لدين الله تشويق لما يرد بعده من الحكم المناسب للصلة ، وإيماء بالموصول وصلته إلى علة الحكم عليه بالخبر أي لأجل كفرهم وصدهم ، وبراعة استهلال للغرض المقصود .
والكفُر : الإشراك بالله كما هو مصطلح القرآن حيثما أطلق الكفر مجرداً عن قرينة إرادة غير المشركين . وقد اشتملت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف للمشركين . وهي : الكفر ، والصد عن سبيل الله ، وضلال الأعمال الناشىء عن إضلال الله إياهم .
والصدّ عن سبيل : هو صرف الناس عن متابعة دين الإسلام ، وصرفُهم أنفسهم عن سماع دعوة الإسلام بطريق الأوْلى . وأضيف ( السبيل ) إلى { الله } لأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] . واستعير اسم السبيل للدين لأن الدين يوصل إلى رضى الله كما يوصل السبيل السائرَ فيه إلى بُغيته .
ومن الصد عن سبيل الله صدهم المسلمين عن المسجد الحرام قال تعالى : { ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام } [ الحج : 25 ] . ومن الصد عن المسجد الحرام : إخراجهم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة ، وصدهم عن العُمرة عام الحديبية . ومن الصد عن سبيل الله : إطعامهم الناس يوم بدر ليثبتوا معهم ويكثروا حولهم ، فلذلك قيل : إن الآية نزلت في المطعِمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً من سادة المشركين من قريش . وهم : أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبيٌّ بن خلَف وأمية بن خلَف ونُبَيْه بن الحجاج ومُنَبِّه بنُ الحجاج وأبو البَخْتَرِي بنُ هشام والحارث بن هشام وزَمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نَوفل وحَكيم بن حِزام وهذا الأخير أسلم من بعد وصار من خيرة الصحابة . وعدّ منهم صفوان بن أمية وسهل بن عمرو ومِقْيَس الجُمحي والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب وهذان أسلما وحَسن إسلامهما وفي الثلاثة الآخَرين خلاف . ومن الصد عن سبيل الله صدهم الناس عن سماع القرآن { وقال الذين كفروا لا تَسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] .
والإضلال : الإبطال والإضاعة ، وهو يرجع إلى الضلال . وأصله الخطأ للطريق المسلوك للوصول إلى مكان يُراد وهو يستلزم المعاني الأخر . وهذا اللفظ رشيق الموقع هنا لأنه الله أبطل أعمالهم التي تبدو حسنة ، فلم يثبهم عليها من صلة رحم ، وإطعام جائع ، ونحوهما ، ولأن من إضلال أعمالهم أن كان غالب أعمالهم عبثاً وسيئاً ولأن من إضلال أعمالهم أن الله خَيَّبَ سعيهم فلم يحصلوا منه على طائل فانهزموا يوم بدر وذهب إطعامُهم الجيْش باطلاً ، وأفسد تدبيرهم وكيدهم للرسول صلى الله عليه وسلم فلم يشفُوا غليلهم يوم أحد ، ثم توالت انهزاماتهم في المواقع كلها قال تعالى : { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون } [ الأنفال : 36 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وهذه السورة تسمى سورة القتال، وسورة الأنفال تسمى سورة الجهاد، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قاتلوا العجم وغيرهم بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأوا هاتين السورتين بين الصفين؛ ليحرضوا المسلمين على القتال...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه السورة مدنية بإجماع غير أن بعض الناس قال في قوله تعالى ' وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك ' محمد13، إنها نزلت بمكة في وقت دخول النبي فيها عام الفتح أو سنة الحديبية، وما كان مثل هذا فهو معدود في المدني، لأن المراعى في ذلك إنما هو ما كان قبل الهجرة أو بعدها 4.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
