{ 128 - 135 } { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ * إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }
يقول تعالى { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } أي : جميع الثقلين ، من الإنس والجن ، من ضل منهم ، ومن أضل غيره ، فيقول موبخا للجن الذين أضلوا الإنس ، وزينوا لهم الشر ، وأزُّوهم إلى المعاصي : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ } أي : من إضلالهم ، وصدهم عن سبيل الله ، فكيف أقدمتم على محارمي ، وتجرأتم على معاندة رسلي ؟ وقمتم محاربين لله ، ساعين في صد عباد الله عن سبيله إلى سبيل الجحيم ؟
فاليوم حقت عليكم لعنتي ، ووجبت لكم نقمتي وسنزيدكم من العذاب بحسب كفركم ، وإضلالكم لغيركم . وليس لكم عذر به تعتذرون ، ولا ملجأ إليه تلجأون ، ولا شافع يشفع ولا دعاء يسمع ، فلا تسأل حينئذ عما يحل بهم من النكال ، والخزي والوبال ، ولهذا لم يذكر الله لهم اعتذارا ، وأما أولياؤهم من الإنس ، فأبدوا عذرا غير مقبول فقالوا : { رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي : تمتع كل من الجِنّي والإنسي بصاحبه ، وانتفع به .
فالجنّي يستمتع بطاعة الإنسي له وعبادته ، وتعظيمه ، واستعاذته به . والإنسي يستمتع بنيل أغراضه ، وبلوغه بسبب خدمة الجِنّي له بعض شهواته ، فإن الإنسي يعبد الجِنّي ، فيخدمه الجِنّي ، ويحصل له منه بعض الحوائج الدنيوية ، أي : حصل منا من الذنوب ما حصل ، ولا يمكن رد ذلك ، { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا } أي : وقد وصلنا المحل الذي نجازي فيه بالأعمال ، فافعل بنا الآن ما تشاء ، واحكم فينا بما تريد ، فقد انقطعت حجتنا ولم يبق لنا عذر ، والأمر أمرك ، والحكم حكمك . وكأن في هذا الكلام منهم نوع تضرع وترقق ، ولكن في غير أوانه . ولهذا حكم فيهم بحكمه العادل ، الذي لا جور فيه ، فقال : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا }
ولما كان هذا الحكم من مقتضى حكمته وعلمه ، ختم الآية بقوله : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } فكما أن علمه وسع الأشياء كلها وعمّها ، فحكمته الغائية شملت الأشياء وعمتها ووسعتها .
وقوله : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس } .
المعشر : الجماعة الذين يعاشر بعضهم بعضا أو الذين يربطهم أمر مشترك بينهم والمراد بالجن شياطينهم ومردتهم .
والمعنى : واذكر يا محمد - أو أيها العاقل - يوم نحشر الضالين والمضلين جميعاً من الإنس والجن ، فنقول للمضلين من الجن : { قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس } أى : قد أكثرتم من إغوائكم الإنس وإظلالكم إياهم ، أو قد أكثرتم منهم بأن جعلتموهم أتباعكم ، وأهل طاعتكم ، ووسوستم لهم بالمعاصى حتى غررتموهم وأوردتموهم هذا المصير الأليم .
و " يوم " منصوب على الظرفية والعامل فيه مقدر ، أى : اذكر يوم نحشرهم جميعاً . والضمير المنصوب فى " نحشرهم " لمن يحشر من الثقلين . وقيل للكفار الذين تتحدث عنهم هذه الآيات .
ووجه الخطاب إلى معشر الجن ، لأنهم هم الأصل فى إضلال أتباعهم من الإنس ، وهم السبب فى صدقهم عن السبيل القويم .
والمقصود من هذا القول لهم توبيخهم وتقريعهم على ما كان يصدر منهم من إغواء الغافلين من الإنس .
وهنا يحكى القرآن رد الضالين من الإنس على هذا التوبيخ فيقول : { وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا } .
أى : وقال الذين أطاعوهم وانقادوا لهم من الإنس يا ربنا ، لقد استمتع بعضنا ببعض .
أى : انتفع الإنس بالجن حيث دلوهم على المفاسد وما يوصل إليها ، وانتفع الجن بالإنس ، حيث أطاعوهم واستجابوا لوسوستهم ، وخالفوا أمر ربهم .
وقال الحسن : ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس .
أى : فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت ، والإنس بوسوستهم تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة على اللذات الغائبة .
وقيل : استمتاع الإنس بالجن معناه أن الرجل فى الجاهلية كان إذا سافر فنزل بأرض قفر خاف على نفسه من الجن فيقول . أعوذ بسيد هذا الوداى من شر سفهاء قومه ، فيبيت فى جوارهم وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أنهم قالوا . سدنا الإنس حتى عاذوا بنا ، فيزدادون بذلك شرفا فى قومهم وعظما فى أنفسهم .
وقيل : استمتاع الإنس بالجن هو ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة ، واستمتاع الجن بالإنس هو طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من المعاصى فصاروا كالرؤساء لهم .
والذى نراه . أن استماع الجن بالإنس والإنس بالجن يتناول كل ذلك ، حيث انتفع كل فريق من صاحبه باللذة العاجلة التى أوردته إلى سوء المصير .
