تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

ومن نصره واستجابته لدعائكم أن أنزل عليكم نعاسا يُغَشِّيكُمُ [ أي ] فيذهب ما في قلوبكم من الخوف والوجل ، ويكون أَمَنَةً لكم وعلامة على النصر والطمأنينة .

ومن ذلك : أنه أنزل عليكم من السماء مطرا ليطهركم به من الحدث والخبث ، وليطهركم به من وساوس الشيطان ورجزه .

وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ أي : يثبتها فإن ثبات القلب ، أصل ثبات البدن ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ فإن الأرض كانت سهلة دهسة فلما نزل عليها المطر تلبدت ، وثبتت به الأقدام .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك بعض المنن الأخرى التي منحها للمؤمنين قبل أن يلتحموا مع أعدائهم في بدر فقال : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام } .

وقوله : { يُغَشِّيكُمُ } بتشديد الشين من التغشية بمعنى التغطية عن غشاه تغشية أى : غطاه .

والنعاس : أول الوم قبل أن يثقل . وفعله - على الراجح - على وزن منع .

والأمنة : مصدر بمعنى الأمن . وهو طمأنينة القلب وزوال الخوف ، يقال : أمنت من كذا أمنة وأمنا وأمانا بمعنى .

قال الجمل : في قوله : { إذ يغشاكم النعاس } ثلاثة قراءات سبعية .

الأولى : يغشاكم كيلقاكم ، من غشية إذا أتاه وأصابه وفى المصباح : غشيته أغشاه من باب تعب بمعنى أتيته - وهى قراءة أبى عمرو وابن كثير .

الثانية : يُغْشِيكم - بإسكان الغيب وكسر الشين - من أغشاه . أي أنزله بكم وأوقعه عليكم - وهو قراءة نافع - .

الثالثة : يغشيكم - بتشديد الشين وفتح الغين وهى قراءة الباقين - من غشاه تغشية بمعنى غطاه .

أى : يغشيكم الله النعاس أي يجعله عليكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم .

والنعاس على القراءة الأولى مرفوع على الفاعلية ، وعلى الأخيرتين منصوب على المفعولية . وقوله : " أمنة " حال أو مفعول لأجله .

وقال القرطبى : وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها ، فكان النوم عجيبا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم ، ولكن الله ربط جأشهم .

وعن على - رضى الله عنه - قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقدار على فرس أبلق ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يصلى حتى أصبح .

وفى امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان : - أحدهما : أن قواهم بالاستراحة على القتال من الغد .

الثانى : أن أمنهم بزوال الرعب في قلوبهم : كما يقال : الأمن منيم ، والخوف مسهر .

وقال ابن كثير : وجاء في الصحيح " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق ، وهما يدعوان ، أخذت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة من النوم . ثم استيقظ متبسما ، فقال : " أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل على تثناياه النقع " . ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قول الله - تعالى - { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } " .

والمعنى : واذكروا - أيها المؤمنون - أيضاً ، وقت أن كنتم متعبين وقلقين على مصيركم في هذه المعركة ، فألقى الله عليكم النعاس ، وغشاكم به قبل التحامكم بأعدائكم ، ليكون أمانا لقلوبكم ، وراحة لأبدانكم ، وبشارة خير لكم .

هذا ، ومن العلماء الذين تكلموا عن نعمة النعاس التي ساقها الله للمؤمنين قبل المعركة ، الإِمامان الرازى ومحمد عبده .

أما الامام الرازى فقد قال ما ملخصه : واعلم أن كل نوم ونعاس لا يحصل إلا من قبل الله - تعالى - فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله لا بد فيه من مزيد فائدة ، وذكروا في ذلك وجوها : منها : أن الخائف إذا خاف من عدوه فإنه لا يأخذه النوم ، وإذا نام الخائفون أمنوا . فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد ، يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن .

ومنها : أنهم ما ناموا نوما غرقا يتمكن مع العدو من معافصتهم ، بل كان ذلك نعاسا يزول معه الإِعياء والكلال ، ولو قصدهم العدو في هذه الحالة لعرفوا وصوله ، ولقدروا على دفعه .

ومنها : أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم ، ومحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة . فلهذا السبب قيل : إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز .

وقال الامام محمد عبده : لقد مضت سنة الله في الخلق ، بأن من يتوقع في صبيحة ليلته هو لا كبيرا ، ومصابا عظيما ، فإنه يتجافى تجنبه على مضجعه فيصبح خاملا ضعيفا . وقد كان المسلمون يوم بدر يتوقعون مثل ذلك ، إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم غدا فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرض والسهاد . . ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس : غشيهم فناموا ، واثقين بالله ، مطمئنين لوعده ، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه . . . . فالنعاس لم يكن يوم بدر في وقت الحرب بل قبلها .

وبذلك نرى أن النعاس الذي أنزله الله تعالى - على المؤمنين قبل لقائهم بأعدائهم في بدر كان نعمة عظيمة ومنه جليلة .

وقوله - تعالى - : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } وهو - أى : إنزال الماء من السماء نعمة عظمى تحمل في طياتها نعما وسننا .

أولهما : يتجلى في هذه الجملة الكريمة ، أنه - سبحانه - أنزل على المؤمنين المطر من السماء ليطهرهم به من الحدثين : الأصغر والأكبر ، فإن المؤمن كما يقول الإِمام الرازى - " يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنبا ، وبغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ، ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب " .

وثانيها : قوله - تعالى - : ويهذب عنكم رجز الشيطان .

وأصل الرجز : الاضطراب ويطلق على كل ما تشتد مشقته على النفوس .

قال الراغب : أصل الرجز الاضطراب ، ومنه قيل رجز البعير رجزا فهو أرجز ، وناقة رجزاء إذا تقارب خطوها واضطرب لضعفها . .

والمراد برجز الشيطان : وسوسته للمؤمنين ، وتخويفه إياهم من العطش وغيره عند فقدهم الماء وإلقاؤه الظنون السيئة في قلوبهم .

أى : أنه - سبحانه - أنزل عليكم الماء - أيها المؤمنون - ليظهركم به تطهيرا حسيا وليزيل عنكم وسوسة الشيطان ، بتخويفه إياكم من العطش وبإلقائه في نفوسكم الظنون والأوهام . . وهذا هو التطهير الباطنى .

وثالثها قوله - تعالى - : { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } أى : وليقويها بالثقة في نصر الله ، وليوطنها على الصبر والطمأنينة . . ولا شك أن وجود الماء في حوزة المحاربين يزيدهم قوة على قوتهم ، وثباتاً على ثباتهم ، أما فقده فإنه يؤدى إلى فقد الثقة والاطمئنان ، بل وإلى الهزيمة المحققة .

وأصل الربط : الشد . ويقال لكل من صبر على أمر : ربط قلبه عليه ، أى : حبس قلبه عن أن يضطرب أو يتزعزع ، ومنه قولهم : رجل رابط الجأش : أى : ثابت متمكن .

ورابع هذه النعم التي تولدت عن نزول الماء من السماء على المؤمنين ، قبل خوضهم معركة بدر ، يتجلى في قوله - تعالى - { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام } .

أى : أنه - سبحانه - أنزل عليهم المطر قبل المعرفة لتطهيرهم حسياً ومعنوياً ، ولتقويتهم وطمأنينتهم ، وليثبت أقدامهم به حتى لا تسوخ في الرمال ، وحتى يسهل المشى عليها ، إذ من المعروف أن من العسير المشئ على الرمال . فإذا ما نزلت عليها الأمطار جمدت وسهل السير فوقها ، وانطفأ غبارها . . فالضمير في قوله { بِهِ } يعود على الماء المنزل من السماء .

قال الزمخشرى : ويجوز أن يعود للربط - في قوله { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } ، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة ثبت القدم في مواطن القتال .