التقدم إلى المؤمنين في حفظ حظيرة الدين بإدامة الجهاد للكفار، حتى يلزموهم الصغار، أو يبطلوا ضلالهم كما أضل الله أعمالهم، لا سيما أهل الردة الذين فسقوا عن محيط الدين إلى أودية الضلال المبين، والتزام هذا الخلق الشريف إلى أن تضع الحرب أوزارها بإسلام أهل الأرض كلهم بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وعلى ذلك دل اسمها "الذين كفروا "لأن من المعلوم أن من صدك عن سبيلك قاتلته وأنك إن لم تقاتله كنت مثله، واسمها محمد واضح في ذلك لأن الجهاد كان خلقه عليه أفضل الصلاة والسلام إلى أن توفاه الله تعالى وهو نبي الرحمة بالملحمة لأنه لا يكون حمد وثم نوع ذم كما تقدم تحقيقه في سورة فاطر وفي سبأ وفي الفاتحة، ومتى كان كف عن أعداء الله كان الذم، وأوضح أسمائها في هذا المقصد القتال، فإن من المعلوم أنه لأهل الضلال...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
ولا يخفى قوة ارتباط أولها بآخر السورة قبلها واتصاله وتلاحمه بحيث لو سقطت من البين البسملة لكانا متصلا واحدا لا تنافر فيه كالآية الواحدة آخذا بعضه بعنق بعض وكان صلى الله تعالى عليه وسلم على ما أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقرؤها في صلاة المغرب...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
سورة محمد صلى الله عليه وسلم سميت به، لما فيها من أن الإيمان بما نزل على محمد متفرقا، أعظم من الإيمان بما نزل مجموعا على سائر الأنبياء عليهم السلام. وهو من أعظم مقاصد القرآن. وتسمى سورة (القتال)، لدلالتها على ارتفاع حرمة نفوس الكفار المانعة من قتالهم، وما يترتب على القتال وكثرة فوائده...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة مدنية، ولها اسم آخر. اسمها سورة القتال. وهو اسم حقيقي لها. فالقتال هو موضوعها. والقتال هو العنصر البارز فيها. والقتال في صورها وظلالها. والقتال في جرسها وإيقاعها.
القتال موضوعها. فهي تبدأ ببيان حقيقة الذين كفروا وحقيقة الذين آمنوا في صيغة هجوم أدبي على الذين كفروا، وتمجيد كذلك للذين آمنوا، مع إيحاء بأن الله عدو للأولين ولي للآخرين، وأن هذه حقيقة ثابتة في تقدير الله سبحانه. فهو إذن إعلان حرب منه تعالى على أعدائه وأعداء دينه منذ اللفظ الأول في السورة: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم، والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد -وهو الحق من ربهم- كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم. ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم. كذلك يضرب الله للناس أمثالهم).
وعقب إعلان هذه الحرب من الله على الذين كفروا، أمر صريح للذين آمنوا بخوض الحرب ضدهم. في صيغة رنانة قوية، مع بيان لحكم الأسرى بعد الإثخان في المعركة والتقتيل العنيف: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما منا بعد وإما فداء، حتى تضع الحرب أوزارها)..
ومع هذا الأمر بيان لحكمة القتال، وتشجيع عليه، وتكريم للاستشهاد فيه، ووعد من الله بإكرام الشهداء، وبالنصر لمن يخوض المعركة انتصارا لله، وبهلاك الكافرين وإحباط أعمالهم: ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض، والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم. يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم. ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم..
ومعه كذلك تهديد عنيف للكافرين، وإعلان لولاية الله ونصرته للمؤمنين، وضياع الكافرين وخذلانهم وضعفهم وتركهم بلا ناصر ولا معين: فلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ دمر الله عليهم، وللكافرين أمثالها. ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم.. كذلك تهديد آخر للقرية التي أخرجت الرسول [صلى الله عليه وسلم]: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم)..
ثم تمضي السورة بعد هذا الهجوم العنيف السافر في ألوان من الحديث حول الكفر والإيمان، وحال المؤمنين وحال الكافرين في الدنيا والآخرة. فتفرق بين متاع المؤمن بالطيبات؛ وتمتع الكافرين بلذائذ الأرض كالحيوان: إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار. والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم.. كما تصف متاع المؤمنين في الجنة بشتى الأشربة الشهية من ماء غير آسن، ولبن لم يتغير طعمه، وخمر لذة للشاربين، وعسل مصفى، في وفر وفيض.. في صورة أنهار جارية.. ذلك مع شتى الثمرات، ومع المغفرة والرضوان. ثم سؤال: أهؤلاء (كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم؟)..