وقولهم هذا ، هو تحسر منهم على حالهم ، إذ قالوه اعترافاً بما فعلوه من طاعة للشياطين واتباع الهوى ، وتكذيب أمر البعث .
وإنما قال الأتباع من الإنس هذا القول مع أن الخطاب موجه إلى المتبوعين من شياطين الجن ، للإيذان بأن شياطين الجن قد أفحموا . ولم يستطيعوا أن ينطقوا أو يجيبوا . ثم أتبعوا تحسرهم هذا بتحسر آخر وهو قولهم : " وبلغنا أجلنا الذى أجلت لنا " .
أى " ها نحن يا ربنا قد استمتع بعضنا ببعض فى الدنيا عن طريق الشهوات المحرمة . واللذات الفانية القبيحة ، وها نحن قد وصلنا بعد استمتاع بعضنا ببعض إلى الأجل الذى حددته لنا ، وهو يوم القيامة والجزاء . ونحن فى أقبح صورة وأسوأ عيش .
وهنا يأتيهم الرد الحاسم . والحكم النافذ من الله العلى الكبير . حيث يقول - سبحانه - { قَالَ النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله } .
مثواكم : الثواء مع الإقامة مع الاستقرار . يقال : ثوى يثوى ثواء أى : استقر ، والثوية مأوى الغنم .
والمعنى : قال الله - تعالى - لهؤلاء الظالمين المعترفين على أنفسهم بارتكاب الموبقات : النار منزلكم ومحل إقامتكم الدائمة . فأنتم خالدين فيها فى كل وقت إلا فى وقت مشيئة الله بخلاف ذلك ، لأن الأمور كلها متروكة إليه ، وخاضعة لمشيئته .
والأرجح أن المراد بهذا الاستثناء وبنظائره فى آيات أخر ، المبالغة فى الخلود .
أى : أنه لا ينتفى فى وقت ما إلا وقت مشيئته - تعالى - وهو سبحانه لا يشاء ذلك . فقد أخبر فى آيات متعددة من كتابه أن هؤلاء الكفار لا يخرجون من النار أبدا .
وفى إيراد هذا المعنى بتلك الصورة ، بلاغ للناس بأن مرد الأمور كلها إلى مشيئة الله ، وأن خلود المشركين فى نار جهنم إنما هو بمحض مشيئته ، ولو شاء غير ذلك ما خلدوا ، وفيه إلى جانب ذلك تنكيل آخر بهؤلاء الأشقياء لأنهم قد صاروا فى حيرة دائمة من أمرهم .
تجعلهم مشتتين بين الطمع فى الخروج مما هم فيه ، واليأس منه .
وهذا التفسير للجملة الكريمة هو الذى نختاره ونرجحه ، وهناك وجوه أخرى فى تفسيرها منها ما ذهب إليه الزمخشرى حيث قال :
وقوله : { خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله } أى : يخلدون فى عذاب النار الأبد كله إلا الأوقات التى ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير فقد روى أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض ، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم ، أو أن يكون من قول الموتور - أى المظلوم - الذى ظفر بواتره ، ولم يزل يحرق عليه أنيابه ، وقد طلب أن ينفس عن خناقه . أهلكنى الله إن نفست عنك إلا إذا شئتُ ، علم أنه لا يشاء إلى التشفى منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنت والتشديد . فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد الوعيد مع تهكم بالموعد لخروجه فى صورة الاستثناء الذى فيه إطماع .
ومنها : ما نقل عن ابن عباس أنه - تعالى - استثنى قوما قد سبق فى علمه أنهم يدخلون فى الإسلام ، وهو مبنى على أن الاستثناء . ليس من المحكى وأن " ما " بمعنى " من " .
ومنها : أنهم تفتح لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت فى وجوههم استهزاء بهم . فهم فيها إلا الوقت الذى يخرجون منها متجهين إلى الجنة حيث تقفل فى وجوههم ليكون ذلك أعظم فى حسرتهم .
ومنها : أن هذا الاستثناء إشارة إلى فناء النار . أى : إلا وقت مشيئة الله فناءها وزوال عذابها . وهى مسألة خلافية بين العلماء .
وهناك أقوال أخرى لا مجال لذكرها . والقول الذى نرجحه ونعتمده هو الذى سقناه أولا كما أشرنا إلى ذلك من قبل لأنه قول المحققين من العلماء ؛ ولأنه يتناسب مع ما يليق بذات الله من كمال قدرته . ونفاذ إرادته .
وجملة " إن ربك حكيم عليم " تسلية لبيان ما تقتضيه حكمته وإرادته . أى : إن ربك حكيم فى التعذيب والإثابة وفى كل أفعاله . عليم بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يلي بها من جزاء .
لقد مضى في الحلقة السابقة حديث عن الذين يشرح الله صدورهم للإسلام ؛ فتبقى قلوبهم ذاكرة لاتغفل ؛ وأنهم ماضون إلى دار السلام ، منتهون إلى ولاية ربهم وكفالته . . فالآن يعرض الصفحة المقابلة في المشهد - على طريقة القرآن الغالبة في عرض " مشاهد القيامة " - يعرض شياطين الإنس والجن ، الذين قضوا الحياة يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وخداعاً وإضلالاً ؛ ويقف بعضهم بمساندة بعض عدوا لكل نبي ؛ ويوحي بعضهم إلى بعض ليجادلوا المؤمنين في ما شرعه الله لهم من الحلال والحرام . . يعرضهم في مشهد شاخص حي ، حافل بالحوار والاعتراف والتأنيب والحكم والتعقيب ، فائض بالحياة التي تزخر بها مشاهد القيامة في القرآن .