وهذا ، وقد وردت آثار متعددة توضع ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة من نعم جليلة ، ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس أنه قال : نزل النبى - صلى الله عليه وسلم - يغنى حين سار إلى بدر - والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة - أي كثيرة مجتمعة - فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ، فوسوس بينهم ، تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم ورسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون مجنبين ؟ فأمطر الله عليهم مطرا شدديا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان وثبت الرمل حين أصابه المطر ، ومشى الناس عليه والدواب ، فاسروا إلى القوم .

.

وعن عروة بن الزبير قال : بعث الله السماء وكان الوادى دهساً فاصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مالبد لهم الأرض ولم منعهم من المسير ، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه .

ومن هذا القول المنقول عن عروة - رضى الله عنه - نرى أن المطر كان خيراً للمسلمين ، وكان شراً على الكافرين ، لأن المسلمين كانوا في مكان يصلحه المطر ، بينما كان المشركون في مكان يؤذيهم فيه المطر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) . .

أما قصة النعاس الذي غشي المسلمين قبل المعركة فهي قصة حالة نفسية عجيبة ، لا تكون إلا بأمر الله وقدره وتدبيره . . لقد فزع المسلمون وهم يرون أنفسهم قلة في مواجهة خطر لم يحسبوا حسابه ولم يتخذوا له عدته . . فإذا النعاس يغشاهم ، ثم يصحون منه والسكينة تغمر نفوسهم ؛ والطمأنينة تفيض على قلوبهم [ وهكذا كان يوم أحد . . تكرر الفزع ، وتكرر النعاس ، وتكررت الطمأنينة ] . . ولقد كنت أمر على هذه الآيات ، وأقرأ أخبار هذا النعاس ، فأدركه كحادث وقع ، يعلم الله سره ، ويحكي لنا خبره . . ثم إذا بي أقع في شدة ، وتمر عليّ لحظات من الضيق المكتوم ، والتوجس القلق ، في ساعة غروب . . ثم تدركني سنة من النوم لا تتعدى بضع دقائق . . وأصحوا إنساناً جديداً غير الذي كان . . ساكن النفس . مطمئن القلب . مستغرقاً في الطمأنينة الواثقة العميقة . . كيف تم هذا ? كيف وقع هذا التحول المفاجىء ? لست أدري ! ولكني بعدها أدرك قصة بدر وأحد . أدركها في هذه المرة بكياني كله لا بعقلي . وأستشعرها حية في حسي لا مجرد تصور . وأرى فيها يد الله وهي تعمل عملها الخفي المباشر . . ويطمئن قلبي . .

لقد كانت هذه الغشية ، وهذه الطمأنينة ، مدداً من أمداد الله للعصبة المسلمة يوم بدر :

( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ) . .

ولفظ ( يغشيكم ) ولفظ ( النعاس ) ولفظ ( أمنة ) . . كلها تشترك في إلقاء ظل لطيف شفيف ؛ وترسم الظل العام للمشهد ، وتصور حال المؤمنين يومذاك ، وتجلي قيمة هذه اللحظة النفسية الفاصلة بين حال للمسلمين وحال .

وأما قصة الماء :

( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ، ويثبت به الأقدام ) . .

فهي قصة مدد آخر من أمداد الله للعصبة المسلمة ، قبيل المعركة .

قال علي بن طلحة ، عن ابن عباس قال : نزل النبي [ ص ] حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة وعصة ، وأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم : تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون مجنبين ? فأمطر الله عليهم مطراً شديداً ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان ، وثبت الرمل حين أصابه المطر ، ومشى الناس عليه والدواب ، فساروا إلى القوم ، وأمد الله نبيه [ ص ] بألف من الملائكة ، فكان جبريل في خمسمائة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة مجنبة " . .

ولقد كان ذلك قبل أن ينفذ رسول الله [ ص ] ما أشار به الحباب بن المنذر من النزول على ماء بدر ، وتغوير ما وراءها من القلب .