فإذا انقضت هذه الجولة الأولى في المعركة السافرة المباشرة بين المؤمنين والكافرين. أعقبها في السورة جولة مع المنافقين، الذين كانوا هم واليهود بالمدينة يؤلفون خطرا على الجماعة الإسلامية الناشئة لا يقل عن خطر المشركين الذين يحاربونها من مكة وما حولها من القبائل في تلك الفترة، التي يبدو من الوقائع التي تشير إليها السورة أنها كانت بعد غزوة بدر، وقبل غزوة الأحزاب وما تلاها من خضد شوكة اليهود، وضعف مركز المنافقين "كما ذكرنا في تفسير سورة الأحزاب".
والحديث عن المنافقين في هذه السورة يحمل ظلالها. ظلال الهجوم والقتال، منذ أول إشارة. فهو يصور تلهيهم عن حديث رسول الله، وغيبة وعيهم واهتمامهم في مجلسه؛ ويعقب عليه بما يدمغهم بالضلال والهوى: (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم: ماذا قال آنفا؟ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم)..
ويهددهم بالساعة يوم لا يستطيعون الصحو ولا يملكون التذكر: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة؟ فقد جاء أشراطها. فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم؟)..
ثم يصور هلعهم وجبنهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلفهم القتال -وهم يتظاهرون بالإيمان- والفارق بينهم يومئذ وبين المؤمنين الصادقين: (ويقول الذين آمنوا: لولا نزلت سورة! فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت!).
ويحثهم على الطاعة والصدق والثبات. ويرذل اتجاهاتهم، ويعلن عليهم الحرب والطرد واللعن: (فأولى لهم طاعة وقول معروف. فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم. فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم؟ أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم)..
ويفضحهم في توليهم للشيطان، وفي تآمرهم مع اليهود، ويهددهم بالعذاب عند الموت بالفضيحة التي تكشف أشخاصهم فردا فردا في المجتمع الإسلامي، الذي يدمجون أنفسهم فيه، وهم ليسوا منه، وهم يكيدون له: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، الشيطان سول لهم وأملى لهم. ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله: سنطيعكم في بعض الأمر. والله يعلم إسرارهم. فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم؟ ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم. أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم. ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم، ولتعرفنهم في لحن القول. والله يعلم أعمالكم، ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم)..
وفي الجولة الثالثة والأخيرة في السورة عودة إلى الذين كفروا من قريش ومن اليهود وهجوم عليهم: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول -من بعد ما تبين لهم الهدى- لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم)..
وتحذير للذين آمنوا أن يصيبهم مثل ما أصاب أعدائهم: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، ولا تبطلوا أعمالكم. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار، فلن يغفر الله لهم..
وتحضيض لهم على الثبات عند القتال: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم)..
وتهوين من شأن الحياة الدنيا وأعراضها. وحض على البذل الذي يسره الله، ولم يجعله استئصالا للمال كله، رأفة بهم، وهو يعرف شح نفوسهم البشرية، وتبرمها وضيقها لو أحفاهم في السؤال:
(إنما الحياة الدنيا لعب ولهو، وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم. إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم)..
وتختم السورة بما يشبه التهديد للمسلمين إن هم بخلوا بإنفاق المال، وبالبذل في القتال: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله، فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم)..
إنها معركة مستمرة من بدء السورة إلى ختامها؛ يظللها جو القتال، وتتسم بطابعه في كل فقراتها.
وجرس الفاصلة وإيقاعها منذ البدء كأنه القذائف الثقيلة: [أعمالهم. بالهم. أمثالهم. أهواءهم. أمعائهم..] وحتى حين تخف فإنها تشبه تلويح السيوف في الهواء: [أوزارها. أمثالها. أقفالها...].