( ويوم يحشرهم جميعا : يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ! وقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ! قال : النار مثواكم خالدين فيها - إلا ما شاء الله - إن ربك حكيمعليم . . وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون . . يا معشر الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا ؟ قالوا : شهدنا على أنفسنا ! وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على انفسهم أنهم كانوا كافرين ) . .
إن المشهد يبدأ معروضاً في المستقبل ، يوم يحشرهم جميعا . . ولكنه يستحيل واقعا للسامع يتراءى له مواجهة . وذلك بحذف لفظة واحدة في العبارة . فتقدير الكلام ، ( ويوم يحشرهم جميعا )- فيقول - ( يا معشر الجن والإنس . . . ) ولكن حذف كلمة - يقول - ينتقل بالتعبير المصور نقلة بعيدة ؛ ويحيل السياق من مستقبل ينتظر ، إلى واقع ينظر ! وذلك من خصائص التصوير القرآني العجيب . . .
فلنتابع المشهد الشاخص المعروض :
( يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ! ) . .
استكثرتم من التابعين لكم من الإنس ، المستمعين لإيحائكم ، المطيعين لوسوستكم ، المتبعين لخطواتكم . . وهو إخبار لا يقصد به الإخبار فالجن يعلمون أنهم قد استكثروا من الإنس ! إنما يقصد به تسجيل الجريمة - جريمة إغواء هذا الحشد الكبير الذي نكاد نلمحه في المشهد المعروض ! - ويقصد به التأنيب على هذه الجريمة التي تتجمع قرائنها الحية في هذا الحشد المحشود ! لذلك لا يجيب الجن على هذا القول بشيء . . ولكن الأغرار الأغمار من الإنس المستخفين بوسوسة الشياطين يجيبون :
( وقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ! ) .
وهو جواب يكشف عن طبيعة الغفلة والخفة في هؤلاء الأتباع ؛ كما يكشف عن مدخل الشيطان إلى نفوسهم في دار الخداع . . لقد كانوا يستمتعون بإغواء الجن لهم وتزيينه ما كان يزين لهم من التصورات والأفكار ، ومن المكابرة والاستهتار ، ومن الإثم ظاهره وباطنه ! فمن منفذ الاستمتاع دخل إليهم الشيطان ! وكانت الشياطين تستمتع بهؤلاء الأغرار الأغفال . . كانت تستهويهم وتعبث بهم ؛ وتسخرهم لتحقيق هدف إبليس في عالم الإنس ! وهؤلاء الأغرار المستخفون يحسبون أنه كان استمتاعا متبادلا ، وأنهم كانوا يمتعون فيه ويتمتعون ! ومن ثم يقولون :
( ربنا استمتع بعضنا ببعض ! ) . .
ودام هذا المتاع طوال فترة الحياة ، حتى حان الأجل ، الذي يعلمون اليوم فقط أن الله هو الذي أمهلهم إليه ؛ وأنهم كانوا في قبضته في أثناء ذلك المتاع :
( وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ) !
عند ذلك يجيء الحكم الفاصل ، بالجزاء العادل :
( قال : النار مثواكم خالدين فيها - إلا ما شاء الله - )
فالنار مثابة ومأوى . والمثوى للإقامة . وهي إقامة الدوام . . ( إلا ما شاء الله ) لتبقى صورة المشيئة الطليقة هي المسيطرة على التصور الاعتقادي . فطلاقة المشيئة الإلهية قاعدة من قواعد هذا التصور . والمشيئة لا تنحبس ولا تتقيد . ولا في مقرراتها هي .
يمضي قدره بالناس عن حكمة وعن علم ؛ ينفرد بهما الحكيم العليم . .
يقول تعالى : واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتذكرهم به { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } يعني : الجن وأولياءهم { مِنَ الإنْسِ } الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ، ويعوذون بهم ويطيعونهم ، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا . { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ } أي : ثم يقول : يا معشر الجن . وسياق الكلام يدل على المحذوف .
ومعنى قوله : { قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ } أي : من إضلالهم وإغوائهم ، كما قال [ تعالى ]{[11214]} { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [ يس : 60 - 62 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ } يعني : أضللتم منهم كثيرا . وكذلك قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة .
{ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } يعني : أن أولياء الجن من الإنس قالوا مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الأشهب هَوْذَة بن خليفة ، حدثنا عَوْف ، عن الحسن في هذه الآية قال : استكثر ربكم أهل النار يوم القيامة ، فقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض . قال الحسن : وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت ، وعملت الإنس .
وقال محمد بن كعب في قوله : { رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } قال : الصحابة في الدنيا .
وقال ابن جُرَيْج : كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض ، فيقول : " أعوذ بكبير هذا الوادي " : فذلك استمتاعهم ، فاعتذروا يوم القيامة .
وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان - فيما ذكر - ما ينال الجنّ من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم ، فيقولون : قد سدنا الإنس والجن .
{ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا } قال السدي ، أي الموت .
