تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } أي : خلق لكم ، برا بكم ورحمة ، جميع ما على الأرض ، للانتفاع والاستمتاع والاعتبار .

وفي هذه الآية العظيمة{[83]}  دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة ، لأنها سيقت في معرض الامتنان ، يخرج بذلك الخبائث ، فإن [ تحريمها أيضا ] يؤخذ من فحوى الآية ، ومعرفة المقصود منها ، وأنه خلقها لنفعنا ، فما فيه ضرر ، فهو خارج من ذلك ، ومن تمام نعمته ، منعنا من الخبائث ، تنزيها لنا .

وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{ اسْتَوَى } ترد في القرآن على ثلاثة معاني : فتارة لا تعدى بالحرف ، فيكون معناها ، الكمال والتمام ، كما في قوله عن موسى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } وتارة تكون بمعنى " علا " و " ارتفع " وذلك إذا عديت ب " على " كما في قوله تعالى : { ثم استوى على العرش }{[84]} { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } وتارة تكون بمعنى " قصد " كما إذا عديت ب " إلى " كما في هذه الآية ، أي : لما خلق تعالى الأرض ، قصد إلى خلق السماوات { فسواهن سبع سماوات } فخلقها وأحكمها ، وأتقنها ، { وهو بكل شيء عليم } ف { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها } و { يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } يعلم السر وأخفى .

وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية ، وكما في قوله تعالى : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } لأن خلقه للمخلوقات ، أدل دليل على علمه ، وحكمته ، وقدرته .


[83]:- في ب: الكريمة.
[84]:- في ب: أورد آية أخرى هي: " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ".
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

وبعد أن ذكر - سبحانه - ما يشهد بقدرته ووحدانيته عن طريق الأدلة المتعلقة بذوات المكلفين ، أردف ذلك بالكلام عن الأدلة الكونية فقال تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } . أي : أنه خلق جميع ما في الأرض من نحو الحيوان والنبات والمعادن والجبال من أجلكم ، فهو المنعم عليكم لتنتفعوا بها في دنياكم ، وتستعينوا بها على طاعته .

وقد أخذ العلماء من هذه الآية شاهداً على أن الأشياء التي فيها منافع مأذون فيها حتى يقوم دليل على حرمتها .

ثم استدل - سبحانه - على مظاهر قدرته بخلق السموات فقال : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم } .

استوى إلى السماء : أقبل وعمد إليها بإرادته . وتسويتها معناه : تعديل خلقها وتقويمه .

والسماء ليس المراد منها فردا من أفراد السموات ، وإنما المراد منها الأجرام العلوية الشاملة لجميع السموات ، فصح أن يعود عليها ضمير جمع الإِناث في قوله : { فَسَوَّاهُنَّ } ، وكذلك علماء البيان يزيدون أن اللفظ إذا أريد منه جنس ما وضع له صار في معنى الجمع . فمعنى { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء } علا إليها وارتفع ، من غير تكييف ولا تحديد ولا تشبيه ، مع كمال التنزيه عن سمات المحدثات ، وقد سئل الإِمام مالك عن الاستواء على العرش فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

وقدم الأرض هنا لأنها أدل لشدة المسلابسة والمباشرة .

وجملة { ثُمَّ استوى } معطوفة على جملة { خَلَقَ لَكُمْ } ، وكان العطف بثم لعظم خلق السماء عن خلق الأرض .

وعبر بسواهن للإِشعار بأنه - سبحانه - خلقهن في استقامة ، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا اضطراب . قال - تعالى - : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } وجملة { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } مقررة لما ذكر قبلها من خلق السموات والأرض وما فيهما على هذه الصورة الحكيمة ، فقد دلت على أن ترتيب أجزاء تلك المصنوعات وموافقة جميعها للمنافع المقصودة منها ، إنما حدث عن عالم بحقائق تلك الأجزاء وخواصها ، ولإِِحاطته بكل شيء علماً وضع كل جزء في موضعه اللائق به .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

1

ثم يعقب السياق بومضة أخرى مكملة للومضة الأولى :

( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ؛ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ؛ وهو بكل شيء عليم ) . .

ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء ، يتحدثون عن القبلية والبعدية . ويتحدثون عن الاستواء والتسوية . . وينسون أن " قبل وبعد " اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى ؛ وينسون أن الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود . . ولا يزيدان . . وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية ، إلا آفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى ، عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية ، وللعقلية الإسلامية الناصعة . . وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة ، فنفسد جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام ! !

فلنخلص إذن إلى ما وراء هذه التعبيرات من حقائق موحية عن خلق ما في الأرض جميعا للإنسان ، ودلالة هذه الحقيقة على غاية الوجود الإنساني ، وعلى دوره العظيم في الأرض ، وعلى قيمته في ميزان الله ، وما وراء هذا كله من تقرير قيمة الإنسان في التصور الإسلامي ؛ وفي نظام المجتمع الإسلامي . .

( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) . .

إن كلمة( لكم )هنا ذات مدلول عميق وذات إيحاء كذلك عميق . إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان لأمر عظيم . خلقه ليكون مستخلفا في الأرض ، مالكا لما فيها ، فاعلا مؤثرا فيها . إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض ؛ والسيد الأول في هذا الميراث الواسع . ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول ؛ إنه سيد الأرض وسيد الآلة ! إنه ليس عبدا للآلة كما هو في العالم المادي اليوم . وليس تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي أنصار المادية المطموسون ، الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه ، فيجعلونه تابعا للآلة الصماء وهو السيد الكريم ! وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان ، ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه ؛ وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان ، مهما يحقق من مزايا مادية ، هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني . فكرامة الإنسان أولا ، واستعلاء الإنسان أولا ، ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة .

والنعمة التي يمتن الله بها على الناس هنا - وهو يستنكر كفرهم به - ليست مجرد الإنعام عليهم بما في الأرض جميعا ، ولكنها - إلى ذلك - سيادتهم على ما في الأرض جميعا ، ومنحهم قيمة أعلى من قيم الماديات التي تحويها الأرض جميعا . هي نعمة الاستخلاف والتكريم فوق نعمة الملك والانتفاع العظيم .

( ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ) . .

ولا مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز السيطرة ، والقصد بإرادة الخلق والتكوين . كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع المقصودة هنا وتحديد أشكالها وأبعادها . اكتفاء بالقصد الكلي من هذا النص ، وهو التسوية للكون أرضه وسمائه في معرض استنكار كفر الناس بالخالق المهيمن المسيطر على الكون ، الذي سخر لهم الأرض بما فيها ، ونسق السماوات بما يجعل الحياة على الأرض ممكنة مريحة .

( وهو بكل شيء عليم ) . .

بما أنه الخالق لكل شيء ، المدبر لكل شيء . وشمول العلم في هذا المقام كشمول التدبير . حافز من حوافز الإيمان بالخالق الواحد ، والتوجه بالعبادة للمدبر الواحد ، وإفراد الرازق المنعم بالعبادة اعترافا بالجميل .

وهكذا تنتهي الجولة الأولى في السورة . . وكلها تركيز على الإيمان ، والدعوة إلى اختيار موكب المؤمنين المتقين . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

لما ذكر تعالى دلالةً مِنْ خَلْقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ، ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه مِنْ خَلْق السماوات والأرض ، فقال : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } أي : قصد إلى السماء ، والاستواء هاهنا تَضَمَّن{[1457]} معنى القصد والإقبال ؛ لأنه عدي بإلى { فَسَوَّاهُنَّ } أي : فخلق السماء سبعًا ، والسماء هاهنا اسم جنس ، فلهذا قال : { فَسَوَّاهُنَّ } . { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : وعلمه محيط بجميع ما خلق{[1458]} . كما قال : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [ الملك : 14 ] وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت : 9 - 12 ] .

ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعًا ، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك ، وقد صرح المفسرون بذلك ، كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله . فأما قوله تعالى : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [ النازعات : 27 - 32 ] فقد قيل : إن { ثُمَّ } هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر ، لا لعطف الفعل على الفعل ، كما قال الشاعر :

قل لمن ساد ثم ساد أبوه *** ثم قد ساد قبل ذلك جده{[1459]}

وقيل : إن الدَّحْىَ كان بعد خلق السماوات ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس .

وقد قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك - وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مُرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ] {[1460]} } قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء . فلما أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من الماء دخانًا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماء . ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين ، فخلق الأرض على حوت ، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن : { ن وَالْقَلَمِ{[1461]} } والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر مَلَك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكر{[1462]} لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض ، فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فَقَرّت ، فالجبال تفخر على الأرض ، فذلك قوله تعالى : { وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ{[1463]} } [ النحل : 15 ] . وخلق الجبال فيها ، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا } [ فصلت : 9 ، 10 ] . يقول : أنبت شجرها { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } يقول : أقواتها لأهلها { فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ } [ فصلت : 10 ] يقول : من سأل فهكذا الأمر . { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [ فصلت : 11 ] وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين ، في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض ، { وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } [ فضلت : 12 ] قال : خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي{[1464]} فيها ، من البحار وجبال البَرَد وما لا نعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظًا{[1465]} تُحْفَظُ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش ، فذلك حين يقول : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] ويقول { كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } [ الأنبياء : 30 ] .

وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السماوات في الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر{[1466]} ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عَجَل ، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة .

وقال مجاهد في قوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا } قال : خلق الله الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } قال : بعضهن فوق بعض ، وسبع أرضين ، يعني بعضهن تحت بعض .

وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء ، كما قال في آية السجدة : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ فصلت : 9 - 12 ] فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء ، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة : أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض ، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } [ النازعات : 27 - 31 ] قالوا : فذكر خلق السماء قبل الأرض . وفي صحيح البخاري{[1467]} : أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه ، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء ، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا ، وقد قررنا ذلك في تفسير سورة النازعات ، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله : { وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [ النازعات : 30 - 32 ] ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة إلى الفعل لما اكتملت صورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض ، فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه ، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها ، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسير هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير - أيضًا - من رواية ابن جُرَيج قال : أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : " خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل " {[1468]} .

وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم ، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ ، وجعلوه من كلام كعب ، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار ، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه{[1469]} مرفوعا ، وقد حرر ذلك البيهقي{[1470]} .


[1457]:في جـ، ط: "مضمن".
[1458]:في جـ: "وعلمه محيط بجميع الخلق"، وفي ط: "وعلمه محيط بالأشياء بجميع ما خلق".
[1459]:البيت في مغني اللبيب لابن هشام غير منسوب. أ. هـ. مستفادا من حاشية الشعب.
[1460]:زيادة من جـ.
[1461]:في جـ: "والقلم وما يسطرون".
[1462]:في ب: "ذكرها"
[1463]:في جـ: "وجعل لها رواسي من فوقها أن تميد بكم"، وفي ط: "وجعل لها رواسي أن تميد بكم"، وفي ب: "وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بكم".
[1464]:في جـ، ط: "الذين".
[1465]:في أ: "وحفظها".
[1466]:في جـ: "وأخر".
[1467]:صحيح البخاري (8/555) "فتح".
[1468]:تفسير ابن أبي حاتم (1/103) وصحيح مسلم برقم (2789) وسنن النسائي الكبرى برقم (11010).
[1469]:في جـ، ط، ب: "فجعله".
[1470]:الأسماء والصفات (ص276) وللعلامة عبد الرحمن المعلمي كلام متين في تصحيح هذا الحديث ورد الشبه عنه في كتابه "الأنوار الكاشفة" (ص185 - 190) فليراجع فإنه مهم.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ} (29)

تأويل قوله تعالى : { هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا ، لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع . أما في الدين فدليل على وحدانية ربهم ، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه فلذلك قال جل ذكره : هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا . وقوله : «هو » مكنى من اسم الله جل ذكره ، عائد على اسمه في قوله : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ . ومعنى خلقه ما خلق جل ثناؤه : إنشاؤه عينه ، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود . و«ما » بمعنى «الذي » . فمعنى الكلام إذا : كيف تكفرون بالله وقد كنتم نطفا في أصلاب آبائكم ، فجعلكم بشرا أحياء ، ثم يميتكم ، ثم هو محييكم بعد ذلك ، وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب ، وهو المنعم عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم . و«كيف » بمعنى التعجب والتوبيخ لا بمعنى الاستفهام ، كأنه قال : ويحكم كيف تكفرون بالله ، كما قال : فأين تذهبون . وحل قوله : وكُنْتُمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ محلّ الحال ، وفيه إضمار «قد » ، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها . وذلك أن «فعل » إذا حلت محلّ الحال كان معلوما أنها مقتضية «قد » ، كما قال جل ثناؤه : أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ بمعنى : قد حصرت صدورهم . وكما تقول للرجل : أصبحت كثرت ماشيتك ، تريد : قد كثرت ماشيتك .

وبنحو الذي قلنا في قوله : هوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا كان قتادة يقول :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا نعم والله سخر لكم ما في الأرض .

القول في تأويل قوله تعالى : ثُم اسْتَوَى إلى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ .

قال أبو جعفر : اختلف في تأويل قوله : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ فقال بعضهم : معنى استوى إلى السماء ، أقبل عليها ، كما تقول : كان فلان مقبلاً على فلان ثم استوى عليّ يشاتمني واستوى إليّ يشاتمني ، بمعنى : أقبل عليّ وإليّ يشاتمني . واستشهد على أن الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر :

أقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنا شَرَوْرَى سَوَامِدَ وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضّجُوعِ

فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع ، وكان ذلك عنده بمعنى أقبلن . وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ ، وإنما معنى قوله : «واستوين من الضجوع » عندي : استوين على الطريق من الضجوع خارجات ، بمعنى استقمن عليه .

وقال بعضهم : لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوّل ، ولكنه بمعنى فعله ، كما تقول : كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ثم تحوّل إلى الشام ، إنما يريد تحوّل فعله .

وقال بعضهم : قوله ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ يعني به : استوت ، كما قال الشاعر :

أقُولُ لَهُ لَمّا اسْتَوَى في تُرَابِهِ على أيّ دِينٍ قَتّلَ الناسَ مُصْعَبُ

وقال بعضهم : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ : عمد إليها . وقال : بل كل تارك عملاً كان فيه إلى آخره فهو مستو لما عمد ومستو إليه .

وقال بعضهم : الاستواء : هو العلوّ ، والعلوّ : هو الارتفاع .

وممن قال ذلك الربيع بن أنس .

حدثت بذلك عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ يقول : ارتفع إلى السماء .

ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع في الذي استوى إلى السماء ، فقال بعضهم : الذي استوى إلى السماء وعلا عليها : هو خالقها ومنشئها .

وقال بعضهم : بل العالي إليها الدخان الذي جعله الله للأرض سماء .

قال أبو جعفر : الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه : منها انتهاء شباب الرجل وقوّته ، فيقال إذا صار كذلك : قد استوى الرجل ، ومنها استقامة ما كان فيه أَوَدٌ من الأمور والأسباب ، يقال منه : استوى لفلان أمره : إذا استقام له بعد أود . ومنه قول الطرماح بن حكيم :

طالَ على رَسْمٍ مَهْدَدٍ أبَدُهْ *** وعَفا واسْتَوَى بِهِ بَلَدُهْ

يعني : استقام به .

ومنها الإقبال على الشيء بالفعل ، كما يقال : استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوءه بعد الإحسان إليه . ومنها الاحتياز والاستيلاء كقولهم : استوى فلان على المملكة ، بمعنى احتوى عليها وحازها . ومنها العلوّ والارتفاع ، كقول القائل : استوى فلان على سريره ، يعني به علوّه عليه .

وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه : ثُمّ اسْتَوَى إلى السماءِ فَسَوّاهُنْ علا عليهنّ وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهنّ سبع سموات .

والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ الذي هو بمعنى العلوّ والارتفاع هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها ، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر ، ثم لم ينج مما هرب منه . فيقال له : زعمت أن تأويل قوله : اسْتَوَى أقْبَلَ ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها ؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير ، قيل له : فكذلك فقل : علا عليها علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال . ثم لن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله ، ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولاً لقول أهل الحقّ فيه مخالفا ، وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إنه شاء الله تعالى .

قال أبو جعفر : وإن قال لنا قائل : أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء ، كان قبل خلق السماء أم بعده ؟ قيل : بعده ، وقبل أن يسوّيهنّ سبع سموات ، كما قال جل ثناؤه : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها والاستواء كان بعد أن خلقها دخانا ، وقبل أن يسوّيها سبع سموات .

وقال بعضهم : إنما قال استوى إلى السماء ولا سماء ، كقول الرجل لاَخر : «اعمل هذا الثوب » وإنما معه غزلٌ . وأما قوله فَسَوّاهُنّ فإنه يعني هيأهنّ وخلقهنّ ودبرهنّ وقوّمهنّ ، والتسوية في كلام العرب : التقويم والإصلاح والتوطئة ، كما يقال : سوّى فلان لفلان هذا الأمر : إذا قوّمه وأصلحه ووطأه له . فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته : تقويمه إياهن على مشيئته ، وتدبيره لهن على إرادته ، وتفتيقهن بعد ارتاقهن كما :

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ يقول : سوى خلقهن وهو بكل شيء عليم .

وقال جل ذكره : فَسَوّاهُنّ فأخرج مكنيّهن مخرج مكنى الجمع . وقد قال قبل : ثم استوى إلى السماء فأخرجها على تقدير الواحد . وإنما أخرج مكنيهن مخرج مكنيّ الجمع . لأن السماء جمع واحدها سماوة ، فتقدير واحدتها وجمعها إذا تقدير بقرة وبقر ، ونخلة ونخل وما أشبه ذلك ولذلك أُنّثَتْ مرة ، فقيل : هذه سماء ، وذُكّرتْ أخرى فقيل : السماء منفطر به كما يفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحدة غير دخول الهاء وخروجها ، فيقال : هذا بقر وهذه بقر ، وهذا نخل وهذه نخل ، وما أشبه ذلك . وكان بعض أهل العربية يزعم أن السماء واحدة ، غير أنها تدلّ على السموات ، فقيل : فَسَوّاهُنّ يراد بذلك التي ذكرت ، وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تذكر معها . قال : وإنما تذكّر إذا ذكّرت وهي مؤنثة ، فيقال : السماء منفطر به كما يذكر المؤنث ، وكما قال الشاعر :

فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها *** ولا أرْضٌ أبْقَلَ إبْقَالَهَا

وكما قال أعشى بني ثعلبة :

فإمّا تَرَيْ لِمّتِي بُدّلَت *** ْفإنّ الحَوَادِثَ أزْرَى بِهَا

وقال بعضهم : السماء وإن كانت سماء فوق سماء ، وأرضا فوق أرض ، فهي في التأويل واحدة إن شئت ، ثم تكون تلك الواحدة جماعا ، كما يقال : ثوب أخلاق وأسمال ، وبرمة أعشار للمتكسرة ، وبرمة أكسار وأجبار ، وأخلاق : أي أن نواحيه أخلاق .

فإن قال لنا قائل : فإنك قد قلت : إن الله جل ثناؤه استوى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسوّيها سبع سموات ، ثم سوّاها سبعا بعد استوائه إليها ، فكيف زعمت أنها جماع ؟ قيل : إنهنّ كنّ سبعا غير مستويات ، فلذلك قال جلّ ذكره : فسوّاهنّ سبعا : كما :

حدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : قال محمد بن إسحاق : كان أوّل ما خلق الله تبارك وتعالى : النور والظلمة ، ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلما ، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا ، ثم سمك السموات السبع من دخان يقال والله أعلم من دخان الماء حتى استقللن ولم يحبكهن ، وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها وأخرج ضحاها ، فجرى فيها الليل والنهار ، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم ، ثم دحى الأرض ، وأرساها بالجبال ، وقدّر فيها الأقوات ، وبثّ فيها ما أراد من الخلق ، ففرغ من الأرض وما قدّر فيها من أقواتها في أربعة أيام . ثم استوى إلى السماء وهي دخان كما قال فحبكهن ، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها ، وأوحى في كل سماء أمرها ، فأكمل خلقهنّ في يومين . ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته ، ثم قال للسموات والأرض : ائْتِيا طَوْعا أوْ كَرْها لما أردت بكما ، فاطمئنا عليه طوعا أو كرها ، قَالتَا : أتَيْنا طائِعِينَ .

فقد أخبر ابن إسحاق أن الله جل ثناؤه استوى إلى السماء بعد خلقه الأرض وما فيها وهنّ سبع من دخان ، فسوّاهنّ كما وصف . وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق لأنه أوضح بيانا عن خبر السموات أنهنّ كنّ سبعا من دخان قبل استواء ربنا إليها بتسويتها من غيره ، وأحسن شرحا لما أردنا الاستدلال به من أن معنى السماء التي قال الله فيها : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّماءِ بمعنى الجمع على ما وصفنا ، وأنه إنما قال جل ثناؤه : فسوّاهنّ إذ كانت السماء بمعنى الجمع على ما بينا .

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله : فسَوّاهُنّ إذ كن قد خلقن سبعا قبل تسويته إياهن ؟ وما وجه ذكر خلقهن بعد ذكر خلق الأرض ، ألأنها خلقت قبلها ، أم بمعنى غير ذلك ؟ قيل : قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق ، ونزيد ذلك توكيدا بما انضمّ إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم .

فحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ثُم اسْتَوَى إلى السماء فَسَواهُن سَبْعَ سَمَواتٍ قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماءً ، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين ، فخلق الأرض على حوت ، والحوت هو النون الذي ذكره الله في القرآن : ن والقَلَم والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض . فتحرّك الحوت فاضطرب ، فتزلزت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فقرّت ، فالجبال تفخر على الأرض ، فذلك قوله : وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : أئِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ أَلارْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدَادا ذَلِكَ رَبّ العَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيها يقول : أنبت شجرها وَقَدّرَ فِيها أقْواتها يقول أقواتها لأهلها في أرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواء للسّائِلِينَ يقول : قل لمن يسألك هكذا الأمر ثمّ اسْتَوى إلَى السّماءِ وَهِيَ دُخانٌ وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض وأوْحَى في كُل سماءٍ أمْرَها قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها ، من البحار وجبال البَرَدِ وما لا يعلم . ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحبّ استوى على العرش ، فذلك حين يقول : خلق السموات والأرض في ستة أيام يقول : كانَتا رَتْقا فَفَتَقْناهُما .

وحدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : هُوَ الّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ قال : خلق الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : ثُمّ اسْتَوَى إلى السّمَاءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ قال : بعضهنّ فوق بعض ، وسبع أرضين بعضهنّ تحت بعض .

وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَواتٍ قال : بعضهنّ فوق بعض ، بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام .

وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء ، ثم ذكر السماء قبل الأرض ، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ، ثم استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، فذلك قوله : وَالأرْضَ بَعْدَ ذلكَ دَحاها .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني أبو معشر ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات في الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عجل فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة .

قال أبو جعفر : فمعنى الكلام إذا : هو الذي أنعم عليكم ، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخره لكم تفضلاً منه بذلك عليكم ، ليكون لكم بلاغا في دنياكم ، ومتاعا إلى موافاة آجالكم ، ودليلاً لكم على وحدانية ربكم . ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان ، فسوّاهن وحبكهن ، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه ، وقدّر في كل واحدة منهنّ ما قدّر من خلقه .

القول في تأويل قوله تعالى : وهُوَ بِكُلّ شيْءٍ عَلِيمٌ .

يعني بقوله جلّ جلاله : وهو نفسه ، وبقوله : بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ : أن الذي خلقكم وخلق لكم ما في الأرض جميعا ، وسّوى السموات السبع بما فيهن ، فأحكمهن من دخان الماء وأتقن صنعهن ، لا يخفى عليه أيها المنافقون والملحدون الكافرُونَ به من أهل الكتاب ، ما تبدون وما تكتمون في أنفسكم ، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم : آمَنّا بِاللّهِ وباليَوْمِ الاَخِرِ وهم على التكذيب به منطوون . وكذبت أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور وهم بصحته عارفون ، وجحدوا وكتموا ما قد أخذت عليهم ببيانه لخلقي من أمر محمد ونبوّته المواثيق ، وهم به عالمون بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم ، وأمور غيركم ، إني بكل شيء عليم . وقوله : عَلِيمٌ بمعنى عالم . ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول : هو الذي قد كمل في علمه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، قال : حدثني عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : العالم الذي قد كمل في علمه .