وهناك شدة في الصور كالشدة في جرس الألفاظ المعبرة عنها.. فالقتال أو القتل يقول عنه: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب).. والتقتيل والأسر يصوره بشدة: (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق).. والدعاء على الكافرين يجيء في لفظ قاس: (فتعسا لهم وأضل أعمالهم).. وهلاك الغابرين يرسم في صورة مدوية ظلا ولفظا: (دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها).. وصورة العذاب في النار تجيء في هذا المشهد: (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم).. وحالة الجبن والفزع عند المنافقين تجيء في مشهد كذلك عنيف: (ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت!).. حتى تحذير المؤمنين من التولي يجيء في تهديد نهائي حاسم: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)..
وهكذا يتناسق الموضوع والصور والظلال والإيقاع في سورة القتال..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في كتب السنة سورة محمد. وكذلك ترجمت في صحيح البخاري من رواية أبي ذر عن البخاري، وكذلك في التفاسير قالوا: وتسمى (سورة القتال). ووقع في أكثر روايات صحيح البخاري سورة الذين كفروا. والأشهر الأول... أغراضها:
معظم ما في هذه السورة التحريض على قتال المشركين، وترغيب المسلمين في ثواب الجهاد. افتتحت بما يثير حنق المؤمنين على المشركين لأنهم كفروا بالله وصدوا عن سبيله، أي دينه. وأعلم الله المؤمنين بأنه لا يسدد المشركين في أعمالهم وأنه مصلح المؤمنين فكان ذلك كفالة للمؤمنين بالنصر على أعدائهم. وانتقل من ذلك الى الأمر بقتالهم وعدم الإبقاء عليهم. وفيها وعد المجاهدين بالجنة، وأمر المسلمين بمجاهدة الكفار وأن لا يدعوهم إلى السلم، وإنذار المشركين بأن يصيبهم ما أصاب الأمم المكذبين من قبلهم. ووصف الجنة ونعيمها، ووصف جهنم وعذابها. ووصف المنافقين وحال اندهاشهم إذا نزلت سورة فيها الحض على القتال، وقلة تدبرهم القرآن وموالاتهم المشركين. وتهديد المنافقين بأن الله ينبي رسوله صلى الله عليه وسلم بسيماهم وتحذير المسلمين من أن يروج عليهم نفاق المنافقين. وختمت بالإشارة إلى وعد المسلمين بنوال السلطان وحذرهم إن صار إليهم الأمر من الفساد والقطيعة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذه سورة مدنية، تتحرك آياتها في خط المقايسة بين صفات المؤمنين والكافرين، وتتحدث عن ضلال الكافرين الذين وقفوا حاجزاً بين الناس وبين سبيل الله، والتزموا الباطل في فكرهم وحركتهم، ما جعل المؤمنين يتخذون منهم موقفاً حاسماً يقضي بقتالهم لتعطيل تحرّكهم المضادّ للإسلام وأهله في الدعوة والامتداد. أمّا المؤمنون، فقد ساروا في خط الهدى، وعملوا الصالحات، وآمنوا بالقرآن، وهو الحق النازل من الله، واتبعوا الحق، وجاهدوا في سبيل الله، فأصلح الله بالهم ...
... أمّا الكافرون، فإنهم التعساء الذين كرهوا ما أنزل الله، فأضلَّ أعمالهم وعاشوا الغفلة المطبقة التي منعتهم من أخذ العبرة من تاريخ الكافرين من قبلهم الذين دمّر الله كل مواقعهم... ثم تنطلق السورة مع المنافقين الذين كانوا يمثلون خطراً على الإسلام والمسلمين، لتحالفهم مع اليهود الذين كانوا يقومون بدورهم التخريبي نفسه. وتتناول السورة تنوع أساليب المنافقين في مواجهة الرسول...