" والمعروف أن رسول الله [ ص ] لما صار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده - فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال : يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته ، منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه ، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة ? فقال : " بل منزل نزلته للحرب والمكيدة " . فقال : يا رسول الله ، ليس بمنزل ، ولكن سربنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ونسقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء . فسار رسول الله [ ص ] ففعل ذلك " .

ففي هذه الليلة - وقبل إنفاذ مشورة الحباب بن المنذر - كانت هذه الحالة التي يذكر الله بها العصبة التي شهدت بدراً . . والمدد على هذا النحو مدد مزدوج : مادي وروحي . فالماء في الصحراء مادة الحياة ، فضلاً على أن يكون أداة النصر . والجيش الذي يفقد الماء في الصحراء يفقد أعصابه قبل أن يواجه المعركة . ثم هذه الحالة النفسية التي صاحبت الموقف ووسوس بها الشيطان ! حالة التحرج من أداء الصلاة على غير طهر لعدم وجود الماء [ ولم يكن قد رخص لهم بعد في التيمم ، فقد جاء هذا متأخراً في غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة ] . وهنا تثور الهواجس والوساوس ، ويدخل الشيطان من باب الإيمان ليزيد حرج النفوس ووجل القلوب ! والنفوس التي تدخل المعركة في مثل هذا الحرج وفي مثل هذا القلق تدخلها مزعزعة مهزومة من داخلها . . وهنا يجيء المدد وتجيء النجدة . .

( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ، ويثبت به الأقدام ) . .

ويتم المدد الروحي بالمدد المادي ؛ وتسكن القلوب بوجود الماء ، وتطمئن الأرواح بالطهارة ؛ وتثبت الأقدام بثبات الأرض وتماسك الرمال .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

يذكرهم الله{[12717]} بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم ، أمانا من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عَدُوِّهم وقلة عَدَدهم ، وكذلك فعل تعالى بهم يوم أُحُد ، كما قال تعالى : { ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } [ آل عمران : 154 ] .

قال أبو طلحة{[12718]} كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد ، ولقد سقط السيف من يدي مرارا يسقط وآخذه ، ويسقط وآخذه ، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحَجَف .

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا زُهَيْر ، حدثنا ابن مَهْدِي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مُضَرِّب ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح{[12719]}

وقال سفيان الثوري ، عن عاصم عن أبي رَزِين ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، أنه قال : النعاس في القتال أمنة من الله ، وفي الصلاة من الشيطان .

وقال قتادة : النعاس في الرأس ، والنوم في القلب .

قلت : أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد ، وأمر ذلك مشهور جدا ، وأما يوم بدر في هذه الآية الشريفة{[12720]} إنما هي في سياق قصة بدر ، وهي دالة على وقوع ذلك أيضا وكأن ذلك كان سجية

للمؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله . وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمه عليهم ، وكما قال تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [ الشرح : 5 ، 6 ] ؛ ولهذا [ جاء ]{[12721]} في الصحيح{[12722]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق ، رضي الله عنه ، وهما يدعوان ، أخذت رسول الله سنة من النوم ، ثم استيقظ متبسما فقال : " أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل على ثناياه النقع " ثم خرج من باب العريش ، وهو يتلو قوله تعالى : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] .

وقوله : { وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : نزل النبي صلى الله عليه وسلم - يعني : حين سار إلى بدر - والمسلمون{[12723]} بينهم وبين الماء رملة دعصة{[12724]} وأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ، يوسوس بينهم : تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون مجنبين ! فأمطر الله عليهم مطرا شديدا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان ، وانشف{[12725]} الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب ، فساروا إلى القوم وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة ، فكان جبريل في خمسمائة مُجَنِّبَة ، وميكائيل في خمسمائة مُجَنِّبة .