قال : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ } أي : مأواكم ومنزلكم أنتم وأولياؤكم . { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين مكثًا مخلدًا إلا ما شاء الله .
قال بعضهم : يرجع معنى [ هذا ]{[11215]} الاستثناء إلى البرزخ . وقال بعضهم : هذا رد إلى مدة الدنيا . وقيل غير ذلك من الأقوال التي سيأتي تقريرها [ إن شاء الله ]{[11216]} عند قوله تعالى في سورة هود : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } [ الآية : 107 ] .
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن صالح - كاتب الليث - : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } قال : إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ، ولا ينزلهم جنة ولا نارًا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مّنَ الإِنْسِ رَبّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الّذِيَ أَجّلْتَ لَنَا قَالَ النّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ إِنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعا : ويوم يحشر هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام وغيرهم من المشركين مع أوليائهم من الشياطين الذين كانوا يوحون إليهم زخرف القول غرورا ليجادلوا به المؤمنين ، فيجمعهم جميعا في موقف القيامة . يقول للجنّ : يا مَعْشَرَ الجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ وحذف «يقول للجنّ » من الكلام اكتفاءً بدلالة ما ظهر من الكلام عليه منه .
وعني بقوله : قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : قوله : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعا يا مَعْشَرَ الجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ يعني : أضللتم منهم كثيرا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يا مَعْشَرَ الجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ قال : قد أضللتم كثيرا من الإنس .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ قال : كثر من أغويتم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الحسن : قَدِ اسْتَكْثَرتُمْ مِنَ الإنْسِ يقول : أضللتم كثيرا من الإنس .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقالَ أوْلِياؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبّنا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا ببَعْضٍ .
يقول تعالى ذكره : فيجيب أولياء الجنّ من الإنس ، فيقولون : ربنا استمتع بعضنا ببعض في الدنيا . فأما استمتاع الإنس بالجنّ ، فكان كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : رَبّنا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ قال : كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول : أعوذ بكبير هذا الوادي فذلك استمتاعهم ، فاعتذروا يوم القيامة .
وأما استمتاع الجنّ بالإنس ، فإنه كان فيما ذكر ، ما ينال الجنّ من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعاذتهم بهم ، فيقولون : قد سدنا الجنّ والإنس .
القول في تأويل قوله تعالى : وَبَلَغْنا أجَلَنَا الّذِي أجّلْتَ لَنا .
يقول تعالى ذكره : قالوا : وبلغنا الوقت الذي وقّت لموتنا . وإنما يعني جلّ ثناؤه بذلك أنهم قالوا : استمتع بعضنا ببعض أيام حياتنا إلى حال موتنا . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي ، وأما قوله : وَبَلَغْنا أجَلَنا الّذِي أجّلْتَ لنَا فالموت .
القول في تأويل قوله تعالى : قال النّارُ مَثْوَاكُمْ خالِدِينَ فِيها إلاّ ما شاءَ اللّهُ إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عما هو قائل لهؤلاء الذين يحشرهم يوم القيامة من العادلين به في الدنيا الأوثان ولقرنائهم من الجنّ ، فأخرج الخبر عما هو كائن مخرج الخبر عما كان لتقدّم الكلام قبله بمعناه والمراد منه ، فقال : قال الله لأولياء الجنّ من الإنس الذين قد تقدم خبره عنهم : النّارُ مَثْوَاكُمْ يعني نار جهنم مثواكم الذي تثوون فيه : أي تقيمون فيه . والمثوى : هو المفعل ، من قولهم : ثَوَى فلان بمكان كذا ، إذا أقام فيه . خالدينَ فِيها يقول : لابثين فيها ، إلاّ ما شاءَ اللّهُ يعني : إلا ما شاء الله من قدر مدة ما بين مبعثهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم ، فتلك المدة التي استثناها الله من خلودهم في النار . إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ في تدبيره في خلقه ، وفي تصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال وغير ذلك من أفعاله . عَلِيمٌ بعواقب تدبيره إياهم ، وما إليه صائر أمرُهم من خير وشرّ . ورُوي عن ابن عباس أنه كان يتأوّل في هذا الاستثناء أن الله جعل أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابه إياهم إلى مشيئته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قالَ النّارُ مَثْوَاكُمْ خالِدِينَ فِيها إلاّ ما شاءَ اللّهُ إنّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قال : إن هذه الاَية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه أن لا ينزلهم جنة ولا نارا .
{ يوم } نصب بفعل مضمر تقديره واذكر يوم ، ويحتمل أن يكون العامل { وليهم } [ الأنعام : 127 ] والعطف على موضع قوله { بما كانوا } [ الأنعام : 127 ] ، والضمير في { يحشرهم } عائد على الطائفتين الذين يجعل الله الرجس عليهم وهم جميع الكفار جناً وإنساً ، والذين لهم دار السلام جناً ، وإنساً ، ويدل على ذلك التأكيد العام بقوله { جميعاً } وقرأ حفص عن عاصم «يحشرهم » بالياء ، وقرأ الباقون بالنون وكلُّ متجه{[5095]} ، ثم ذكر عز وجل ما يقال للجن الكفرة ، وفي الكلام فعل مضمر يدل عليه ظاهر الكلام تقديره نقول يا معشر الجن ، وقوله { قد استكثرتم } معناه فرطتم ، و { من الإنس } يريد في إضلالهم وإغوائهم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقال الكفار من الإنس وهم أولياء الجن الموَّبخين على جهة الاعتذار عن الجن { ربنا استمتع بعضنا ببعض } أي انتفع .