وتختتم السورة بنداءٍ للمؤمنين، تطلب منهم فيه الطاعة والصبر والبذل في سبيل الله، وتدعوهم إلى فَهْم الحياة جيداً، وإلى معرفتها بأنّها لعبٌ ولهوٌ، وأن عليهم الاستمرار في هذا الخط الرسالي الجهادي الواعي المتحرك في كل الساحات، المنفتح على الله، وعدم الابتعاد عن الساحة، لأن الله سيستبدل بهم قوماً غيرهم ثم لا يكونون أمثالهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والواقع أنّ مسألة الجهاد وقتال أعداء الإسلام هو أهم موضوع ألقى ظلاله على هذه السورة، في حين أنّ جزءاً مهماً آخر من آيات هذه السورة يتناول المقارنة بين حال المؤمنين والكافرين وخصائصهم وصفاتهم، وكذلك المصير الذي ينتهي إليه كلّ منهما في الحياة الآخرة. ويمكن تلخيص محتوى السورة بصورة عامة في عدة فصول: 1 مسألة الإيمان والكفر، والمقارنة بين أحوال المؤمنين والكفار في هذه الدنيا وفي الحياة الآخرة.
بحوث معبرة بليغة وصريحة حول مسألة الجهاد وقتال المشركين، والتعليمات الخاصة فيما يتعلق بأسرى الحرب.
شرح أحوال المنافقين الذين كان لهم نشاطات هدّامة كثيرة حين نزول هذه الآيات في المدينة.
فصل آخر يتناول مسألة السير في الأرض، وتدبر مصير الأقوام الماضين وعاقبتهم، كدرس للاعتبار والاتعاظ.
وفي جانب من آيات هذه السورة ذكرت مسألة الاختبار الإلهي لمناسبتها موضوع القتال والجهاد.
ورد الحديث في فصل آخر عن مسألة الإنفاق الذي يعتبر بحدِّ ذاته نوعاً من الجهاد، وجاء الحديث عن مسألة البخل الذي يقع في الطرف المقابل.
وتناولت بعض آيات هذه السورة لمناسبة موضوعها مسألة الصلح مع الكفار الصلح الذي يكون أساساً لهزيمة المسلمين وذلّتهم ونهت عنه.
وبالجملة، فبملاحظة أنّ هذه السورة قد نزلت في المدينة حينما كان الاشتباك شديداً بين المسلمين وأعداء الإسلام، وعلى قول بعض المفسّرين أنّها نزلت أثناء معركة أُحد أو بعدها بقليل، فإنّ أهم مسألة فيها هي قضية الجهاد والحرب، وتدور بقية المسائل حول ذلك المحور.. الحرب المصيرية التي تميّز المؤمنين عن الكافرين والمنافقين.. الحرب التي كانت تثبت دعائم الإسلام، وردّت كيد الأعداء الذين هبّوا للقضاء على الإسلام والمسلمين في نحورهم وأوقفتهم عند حدّهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الذين جحدوا توحيد الله وعبدوا غيره وصدّوا من أراد عبادتَه والإقرار بوحدانيته، وتصديق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن الذي أراد من الإسلام والإقرار والتصديق "أضَلّ أعمالَهمْ "يقول: جعل الله أعمالهم ضلالاً على غير هدى وغير رشاد، لأنها عملت في سبيل الشيطان، وهي على غير استقامة. "وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ" يقول تعالى ذكره: والذين صدّقوا الله وعملوا بطاعته، واتبعوا أمره ونهيه.
"وآمَنُوا بِمَا نُزّلَ على مُحَمّدٍ" يقول: وصدّقوا بالكتاب الذي أنزل الله على محمد، "وَهُوَ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ" يقول: محا الله عنهم بفعلهم ذلك سيئ ما عملوا من الأعمال، فلم يؤاخذهم به، ولم يعاقبهم عليه "وأصْلَحَ بالَهُمْ" يقول: وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه، وفي الآخرة بأن أورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم في جنانه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله}...