وكذا قال العوفي عن ابن عباس : إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا{[12726]} عنها ، نزلوا على الماء يوم بدر ، فغلبوا المؤمنين عليه . فأصاب المؤمنين الظمأ ، فجعلوا يصلون مجنبين محدثين ، حتى تعاظموا ذلك في صدورهم ، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المؤمنون ، وملئوا الأسقية ، وسقوا الركاب{[12727]} واغتسلوا من الجنابة ، فجعل الله في ذلك طهورا ، وثبت الأقدام . وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة ، فبعث الله المطر عليها ، فضربها حتى اشتدت ، وثبتت عليها الأقدام .

ونحو ذلك رُوِي عن قتادة ، والضحاك ، والسدي .

وقد روى عن سعيد بن المسيب ، والشعبي ، والزهري ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أنه طش{[12728]} أصابهم يوم بدر .

والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر ، نزل على أدنى ماء هناك أي : أول ماء وجده ، فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال : يا رسول الله ، هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نجاوزه ، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة ؟ فقال : " بل منزل نزلته للحرب والمكيدة " . فقال : يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ، ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ، ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء . فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل كذلك{[12729]}

وفي مغازي " الأموي " أن الحباب لما قال ذلك نزل ملك من السماء وجبريل جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ذلك الملك : يا محمد ، إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن الرأي ما أشار به " الحباب بن المنذر " {[12730]} فالتفت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[12731]} إلى جبريل ، عليه{[12732]} السلام ، فقال : هل تعرف هذا ؟ فنظر إليه فقال : ما كل الملائكة أعرفهم ، وإنه ملك وليس بشيطان .

وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب " المغازي " ، رحمه الله : حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : بعث الله السماء - وكان الوادي دهسا - فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير ، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه{[12733]}

وقال مجاهد : أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس ، فأطفأ بالمطر الغبار ، وتلبدت به الأرض ، وطابت نفوسهم{[12734]} وثبتت به أقدامهم .

وقال ابن جرير : حدثنا هارون بن إسحاق ، حدثنا مصعب بن المقدام ، حدثنا إسرائيل ، حدثنا أبو إسحاق ، عن جارية ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : أصابنا من الليل طش{[12735]} من المطر - يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر - فانطلقنا تحت الشجر والحَجَف نستظل تحتها من المطر . وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ! فلما أن طلع الفجر ، نادى : " الصلاة ، عباد الله " ، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحرض على القتال .

وقوله : { لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } أي : من حدث أصغر أو أكبر ، وهو تطهير{[12736]} الظاهر { وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ } أي : من وسوسة أو{[12737]} خاطر سيئ ، وهو تطهير الباطن ، كما قال تعالى في حق أهل الجنة : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ } فهذا زينة الظاهر { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } [ الإنسان : 21 ]أي : مطهرا لما كان من غل أو حسد أو تباغض ، وهو زينة الباطن وطهارته .

{ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } أي : بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء ، وهو شجاعة الباطن ، { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ } وهو شجاعة الظاهر ، والله أعلم .


[12717]:في ك، م: "تعالى".
[12718]:في أ: "قال على بن أبي طلحة".
[12719]:مسند أبي يعلى (1/242) ورواه أحمد في مسنده (1/125) من طريق عبد الرحمن بن مهدي بهذا الإسناد.
[12720]:في ك، م: "الكريمة".
[12721]:زيادة من م.
[12722]:في أ: "الصحيحين".
[12723]:في ك، م، أ: "المشركون".
[12724]:في أ: "وعصمة".
[12725]:في ك: "وانكشف".
[12726]:في ك، م: "ويقاتلوا".
[12727]:في م: "الركائبط.
[12728]:في ك، م: "طس".
[12729]:في م: "ذلك".
[12730]:ورواه الواقدي في المغازي (1/54) إلى هذا الموضع. فقال: "حدثني ابن أبي حبيبة، عن رواد بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نزل جبريل.. فذكره".
[12731]:زيادة من ك، م، أ.
[12732]:في ك: "عليهما".
[12733]:السيرة النبوية لابن هشام (1/620).
[12734]:في ك، م: "طابت به أنفسهم".
[12735]:في ك، م: "طس".
[12736]:في م: "طهارة".
[12737]:في م: "و".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ يُغَشّيكُمُ النّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السّمَآءِ مَآءً لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىَ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ } . .

يقول تعالى ذكره : ولتطمئن به قلوبكم إذ يعشيكم النعاس . ويعني بقوله : يُغَشّيكُمُ النّعاسَ : يلقي عليكم النعاس ، أمَنَةً يقول : أمانا من الله لكم من عدوّكم أن يغلبكم ، وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عزّ وجلّ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله ، قال : النعاس في القتال أمنة من الله عزّ وجلّ ، وفي الصلاة من الشيطان .

حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، في قوله : يغشاكم النعاس أمنة منه ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله ، بنحوه ، قال : قال عبد الله : فذكر مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن عبد الله بنحوه .

والأمنة : مصدر من قول القائل : أمنت من كذا أَمَنَةً وأمانا وأمنا ، وكلّ ذلك بمعنى واحد .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أمَنَةً منْهُ : أمانا من الله عزّ وجلّ .

قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أمَنَةً قال : أمنا من الله .

حدثني يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إذْ يُغَشّيكُمُ النّعاسَ أمَنَةً مِنْهُ قال : أنزل الله عزّ وجلّ النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم أُحد . فقرأ : ثُمّ أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَم أمَنَةً نُعاسا .

واختلفت القراء في قراءة قوله : «إذْ يُغَشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » فقرأ ذلك عامّة قراء أهل المدينة «يُغَشِيكُمُ النّعاسَ » بضم الياء وتخفيف الشين ونصب «النعاس » ، من أغشاهم الله النعاس ، فهو يغشيهم . وقرأته عامة قراء الكوفيين : يُغَشّيكُم بضم الياء وتشديد الشين من غشّاهم الله النعاس ، فهو يُغَشّيهم . وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين : «يَغْشاكُم النّعاسُ » بفتح الياء ورفع «النعاس » ، بمعنى غشيهم النعاس ، فهو يغشاهم واستشهد هؤلاء لصحة قراءتهم كذلك بقوله في آل عمران : يَغْشَى طائفَةً .

وأولى ذلك بالصواب : إذْ يُغَشّيكُم على ماذكرت من قراءة الكوفيين ، لإجماع جميع القرّاء على قراءة قوله : ويُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً بتوجيه ذلك إلى أنه من فعل الله عزّ وجلّ ، فكذلك الواجب أن يكون كذلك : يُغَشّيكُم إذ كان قوله : ويُنَزّلُ عطفا على «يُغَشّي » ، ليكون الكلام متسقا على نحو واحد .

وأما قوله : ويُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيّطَهّرَكُمْ بِهِ فإن ذلك مطر أنزله الله من السماء يوم بدر ، ليطهر به المؤمنين لصلاتهم لأنهم كانوا أصبحوا يومئذٍ مُجْنِبين على غير ماء فلما أنزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا . وكان الشيطان وسوس لهم بما حزنهم به من إصباحهم مجنبين على غير ماء ، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر فذلك ربطه على قلوبهم وتقويته أسبابهم وتثبيته بذلك المطر أقدامهم ، لأنهم كانوا التقوا مع عدوّهم على رَمْلة هَشّاء فلبّدَها المطر حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها ، توطئة من الله عزّ وجلّ لنبيه عليه الصلاة والسلام وأوليائه أسباب التمكن من عدوهم والظفر بهم . وبمثل الذي قلنا ، تتابعت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل العلم . ذكر الأخبار الواردة بذلك :

حدثنا هارون بن إسحاق ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن حارثة ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : أصابنا من الليل طشّ من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحجف ، نستظلّ تحتها من المطر ، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به : «اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ » فلما أن طلع الفجر نادى : الصّلاةَ عِبادَ اللّهِ ، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحرّض على القتال .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص بن غياث وأبو خالد ، عن داود ، عن سعيد بن المسيب : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : طشّ يوم بدر .