قال القاضي أبو محمد : وذلك في وجوه كثيرة ، حكى الطبري وغيره أن الإنس كانت تستعيذ بالجن في الأودية ومواضع الخوف{[5096]} وكانت الجن تتعظم على الإنس وتسودها كما يفعل الربي بالكاهن والمجير والمستجير ، إذ كان العربي إذا نزل وادياً ينادي : يا رب الوادي إني أستجير بك هذه الليلة ثم يرى أن سلامته إنما هي بحفظ جني ذلك الوادي فهذا استمتاع بعضهم ببعض .
قال القاضي أبو محمد : وهذا مثال في الاستمتاع ، ولو ُتُتبع لتبينت له وجوه أخر كلها دنياوية ، وبلوغ الأجل المؤجل قال السدي هو الموت الذي انتهى الكل منهم إليه ، وقيل هو الحشر ، وقيل هو الغاية التي انتهى جميعهم إليها من الاستمتاع ، كأنهم أشاروا إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل ، وقرأ الحسن «وبلِّغنا أجلنا » بكسر اللام مشددة ، وقوله تعالى : { قال النار مثواكم } الآية ، إخبارٌ من الله عز وجل عما يقول لهم يوم القيامة إثر كلامهم المتقدم ، وجاء الفعل بلفظ الماضي وهو في الحقيقة مستقبل لصحة وقوعه ، وهذا كثير من القرآن وفصيح الكلام و { مثواكم } أي موضع ثوابكم كمقامكم الذي هو موضع الإقامة ، هذا قول الزجّاج وغيره ، قال أبو علي في الإغفال : المثوى عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي { خالدين } والموضع ليس فيه معنى فعل فيكون عاملاً ، والتقدير النار ذات ثوابكم ، والاستثناء في قوله { إلا ما شاء الله } قالت فرقة { ما } بمعنى من ، فالمراد إلا من شاء ممن آمن في الدنيا بعد أن آمن من هؤلاء الكفرة .
قال القاضي أبو محمد : ولما كان هؤلاء صنفاً ساغت في العبارة عنهم { ما } ، وقال الفراء { إلا } بمعنى سوى ، والمراد سوى ما يشاء من زيادة في العذاب ، ونحا إليه الزجّاج ، وقال الطبري : إن المستثنى هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار .
قال القاضي أبو محمد : وساغ هذا من حيث العبارة بقوله { النار مثواكم } لا تخص بصيغتها مستقبل الزمان دون غيره ، وقال الطبري عن ابن عباس أنه كان يتناول في هذا الاستثناء أنه مبلغ حال هؤلاء في علم الله ثم أسند إليه أنه قال : إن هذه الآية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً{[5097]} .
قال القاضي أبو محمد : والإجماع على التخليد الأبدي في الكفار ، ولا يصح هذا عن ابن عباس رضي الله عنه .
قال القاضي أبو محمد : ويتجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته ، وليس مما يقال يوم القيامة ، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله كأنه لما أخبرهم أنه قال للكفار : { النار مثواكم } استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممن يرونه يومئذ كافراً ، وتقع { ما } على صفة من يعقل ، ويؤيد هذا التأويل اتصال قوله { إن ربك حكيم عليم } أي بمن يمكن أن يؤمن منهم ، و { حكيم عليم } صفتان مناسبتان لهذه الآية ، لأن تخلد هؤلاء الكفرة في النار فعل صادر عن حكم وعلم بمواقع الأشياء .
لمّا ذكر ثواب القوم الّذين يتذّكرون بالآيات ، وهو ثواب دار السّلام ، ناسب أن يعطف عليه ذكر جزاء الّذين لا يتذكّرون ، وهو جزاء الآخرة أيضاً ، فجملة : { ويوم يحشرهم } إلخ معطوفة على جملة : { لهم دار السّلام عند ربّهم } [ الأنعام : 127 ] . والمعنى : وللآخرين النّار مثواهم خالدين فيها . وقد صُوّر هذا الخبر في صورة ما يقع في حسابهم يوم الحشر ، ثمّ أُفضي إلى غاية ذلك الحساب ، وهو خلودهم في النّار .
وانتصب : { يومَ } على المفعول به لفعل محذوف تقديره : اذْكُر ، على طريقة نظائره في القرآن ، أو انتصب على الظرفيّة لفعل القول المقدّر .
والضّمير المنصوب ب { نحشرهم } عائد إلى { الذين أجرموا } [ الأنعام : 124 ] المذكور في قوله : { سيصيب الذين آجرموا صغار عند الله } ، أو إلى { الذين لا يؤمنون } [ الأنعام : 125 ] في قوله : { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } . وهؤلاء هم مقابل الّذين يتذكّرون ، فإنّ جماعة المسلمين يُعتَبرون مخاطبين لأنّهم فريق واحد مع الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ويعتبر المشركون فريقاً مبائناً لهم بعيداً عنهم ، فيتحدّث عنهم بضمير الغيبة ، فالمراد المشركون الّذين ماتوا على الشّرك وأُكّد ب { جميعاً } ليعمّ كلّ المشركين ، وسادتهم ، وشياطينهم ، وسائر عُلَقهم .