هم أهل مكة. والأشبه أن تكون الآية في كفار المدينة، وهم أهل الكتاب لأن السورة مدنية... فيكون قوله تعالى: {الذين كفروا} بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أُنزل عليه {أضلّ أعمالهم} أي أبطل إيمانهم الذي كان لهم بسائر الأنبياء وبمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا مؤمنين به قبل أن يُبعث، فلما بُعث كفروا به. يقول، والله أعلم: قد أبطل إيمانهم الذي كان منهم قبل ذلك بما كفروا به إذ بُعث. وإن كانت الآية في كفار مكة على ما قال أكثرهم فيكون قوله تعالى: {الذين كفروا} بوحدانية الله تعالى، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أُنزل عليه عليه السلام أو كفروا بالبعث ونحو ذلك {أضل أعمالهم} أي أبطل حسناتهم التي كانت لهم في حال كفرهم من نحو الصدقات وصلة الأرحام وفكّ الرقاب وغير ذلك من الأعمال التي كانوا يتقرّبون بها...
. يقول: قد أبطل ذلك، ولم يكن على ما رجوا، وطمعوا، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وصدّوا عن سبيل الله} يحتمل أي صدّوا بأنفسهم أي أعرضوا عن سبيل الله ما ذكر عنهم. ويحتمل {وصدّوا عن سبيل الله} أي صدوا الناس عن سبيل الله. وقد كان منهم الأمران جميعا {أضل أعمالهم} أي أبطل؛ يقال: ضل الماء في اللبن إذا غُلب، فلم يُتبيّن...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَضَلَّ أعمالهم} أبطلها وأحبطها. وحقيقته: جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها، كالضالة من الإبل التي هي بمضيعة لا ربَّ لها يحفظها ويعتني بأمرها. أو جعلها ضالة في كفرهم معاصيهم ومغلوبة بها، كما يضل الماء في اللبن...
وأعمالهم: ما عملوه في كفرهم بما كانوا يسمونه مكارم: من صلة الأرحام وفك الأسارى وقرى الأضياف وحفظ الجوار...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{الذين كفروا} أي ستروا أنوار الأدلة فضلوا على علم {وصدوا} أي امتنعوا بأنفسهم ومنعوا غيرهم لعراقتهم في الكفر {عن سبيل الله} أي الطريق الرحب المستقيم الذي شرعه الملك الأعظم {أضل} أي أبطل إبطَّالاً عظيماً يزيل العين والأثر- {أعمالهم} التي هي أرواحهم المعنوية وهي كل شيء يقصدون به نفع أنفسهم من جلب نفع أو دفع ضر...
لأنها إذا ضلت عما قصدوا بها بجعله سبحانه لها ضالة ضائعة هلكت من جهة أنها ذهبت في المهالك ومن جهة أنها ذهبت في غير الجهة التي قصدت لها فبطلت منفعتها المقصودة منها فصارت هي باطلة فأذهبوا أنتم أرواحهم الحسية بأن تبطلوا صورهم وأشباحهم بأن تقطعوا أوصالهم وأنتم في غاية الاجتراء عليهم، فإن ربهم الذي أوجدهم قد أبطلهم وأذن لكم في إبطالهم، فإنه قد علم أن لا صلاح لهم والمؤذي طبعاً يقتل شرعاً، فمن قدرتم على قتله فهو محكوم بكفره، محتوم بخيبته وخسره...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَضَلَّ أعمالهم}... أبطلَ ما عملوا من الكيدِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم والصدِّ عن سبيلِه بنصرِ رسوله وإظهارِ دينِه على الدِّينِ كُلِّه، وهُو الأوفقُ لما سيأتِي من قولِه تعالى: {فَتَعْساً لهُمْ وَأَضَلَّ أعمالهم} [سورة محمد، الآية 8]. وقولُه تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ} الخ...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
المعنى الجملي: قسم سبحانه الناس فريقين: أهل الكفر الذين صدوا الناس عن سبيل الله، وهؤلاء يبطل أعمالهم سواء كانت حسنة كصلة الأرحام وإطعام الطعام، أو سيئة كالكيد لرسول الله والصد عن سبيل الله، فالأولى يبطل ثوابها، والثانية يمحو أثرها، وهكذا كل من قاوم عملا شريفا فإن مآله الخذلان. وأهل الإيمان بالله ورسوله الذين أصلحوا أعمالهم، وأولئك يغفر الله لهم سيئات أعمالهم ويوفقهم في الدين والدنيا، كما أضاع أعمال الكافرين ولم يثب عليها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإضلال الأعمال الذي يواجه به الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله. سواء صدوا هم أم صدوا وصدوا غيرهم -يفيد ضياع هذه الأعمال وبطلانها...