حدثني الحسن بن يزيد ، قال : حدثنا حفص ، عن داود ، عن سعيد ، بنحوه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد أبي عديّ وعبد الأعلى ، عن داود ، عن الشعبيّ وسعيد بن المسيب ، قالا : طش يوم بدر .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن الشعبي وسعيد بن المسيب في هذه الاَية : يُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ قالا : طش كان يوم بدر ، فثبت الله به الأقدام .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » . . . الاَية ، ذكر لنا أنهم مطروا يومئذٍ حتى سال الوادي ماء ، واقتتلوا على كثيب أعفر ، فلبده الله بالماء ، وشرب المسلمون وتوضئوا وسَقَوْا ، وأذهب الله عنهم وسواس الشيطان .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم يعني حين سار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ، فوسوس بينهم : تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين فأمطر الله عليهم مطرا شديدا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان . وثبت الرمل حين أصابه المطر ، ومشي الناس عليه والدوابّ فساروا إلى القوم ، وأمدّ الله نبيه بألف من الملائكة ، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة مجنبة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : «إذْ يُغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » . . . إلى قوله : وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ وذلك أن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عنها ، نزلوا على الماء يوم بدر ، فغلبوا المؤمنين عليه ، فأصاب المؤمنين الظمأ ، فجعلوا يصلون مجنبين محدثين ، حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المسلمون وملئوا الأسقية ، وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة ، فجعل الله في ذلك طُهورا ، وثبت الأقدام . وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله عليها المطر . فضربها حتى اشتدت ، وثبتت عليها الأقدام .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، فسبقهم المشركون إلى ماء بدر ، فنزلوا عليه ، وانصرف أبو سفيان وأصحابه تلقاء البحر ، فانطلقوا . قال : فنزلوا على أعلى الوادي ، ونزل محمد صلى الله عليه وسلم في أسفله . فكان الرجل من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام يُجنب فلا يقدر على الماء ، فيصلي جنبا ، فألقى الشيطان في قلوبهم ، فقال : كيف ترجون أن تظهروا عليهم وأحدكم يقوم إلى الصلاة جنبا على غير وضوء ؟ قال : فأرسل الله عليهم المطر ، فاغتسلوا وتوضئوا وشربوا ، واشتدت لهم الأرض ، وكانت بطحاء تدخل فيها أرجلهم ، فاشتدّت لهم من المطر واشتدّوا عليها .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : غلب المشركون المسلمين في أوّل أمرهم على الماء فظمىء المسلمون ، وصلوا مجنبين محدثين ، وكانت بينهم رمال ، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، فقال : تزعمون أن فيكم نبيّا وأنكم أولياء الله ، وقد غلبتم على الماء وتصلون مجنبين محدثين ؟ قال : فأنزل الله ماء من السماء ، فسال كلّ واد ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وثبتت أقدامهم ، وذهبت وسوسة الشيطان .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : المطر أنزله عليهم قبل النعاس . رِجْزَ الشّيْطَانِ قال : وسوسته . قال : فأطفأ بالمطر الغبار ، والتبدت به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ أنزله عليهم قبل النعاس ، طبق المطر الغبار ، ولبد به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به الأقدام .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : القطر ويُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ وساوسه . أطفأ بالمطر الغبار ، ولبد به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، رجز الشيطان : وسوسته .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ قال : هذا يوم بدر أنزل عليهم القطر . وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ الذي ألقى في قلوبكم ليس لكم بهؤلاء طاقة . وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ . . . إلى قوله : وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ : إن المشركين نزلوا بالماء يوم بدر ، وغلبوا المسلمين عليه ، فأصاب المسلمين الظمأ ، وصلوا محدثين مجنبين ، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن ، ووسوس فيها : إنكم تزعمون أنكم أولياء الله وأن محمدا نبيّ الله ، وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون محدثين مجنبين فأمطر الله السماء حتى سال كلّ واد ، فشرب المسلمون وملئوا أسقيتهم وسقوا دوابهم واغتسلوا من الجنابة ، وثبت الله به الأقدام وذلك أنهم كان بينهم وبين عدوّهم رملة لا تجوزها الدوابّ ، ولا يمشي فيها الماشي إلاّ بجهد ، فضربها الله بالمطر حتى اشتدت وثبتت فيها الأقدام .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ » : أي أنزلت عليكم الأمنة حتى نمتم لا تخافون ، ونزل عليكم من السماء المطر الذي أصابهم تلك الليلة ، فحبس المشركون أن يسبقوا إلى الماء ، وخُلي سبيلُ المؤمنين إليه . لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَام : ليذهب عنهم شكّ الشيطان بتخويفه إياهم عدوّهم ، واستجلاد الأرض لهم ، حتى انتهوا إلى منزلهم الذي سبق إليه عدوّهم .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ثم ذكر ما ألقى الشيطان في قلوبهم من شأن الجنابة وقيامهم يصلون بغير وضوء ، فقال : «إذْ يَغْشاكُمُ النّعاسُ أمَنَةً مِنْهُ ويُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَامَ » حتى تشتدّون على الرمل ، وهو كهيئة الأرض .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، قال : قال رجل عند سعيد بن المسيب ، وقال مرّة قرأ : وَيُنَزّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطَهّرَكُمْ بِهِ فقال سعيد : إنما هي : «وَيُنزِلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السّماءِ ماءً لِيُطْهِرَكُمْ بِهِ » قال : وقال الشعبي : كان ذلك طشّا يوم بدر .

