{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ }
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ممتنا عليه : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } أي : الخير الكثير ، والفضل الغزير ، الذي من جملته ما يعطيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، من النهر الذي يقال له : { الكوثر } ، ومن الحوض{[1485]} طوله شهر ، وعرضه شهر ، ماؤه أشد بياضًا من اللبن ، وأحلى من العسل ، آنيته كنجوم{[1486]} السماء في كثرتها واستنارتها ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا .
سورة " الكوثر " وتسمى –أيضاً- سورة " النحر " ، تعتبر أقصر سورة في القرآن الكريم ، وهي من السور المكية عند الجمهور ، وقيل : مدنية .
قال بعض العلماء : والأظهر أن هذه السورة مدنية ، وعلى هذا سنسير في تفسير آياتها ، وعلى القول بأنها مكية عددها الخامسة عشرة ، في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة " العاديات " ، وقيل : سورة " التكاثر " ، وعلى القول بأنها مدنية ، فقد قيل : إنها نزلت في الحديبية . وعدد آياتها ثلاث آيات بالاتفاق( {[1]} ) .
الكوثر : فَوْعل من الكثرة ، مثل النَّوْفل من النفل ، ومعناه : الشيء البالغ فى الكثرة حد الإِفراط ، والعرب تسمى كل شيء كثر عدده ، وعظم شأنه : كوثرا ، وقد قيل لأعرابية بعد رجوع ابنها من سفر : بم آب ابنك ؟ قالت : آب بكوثر . أي : بشيء كثير .
قال الإِمام القرطبى ما ملخصه : واختلف أهل التأويل فى الكوثر الذى أعطيه النبى صلى الله عليه وسلم على ستة عشر قولاً : الأول : أنه نهر فى الجنة ، رواه البخارى عن أنس ، ورواه الترمذى - أيضاً - عن ابن عمر . . الثانى : أنه حوض للنبى صلى الله عليه وسلم في الموقف . . الثالث : أنه النبوة والكتاب . . الرابع : أنه القرآن . . الخامس : الإِسلام .
ثم قال - رحمه الله - قلت : أصح هذه الأقوال الأول والثاني ؛ لأنه ثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم نص فى الكوثر . . وجميع ما قيل بعد ذلك فى تفسيره قد أعطيه صلى الله عليه وسلم زيادة على حوضه . . .
وافتتح - سبحانه - الكلام بحرف التأكيد ، للاهتمام بالخبر ، وللإِشعار بأن المعطى شيء عظيم . . أى : إنا أعطيناك بفضلنا وإحساننا - أيها الرسول الكريم - الكوثر ، أي : الخير الكثير الذي من جملته هذا النهر العظيم ، والحوض المطهر . . فأبشر بذلك أنت وأمتك ، ولا تلتفت إلى ما يقوله أعداؤك فى شأنك .
هذه السورة خالصة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كسورة الضحى ، وسورة الشرح . يسري عنه ربه فيها ، ويعده بالخير ، ويوعد أعداءه بالبتر ، ويوجهه إلى طريق الشكر .
ومن ثم فهي تمثل صورة من حياة الدعوة ، وحياة الداعية في أول العهد بمكة . صورة من الكيد والأذى للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوة الله التي يبشر بها ؛ وصورة من رعاية الله المباشرة لعبده وللقلة المؤمنة معه ؛ ومن تثبيت الله وتطمينه وجميل وعده لنبيه ومرهوب وعيده لشانئه .
كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان . وحقيقة الضلال والشر والكفران . . الأولى كثرة وفيض وامتداد . والثانية قلة وانحسار وانبتار . وإن ظن الغافلون غير هذا وذاك . .
ورد أن سفهاء قريش ممن كانوا يتابعون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوته بالكيد والمكر وإظهار السخرية والاستهزاء . ليصرفوا جمهرة الناس عن الاستماع للحق الذي جاءهم به من عند الله ، من أمثال العاص ابن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل ، وغيرهم ، كانوا يقولون عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إنه أبتر . يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده . وقال أحدهم : دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره !
وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعا . وتجد هذه الوخزة الهابطة من يهش لها من أعداء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وشانئيه ، ولعلها أوجعت قلبه الشريف ومسته بالغم أيضا .
ومن ثم نزلت هذه السورة تمسح على قلبه [ صلى الله عليه وسلم ] بالروح والندى ، وتقرر حقيقة الخير الباقي الممتد الذي اختاره له ربه ؛ وحقيقة الانقطاع والبتر المقدر لأعدائه .
( إنا أعطيناك الكوثر ) . . والكوثر صيغة من الكثرة . . وهو مطلق غير محدود . يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء . . إنا أعطيناك ما هو كثير فائض غزير . غير ممنوع ولا مبتور . . فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور .
هو واجده في النبوة . في هذا الاتصال بالحق الكبير ، والوجود الكبير . الوجود الذي لا وجود غيره ولا شيء في الحقيقة سواه . وماذا فقد من وجد الله ?
وهو واجده في هذا القرآن الذي نزل عليه . وسورة واحدة منه كوثر لا نهاية لكثرته ، وينبوع ثر لا نهاية لفيضه وغزارته !
وهو واجده في الملأ الأعلى الذي يصلي عليه ، ويصلي على من يصلي عليه في الأرض ، حيث يقترن اسمه باسم الله في الأرض والسماء .
وهو واجده في سنته الممتدة على مدار القرون ، في أرجاء الأرض . وفي الملايين بعد الملايين السائرة على أثره ، وملايين الملايين من الألسنة والشفاه الهاتفة باسمه ، وملايين الملايين من القلوب المحبة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة .
وهو واجده في الخير الكثير الذي فاض على البشرية في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه . سواء من عرفوا هذا الخير فآمنوا به ، ومن لم يعرفوه ولكنه فاض عليهم فيما فاض !
وهو واجده في مظاهر شتى ، محاولة إحصائها ضرب من تقليلها وتصغيرها !
إنه الكوثر ، الذي لا نهاية لفيضه ، ولا إحصاء لعوارفه ، ولا حد لمدلوله . ومن ثم تركه النص بلا تحديد ، يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد . .
وقد وردت روايات من طرق كثيرة أن الكوثر نهر في الجنة أوتيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولكن ابن عباس أجاب بأن هذا النهر هو من بين الخير الكثير الذي أوتيه الرسول . فهو كوثر من الكوثر ! وهذا هو الأنسب في هذا السياق وفي هذه الملابسات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.