. وهذه الأعمال التي أضلت ربما كان المقصود منها بصفة خاصة الأعمال التي يأملون من ورائها الخير. والتي يبدو على ظاهرها الصلاح. فلا قيمة لعمل صالح من غير إيمان. فهذا الصلاح شكلي لا يعبر عن حقيقة وراءه. والعبرة بالباعث الذي يصدر عنه العمل لا بشكل العمل. وقد يكون الباعث طيبا. ولكنه حين لا يقوم على الإيمان يكون فلتة عارضة أو نزوة طارئة. لا يتصل بمنهج ثابت واضح في الضمير، متصل بخط سير الحياة العريض...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
صُدّر التحريض على القتال بتوطئة لبيان غضب الله على الكافرين لكفرهم وصدهم الناس عن دين الله وتحقير أمرهم عند الله ليكون ذلك مثيراً في نفوس المسلمين حنقاً عليهم وكراهية فتثور فيهم همة الإقدام على قتال الكافرين...
والكفُر: الإشراك بالله كما هو مصطلح القرآن حيثما أطلق الكفر مجرداً عن قرينة إرادة غير المشركين. وقد اشتملت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف للمشركين. وهي: الكفر، والصد عن سبيل الله، وضلال الأعمال الناشئ عن إضلال الله إياهم. والصدّ عن سبيل: هو صرف الناس عن متابعة دين الإسلام، وصرفُهم أنفسهم عن سماع دعوة الإسلام بطريق الأوْلى. وأضيف (السبيل) إلى {الله} لأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]. واستعير اسم السبيل للدين لأن الدين يوصل إلى رضى الله كما يوصل السبيل السائرَ فيه إلى بُغيته... والإضلال: الإبطال والإضاعة، وهو يرجع إلى الضلال. وأصله الخطأ للطريق المسلوك للوصول إلى مكان يُراد وهو يستلزم المعاني الأخر. وهذا اللفظ رشيق الموقع هنا لأنه الله أبطل أعمالهم التي تبدو حسنة، فلم يثبهم عليها...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
(1) تنديد بالكافرين الذين يصدون عن سبيل الله بالإضافة إلى كفرهم، وإيذان بأن الله أبطل كيدهم وأحبط أعمالهم.
(2) وتنويه بالمؤمنين الصالحي الأعمال، المصدقين برسالة النبي وما أنزل عليه وإيذان بتكفير الله عنهم سيئاتهم وبإصلاحه لأمورهم وتهدئته لروعهم.
(3) وتعليل للتنديد والتوبة والإيذان. فالكفار ضالون متبعون للباطل والمؤمنون مهتدون متبعون للحق. وكل ينال ما يطابق خطته وعمله، وهذا جريا على عادة الله في ضربه الأمثال للناس للتذكير والموعظة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
المؤمنون أنصار الحق، والكافرون أنصار الباطل: إنّ هذه الآيات الثلاث تعتبر في الحقيقة مقدمة لأمر حربي مهم صدر في الآية الرابعة، فبيّنت الأُولى منها وضع الكافرين وحالهم، والثانية حال المؤمنين، وقارنت ثالثتهما بين الاثنين، وذلك لتتهيأ الأرضية والاستعداد للجهاد الديني ضد الأعداء الظالمين العتاة باتضاح حال الفئتين. تقول الآية الأولى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) وهي إشارة إلى زعماء الكفر ومشركي مكّة الذين كانوا يشعلون نار الحروب ضد الإسلام، ولم يكتفوا بكونهم كفاراً، بل كانوا يصدون الآخرين عن سبيل الله بأنواع الحيل والخدع والمخططات...