ويجوز أن يعود الضّمير إلى الشّياطين وأوليائهم في قوله تعالى : { وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم } [ الأنعام : 121 ] إلخ .
وقرأ الجمهور : { نحشرهم } بنون العظمة على الالتفات . وقرأه حفص عن عاصم ، ورَوْح عن يعقوب بياء الغيبة ولمّا أسند الحشر إلى ضمير الجلالة تعيّن أنّ النداء في قوله : { يا معشر الجن } من قِبل الله تعالى ، فتعيّن لذلك إضمار قول صادر من المتكلّم ، أي نقول : يا معشر الجنّ ، لأنّ النّداء لا يكون إلاّ قولاً .
وجملة : { يا معشر الجن } إلخ مقول قول محذوف يدلّ عليه أسلوب الكلام ، والتّقدير : نقول أو قائلين .
والمعشر : الجماعة الّذين أمرهم وشأنهم واحد ، بحيث تجمعهم صفة أو عمل ، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه . وهو يُجمع على معاشر أيضاً ، وهو بمعناه ، وهو مشتقّ من المعاشرة والمخالطة . والأكثر أن يضاف المعشر إلى اسم يبيّن الصّفة الّتي اجتمع مسمّاه فيها ، وهي هنا صفة كونهم جنّاً ، ولذلك إذا عُطف على ما يضاف إليه كان على تقدير تثنية معشراً وجمْعِه : فالتثنية نحو : { يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا } [ الرحمن : 33 ] الآية ، أي يا معشر الجنّ ويا معشر الإنس ، والجمع نحو قولك : يا معاشر العرب والعجم والبربر .
والجنّ تقدّم في قوله : { وجعلوا لله شركاء الجنّ } في هذه السّورة ( 100 ) . والمراد بالجنّ الشّياطين وأعوانهم من بني جنسهم الجنّ ، والإنس تقدّم عند قوله : { شياطين الإنس والجنّ } في هذه السّورة ( 112 ) .
والاستكثار : شدّة الإكثار . فالسّين والتّاء فيه للمبالغة مثل الاستسلام والاستخداع والاستكبار ، ويتعدى بمن البيانية إلى الشيء المتّخذِ كثيرُه ، يقال : استكثر من النَّعم أو من المال ، أي أكثر من جمعهما ، واستكثر الأمير من الجند ، ولا يتعدّى بنفسه تفرقة بين هذا المعنى وبين استكثر الّذي بمعنى عدّ الشّيء كثيراً ، كقوله تعالى : { ولا تمنن تستكثر } [ المدثر : 6 ] .
وقوله : { استكثرتم من الإنس } على حذف مضاف ، تقديره : من إضلال الإنس ، أو من إغوائهم ، فمعنى { استكثرتم من الإنس } أكثرتم من اتّخاذهم ، أي من جعلهم أتباعاً لكم ، أي تجاوزتم الحدّ في استهوائهم واستغوائهم ، فطوّعتم منهم كثيراً جداً .
والكلام توبيخ للجنّ وإنكار ، أي كان أكثر الإنس طوعاً لكم ، والجنّ يشمل الشّياطين ، وهم يغوون النّاس ويطوّعونهم : بالوسوسة ، والتخييل ، والإرهاب ، والمسّ ، ونحو ذلك ، حتّى تَوهّم النّاس مقدرتهم وأنّهم محتاجون إليهم ، فتوسّلوا إليهم بالإرضاء وترك اسم الله على ذبائحهم وفي شؤونهم ، وحتّى أصبح المسافر إذا نزل وادياً قال : « أعوذ بسَيِّد هذا الوادي ، أو بربّ هذا الوادي ، يعني به كبير الجنّ ، أو قال : يَا ربّ الوادي إنِّي أستجير بك » يعني سيّدَ الجنّ . وكان العرب يعتقدون أنّ الفيافي والأودية المتّسعة بين الجبال معمورة بالجنّ ، ويتخيّلون أصوات الرّياح زَجل الجنّ . قال الأعشى :
وبلدةٍ مثل ظَهْر التُّرس موحِشةٍ *** للجِنّ باللّيل في حَافَاتها زَجَل
وفي الكلام تعريض بتوبيخ الإنس الّذين اتَّبعوهم ، وأطاعوهم ، وأفرطوا في مرضاتهم ، ولم يسمعوا مَن يدعوهم إلى نبذ متابعتهم ، كما يدلّ عليه قوله الآتي : { يا معشر الجنّ والإنس ألم يأتكم رسل منكم } [ الأنعام : 130 ] فإنَّه تدرّج في التّوبيخ وقطععِ المعذرة .
والمراد بأوليائهم أولياء الجنّ : أي الموالون لهم ، والمنقطعون إلى التعلّق بأحوالهم . وأولياء الشّياطين هم المشركون الّذين وافوا المحشر على الشّرك . وقيل : أريد به الكفّار والعصاة من المسلمين ، وهذا باطل لأنّ العاصي وإن كان قد أطاع الشّياطين فليس وليّاً لها { اللَّهُ ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] ولأنّ الله تعالى قال في آخر الآية : { ألم يأتكم رسل منكم } [ الأنعام : 130 ] وقال : { وشَهِدوا على أنفسهم أنَّهم كانوا كافرين } .
و { من الإنس } بيان للأولياء . وقد اقتصر على حكاية جواب الإنس لأنّ النّاس المشركين هم المقصود من الموعظة بهذه الآية .
ومعنى : { استمتع بعضنا ببعض } انتفع وحَصّل شهوته وملائِمَهُ : أي استمتع الجنّ بالإنس ، وانتفع الإنس بالجنّ ، فكلّ بعض مراد به أحد الفريقين لأنَّه بعض مجموع الفريقين . وإنَّما قالوا : استمتع بعضنا ببعض ، ولم يكن الإنس هم المخاطبين بالتّوبيخ ، لأنَّهم أرادوا الاعتذار عن أوليائهم من الجنّ ودفع التّوبيخ عنهم ، بأنّ الجنّ لم يكونوا هم المستأثرين بالانتفاع بتطويع الإنس ، بل نال كلّ من الفريقين انتفاعاً بصاحبه ، وهؤلاء المعتذرون يحتمل أنّهم أرادوا مشاطرة الجناية إقراراً بالحقّ ، وإخلاصاً لأوليائهم ، أو أرادوا الاعتذار عن أنفسهم لما علموا من أن توبيخ الجنّ المُغوين يُعرّض بتوبيخ المغوَيْن بفتح الواو . فأقرّوا واعتذروا بأنّ ما فعلوه لم يكن تمرّداً على الله ، ولا استخفافاً بأمره ، ولكنّه كان لإرضاء الشّهوات من الجانبين ، وهي المراد بالاستمتاع .
ولكونهم ليسوا بمخاطبين ابتداء . وكون كلامهم دخيلاً في المخاطبة ، لم تفصل جملة قولهم كما تفصل جملة المحاورة في السؤال والجواب ، بل عطفت على جملة القول المقدّر لأنَّها قول آخر عَرض في ذلك اليوم .
وجيء في حكاية قولهم بفعل { وقال أولياؤهم } مع أنّه مستقبل من أجللِ قوله : { يحشرهم } تنبيها على تحقيق وقوعه ، فيعلم من ذلك التّنبيه على تحقيق الخبر كلّه ، وأنّه واقع لا محالة ، إذ لا يكون بعضه محقّقاً وبعضه دون ذلك .
واستمتاع الإنس بالجنّ هو انتفاعهم في العاجل : بتيسير شهواتهم ، وفتح أبواب اللّذّات والأهواء لهم ، وسلامتهم من بطشتهم . واستمتاع الجنّ بالإنس : هو انتفاع الجنّ بتكثير أتباعهم من أهل الضّلالة ، وإعانتُهم على إضلال النّاس ، والوقوفُ في وجه دعاة الخير ، وقطع سبيل الصّلاح ، فكلّ من الفريقين أعان الآخر على تحقيق ما في نفسه ممّا فيه ملائم طبعه وارتياحه لقضاء وطره .
وقوله : { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } استسلام لله ، أي : انقضَى زمن الإمهال ، وبلغْنا الأجلَ الذي أجلَّت لنا للوقوع في قبضتك ، فسُدّت الآن دوننا المسالكُ فلا نجد مفرّاً . وفي الكلام تحسّر وندامة . عند ظهور عدم إغناء أوليائهم عنهم شيئاً ، وانقضاء زمن طغيانهم وعتوّهم ، ومَحين حِين أن يَلْقَوا جزاء أعمالهم كقوله : { ووجد الله عنده فوفّاه حسابه } [ النور : 39 ] .
وقد أفادت الآية : أنّ الجنّ المخاطبين قد أُفحموا ، فلم يجدوا جواباً ، فتركوا أولياءهم يناضلون عنهم ، وذلك مظهر من مظاهر عدم إغناء المتبوعين عن أتباعهم يومئذٍ { إذ تَبرّأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا } [ البقرة : 166 ] .
وجملة : { قال النار مثواكم } فصلت عن الّتي قبلها على طريقة القول في المحاورة ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ) .
وضمير الخطاب في قوله : النار مثواكم } موجَّه إلى الإنس فإنَّهم المقصود من الآية ، كما في قوله تعالى : { بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مؤمنون فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النّار التي كنتم بها تكذّبون } [ سبأ : 41 ، 42 ] وقوله : { وتمَّت كلمة ربّك لأملأن جهنّم من الجِنّة والنّاسِ أجمعين } [ هود : 119 ] .
ومجيء القول بصيغة الماضي : للتّنبيه على تحقيق وقوعه وهو مستقبل بقرينة قوله : { يحشرهم } كما تقدّم . وإسناده إلى الغائب نظرٌ لما وقع في كلام الأولياء : { ربنا استمتع } إلخ .
والمثوى : اسم مكان من ثَوى بالمكان إذا أقام به إقامةَ سكنى أو إطالة مكث ، وقد بيّن الثّواء بالخلود بقوله : { خالدين فيها } .
وقوله : { خالدين فيها } هو من تمام ما يقال لهم في الحشر لا محالة ، لأنَّه منصوب على الحال من ضمير مثواكم ، فلا بدّ أن يتعلّق بما قبله .
وأمّا قوله : { إلا ما شاء الله } فظاهر النظم أنّه من تمام ما يقال لهم . لأنّ الأصل في الاستثناء أن يكون إخراجاً ممّا قبله من الكلام . ويجوز أن يكون من مخاطبة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وقع اعتراضاً بين ما قصّه عليه من حال المشركين وأوليائهم يوم الحشر ، وبين قوله له : { إن ربك حكيم عليم } ويكون الوقف على قوله : { خالدين فيها } .
والاستثناء في قوله : { إلا ما شاء الله } على التّأويلين استثناء إمَّا من عموم الأزمنة الّتي دلّ عليها قوله : { خالدين فيها } إذ الخلود هو إقامة الأبد والأبَد يعمّ الأزمان كلّها ، ف ( ما ) ظرفية مصدرية فلذلك يكون الفعل بعدها في تأويل مَصدر ، أي إلاّ وقت مشيئة الله إزالة خلودكم ، وإمَّا من عموم الخالدين الّذي في ضمير { خالدين } أي إلاّ فريقاً شاء الله أن لا يخلدوا في النّار .
وبهذا صار معنى الآية موضع إشكال عند جميع المفسّرين ، من حيثُ ما تقرّر في الكتاب والسنّة وإجماع الأمّة ؛ أنّ المشركين لا يُغفر لهم وأنَّهم مخلّدون في النّار بدون استثناء فريق ولا زمان .
وقد أحصَيْتُ لهم عشرة تأويلات ، بعضها لا يتمّ ، وبعضها بعيد إذا جُعل قوله : { إلا ما شاء الله } من تمام ما يقال للمشركين وأوليائهم في الحشر ، ولا يستقيم منها إلاّ واحد ، إذا جعل الاستثناء معترَضاً بين حكاية ما يقال للمشركين في الحشر وبين ما خوطب به النّبي صلى الله عليه وسلم فيكون هذا الاعتراض خطاباً للمشركين الأحياءِ الّذين يسمعون التّهديد ، إعذاراً لهم أن يسلموا ، فتكون ( ما ) مصدرية غير ظرفية : أي إلاّ مشيئة الله عدمَ خلودهم ، أي حالَ مشيئته . وهي حال توفيقه بعض المشركين للإسلام في حياتهم ، ويكون هذا بياناً وتحقيقاً للمنقول عن ابن عبّاس : استثنى الله قوماً سبق في علمه أنَّهم يُسلمون . وعنه أيضاً : هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار ، وإذا صح ما نقل عنه وجب تأويله بأنه صدر منه قبل علمه بإجماع أهل العلم على أنّ المشركين لا يغفر لهم .
ولك أن تجعل ( ما ) على هذا الوجه موصولة ، فإنَّها قد تستعمل للعاقل بكثرة . وإذا جعل قوله : { خالدين } من جملة المقول في الحشر كان تأويل الآية : أنّ الاستثناء لا يقصد به إخراج أوقات ولاَ حالةٍ ، وإنَّما هو كناية ، يقصد منه أنّ هذا الخلود قدّره الله تعالى ، مختاراً لا مكره له عليه ، إظهاراً لتمام القدرة ومحض الإرادة ، كأنَّه يقول : لو شئت لأبطلتُ ذلك . وقد يعْضد هذا بأنّ الله ذكر نظيره في نعيم أهل الجنّة في قوله : { فأمَّا الذين شَقُوا ففي النّار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إلاّ ما شاء ربّك إنّ ربّك فعَّال لما يريد وأمّا الذين سعِدوا ففي الجنّة خالدين فيها ما دامت السّماوات والأرض إلاّ ما شاء ربّك عطاء غير مجذوذ } [ هود : 106 ، 108 ] فانظر كيف عقّب قوله : { إلا ما شاء ربّك } في عقاب أهل الشّقاوة بقوله : { إنّ ربّك فعَّال لما يريد } [ هود : 107 ] وكيف عقَّب قوله : { إلا ما شاء ربّك } في نعيم أهل السّعادة بقوله : { عَطاء غير مجذوذ } [ هود : 108 ] فأبْطل ظاهر الاستثناء بقوله : { عطاء غير مجذوذ } فهذا معنى الكناية بالاستثناء ، ثمّ المصير بعد ذلك إلى الأدلّة الدّالة على أنّ خلود المشركين غيرُ مخصوص بزمن ولا بحال .
ويَكونُ هذا الاستثناء من تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه .
وقوله : { إن ربك حكيم عليم } تذييل ، والخطاب للنّبي صلى الله عليه وسلم فإن كان قوله : { خالدين فيها إلا ما شاء الله } من بقية المقول لأولياء الجنّ في الحشر كان قوله : { إن ربك حكيم عليم } جملة معترضة بين الجمل المقولة ، لبيان أنّ ما رتّبه الله على الشرّك من الخلود رتّبه بحكمته وعِلْمه ، وإن كان قوله : { خالدين } إلخ كلاماً مستقلاً معترضاً كان قوله : { إن ربك حكيم عليم } تذييلاً للاعتراض ، وتأكيداً للمقصود من المشيئة من جعل استحقاق الخلود في العذاب منوطاً بالموافاة على الشّرك . وجَعْل النّجاة من ذلك الخلودِ منوطة بالإيمان .
والحكيم : هو الّذي يضع الأشياء في مناسباتها ، والأسباب لمسبّباتها . والعليم : الّذي يعلم ما انطوى عليه جميع خلقه من الأحوال المستحقّة للثّواب والعقاب .