وقد زعم بعض أهل العلم بالغريب من أهل البصرة ، أن مجاز قوله : وَيُثَبّتَ بِهِ الأقْدَام ويفرغ عليهم الصبر وينزله عليهم ، فيثبتون لعدوّهم . وذلك قول خلاف لقول جميع أهل التأويل من الصحابة والتابعين ، وحسب قول خطأ أن يكون خلافا لقول من ذكرنا . وقد بيّنا أقوالهم فيه ، وأن معناه : ويثبت أقدام المؤمنين بتلبيد المطر الرمل حتى لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ} (11)

{ إذ يغشّيكم النعاس } بدل ثان من { إذ يعدكم } لإظهار نعمة ثالثة أو متعلق بالنصر أو بما في عند الله معنى الفعل ، أو بجعل أو بإضمار اذكر . وقرأ نافع بالتخفيف من أغشيته الشيء إذا غشيته إياه والفاعل على القراءتين هو الله تعالى وقرأ ابن كثير وأبو عمر " يغشاكم الناس " بالرفع . { أمنة منه } أمنا من الله ، وهو مفعول له باعتبار المعنى فإن قوله { يغشيكم النعاس } متضمن معنى تنعسون ، و " يغشاكم " بمعناه ، وال { أمنة } فعل لفاعله ويجوز أن يراد بها الإيمان فيكون فعل المغشي ، وأن تجعل على القراءة الأخيرة فعل النعاس على المجاز لأنها لأصحابه ، أو لأنه كان من حقه أن لا يغشاكم لشدة الخوف فلما غشيهم فكأنه حصلت له أمنة من الله لولاها لم يغشهم كقوله :

يهاب النوم أن يغشى عيونا *** تهابك فهو نفّار شرود

وقرئ { أمنة } كرحمة وهي لغة . { وينزّل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } من الحدث والجنابة . { ويذهب عنكم رجز الشيطان } يعني الجنابة لأنها من تخييله ، أو وسوسته وتخويفه إياهم من العطش . روي أنهم نزلوا في كثيب أغفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء وناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركون على الماء ، فوسوس إليهم الشيطان وقال : كيف تنصرون ، وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله ، وفيكم رسوله فأشفقوا فأنزل الله المطر ، فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذوا الحياض على عدوته وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضئوا ، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة . { وليربط على قلوبكم } بالوثوق على لطف الله بهم . { ويثبّت به الأقدام } أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل ، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة .