{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } أي : خلق لكم ، برا بكم ورحمة ، جميع ما على الأرض ، للانتفاع والاستمتاع والاعتبار .
وفي هذه الآية العظيمة{[83]} دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة ، لأنها سيقت في معرض الامتنان ، يخرج بذلك الخبائث ، فإن [ تحريمها أيضا ] يؤخذ من فحوى الآية ، ومعرفة المقصود منها ، وأنه خلقها لنفعنا ، فما فيه ضرر ، فهو خارج من ذلك ، ومن تمام نعمته ، منعنا من الخبائث ، تنزيها لنا .
وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
{ اسْتَوَى } ترد في القرآن على ثلاثة معاني : فتارة لا تعدى بالحرف ، فيكون معناها ، الكمال والتمام ، كما في قوله عن موسى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } وتارة تكون بمعنى " علا " و " ارتفع " وذلك إذا عديت ب " على " كما في قوله تعالى : { ثم استوى على العرش }{[84]} { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } وتارة تكون بمعنى " قصد " كما إذا عديت ب " إلى " كما في هذه الآية ، أي : لما خلق تعالى الأرض ، قصد إلى خلق السماوات { فسواهن سبع سماوات } فخلقها وأحكمها ، وأتقنها ، { وهو بكل شيء عليم } ف { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها } و { يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } يعلم السر وأخفى .
وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية ، وكما في قوله تعالى : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } لأن خلقه للمخلوقات ، أدل دليل على علمه ، وحكمته ، وقدرته .
وبعد أن ذكر - سبحانه - ما يشهد بقدرته ووحدانيته عن طريق الأدلة المتعلقة بذوات المكلفين ، أردف ذلك بالكلام عن الأدلة الكونية فقال تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } . أي : أنه خلق جميع ما في الأرض من نحو الحيوان والنبات والمعادن والجبال من أجلكم ، فهو المنعم عليكم لتنتفعوا بها في دنياكم ، وتستعينوا بها على طاعته .
وقد أخذ العلماء من هذه الآية شاهداً على أن الأشياء التي فيها منافع مأذون فيها حتى يقوم دليل على حرمتها .
ثم استدل - سبحانه - على مظاهر قدرته بخلق السموات فقال : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم } .
استوى إلى السماء : أقبل وعمد إليها بإرادته . وتسويتها معناه : تعديل خلقها وتقويمه .
والسماء ليس المراد منها فردا من أفراد السموات ، وإنما المراد منها الأجرام العلوية الشاملة لجميع السموات ، فصح أن يعود عليها ضمير جمع الإِناث في قوله : { فَسَوَّاهُنَّ } ، وكذلك علماء البيان يزيدون أن اللفظ إذا أريد منه جنس ما وضع له صار في معنى الجمع . فمعنى { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء } علا إليها وارتفع ، من غير تكييف ولا تحديد ولا تشبيه ، مع كمال التنزيه عن سمات المحدثات ، وقد سئل الإِمام مالك عن الاستواء على العرش فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
وقدم الأرض هنا لأنها أدل لشدة المسلابسة والمباشرة .
وجملة { ثُمَّ استوى } معطوفة على جملة { خَلَقَ لَكُمْ } ، وكان العطف بثم لعظم خلق السماء عن خلق الأرض .
وعبر بسواهن للإِشعار بأنه - سبحانه - خلقهن في استقامة ، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا اضطراب . قال - تعالى - : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } وجملة { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } مقررة لما ذكر قبلها من خلق السموات والأرض وما فيهما على هذه الصورة الحكيمة ، فقد دلت على أن ترتيب أجزاء تلك المصنوعات وموافقة جميعها للمنافع المقصودة منها ، إنما حدث عن عالم بحقائق تلك الأجزاء وخواصها ، ولإِِحاطته بكل شيء علماً وضع كل جزء في موضعه اللائق به .
ثم يعقب السياق بومضة أخرى مكملة للومضة الأولى :
( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ؛ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ؛ وهو بكل شيء عليم ) . .
ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء ، يتحدثون عن القبلية والبعدية . ويتحدثون عن الاستواء والتسوية . . وينسون أن " قبل وبعد " اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى ؛ وينسون أن الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود . . ولا يزيدان . . وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية ، إلا آفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى ، عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية ، وللعقلية الإسلامية الناصعة . . وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة ، فنفسد جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام ! !
فلنخلص إذن إلى ما وراء هذه التعبيرات من حقائق موحية عن خلق ما في الأرض جميعا للإنسان ، ودلالة هذه الحقيقة على غاية الوجود الإنساني ، وعلى دوره العظيم في الأرض ، وعلى قيمته في ميزان الله ، وما وراء هذا كله من تقرير قيمة الإنسان في التصور الإسلامي ؛ وفي نظام المجتمع الإسلامي . .
( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) . .
إن كلمة( لكم )هنا ذات مدلول عميق وذات إيحاء كذلك عميق . إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان لأمر عظيم . خلقه ليكون مستخلفا في الأرض ، مالكا لما فيها ، فاعلا مؤثرا فيها . إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض ؛ والسيد الأول في هذا الميراث الواسع . ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول ؛ إنه سيد الأرض وسيد الآلة ! إنه ليس عبدا للآلة كما هو في العالم المادي اليوم . وليس تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي أنصار المادية المطموسون ، الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه ، فيجعلونه تابعا للآلة الصماء وهو السيد الكريم ! وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان ، ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه ؛ وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان ، مهما يحقق من مزايا مادية ، هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني . فكرامة الإنسان أولا ، واستعلاء الإنسان أولا ، ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة .
والنعمة التي يمتن الله بها على الناس هنا - وهو يستنكر كفرهم به - ليست مجرد الإنعام عليهم بما في الأرض جميعا ، ولكنها - إلى ذلك - سيادتهم على ما في الأرض جميعا ، ومنحهم قيمة أعلى من قيم الماديات التي تحويها الأرض جميعا . هي نعمة الاستخلاف والتكريم فوق نعمة الملك والانتفاع العظيم .
( ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ) . .
ولا مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز السيطرة ، والقصد بإرادة الخلق والتكوين . كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع المقصودة هنا وتحديد أشكالها وأبعادها . اكتفاء بالقصد الكلي من هذا النص ، وهو التسوية للكون أرضه وسمائه في معرض استنكار كفر الناس بالخالق المهيمن المسيطر على الكون ، الذي سخر لهم الأرض بما فيها ، ونسق السماوات بما يجعل الحياة على الأرض ممكنة مريحة .
بما أنه الخالق لكل شيء ، المدبر لكل شيء . وشمول العلم في هذا المقام كشمول التدبير . حافز من حوافز الإيمان بالخالق الواحد ، والتوجه بالعبادة للمدبر الواحد ، وإفراد الرازق المنعم بالعبادة اعترافا بالجميل .
وهكذا تنتهي الجولة الأولى في السورة . . وكلها تركيز على الإيمان ، والدعوة إلى اختيار موكب المؤمنين المتقين . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.