{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }
يخاطب الله الناس كافة ، بأن يتقوا ربهم ، الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فحقيق بهم أن يتقوه ، بترك الشرك والفسوق والعصيان ، ويمتثلوا أوامره ، مهما استطاعوا .
ثم ذكر ما يعينهم على التقوى ، ويحذرهم من تركها ، وهو الإخبار بأهوال القيامة ، فقال :
{ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } لا يقدر قدره ، ولا يبلغ كنهه ، ذلك بأنها إذا وقعت الساعة ، رجفت الأرض وارتجت ، وزلزلت زلزالها ، وتصدعت الجبال ، واندكت ، وكانت كثيبا مهيلا ، ثم كانت هباء منبثا ، ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج .
فهناك تنفطر السماء ، وتكور الشمس والقمر ، وتنتثر النجوم ، ويكون من القلاقل والبلابل ما تنصدع له القلوب ، وتجل منه الأفئدة ، وتشيب منه الولدان ، وتذوب له الصم الصلاب ، ولهذا قال : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، ومن والاه .
أما بعد : فهذا تفسير لسورة " الحج " نسأل الله –تعالى- أن يجعله خالصاً لوجهه ، ونافعاً لعباده ، إنه –سبحانه- أكرم مسئول ، وأعظم مأمول .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
1- سورة الحج هي السورة الثانية والعشرون في ترتيب المصحف ، وعدد آياتها ثمان وتسعون آية في المصحف الكوفي ، وسبع وتسعون في المكي وخمس وتسعون في البصري ، وأربع وتسعون في الشامي .
وسميت بسورة الحج ، لحديثها بشيء من التفصيل عن أحكام الحج .
2- ومن العلماء من يرى أنها من السور المكية ، ومنهم من يرى أنها من السور المدنية .
والحق أن سورة الحج من السور التي فيها آيات مكية ، وفيها آيات مدنية فمثلاً : الآيات التي تتحدث عن الإذن بالقتال ، من الواضح أنها آيات مدنية ، لأن القتال شرعه الله –تعالى- بالمدينة ، وكذلك الآيات التي تتحدث عن أحكام الحج ، لأن الحج فرض بعد الهجرة .
قال الآلوسي بعد أن ذكر العلماء في ذلك : " والأصح أن سورة الحج مختلطة " فيها آيات مدنية ، وفيها آيات مكية ، وإن اختلف في التعيين ، وهو قول الجمهور " ( {[1]} ) .
وقال بعض العلماء : " والذي يغلب على السورة هو موضوعات السور المكية وجو السور المكية . فموضوعات التوحيد ، والتخويف من الساعة ، وإثبات البعث ، وإنكار الشرك ، ومشاهد القيامة . وآيات الله المبثوثة في صفحات الكون . . بارزة في السورة . وإلى جوارها الموضوعات المدنية من الإذن بالقتال ، وحماية الشعائر ، والوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغي وهو يرد العدوان ، والأمر بالجهاد في سبيل الله " ( {[2]} ) .
3- وقد افتتحت السورة الكريمة افتتاحاً ترتجف له النفوس ، حيث تحدثت عن أهوال يوم القيامة ، وعن أحوال الناس فيه . . .
قال –تعالى- [ يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم . يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ] . . .
4- وبعد أن ساقت السورة الكريمة نماذج متنوعة لأحوال الناس في هذه الحياة ، وأقامت الأدلة على أن البعث حق . . . أتبعت ذلك ببشارة المؤمنين بما يشرح صدورهم .
قال –تعالى- [ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ، إن الله يفعل ما يريد ] .
ثم بينت السورة الكريمة أن كل شيء في هذا الكون يسجد لله –تعالى- وأن كثيرا من الناس ينال الثواب بسبب إيمانه وعمله الصالح ، وكثيراً منهم يصيبه العقاب بسبب كفره وفسوقه .
قال –تعالى- [ ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب ، وكثير من الناس ، وكثير حق عليه العذاب ، ومن يهن الله فما له من مكرم ، إن الله يفعل ما يشاء ] .
5- وبعد أن عقدت السورة الكريمة مقارنة بين خصمين اختصموا في ربهم ، وبينت عاقبة كل منهما . . . أتبعت ذلك بحديث مفصل عن فريضة الحج . فذكرت سوء عاقبة الكفارين الذين يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ، كما بينت أن الله –تعالى- قد أمر نبيه إبراهيم بأن يؤذن للناس بالحج ، لكي يشهدوا منافع لهم ، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ، كما بشرت الذين يعظمون حرمات الله بالخير وحسن الثواب ، ووصفت من يشرك بالله [ فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ] .
ثم ختمت حديثها عن فريضة الحج ببيان أن الهدي الذي يقدمه الحجاج هو من شعائر الله ، فعليهم أن يقدموه بإخلاص وسخاء ، وأن يشكروا الله –تعالى- على نعممه .
قال –تعالى- : [ والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير ، فاذكروا اسم الله عليها صواف ، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ، كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون* لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ، كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين ] .
6- ثم بينت السورة أن الله –تعالى- قد شرع لعباده المؤمنين الجهاد في سبيله ، وبشرهم بأنه معهم يدافع عنهم ، ويجعل العاقبة لهم . فقال –تعالى- [ إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، إن الله لا يحب كل خوان كفور* أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ] .
ثم أخذت السورة الكريمة في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه . . .
قال –تعالى- : [ وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود* وقوم إبراهيم وقوم لوط* وأصحاب مدين وكذب موسى ، فأمليت للكافرين ، ثم أخذتهم فكيف كان نكير ] .
ثم أمر الله –تعالى- رسوله بأن يمضي في طريقه دون أن يهتم بأذى المشركين . وأن يجابههم بكلمة الحق بدون خوف أو وجل ، فقال –تعالى- [ قل يأيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين* فاللذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم* والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم ] .
7- وبعد أن بين –سبحانه- مظاهر حكمته في هداية من اهتدى ، وفي ضلال من ضل ، أتبع ذلك بحديث مستفيض عن ألوان نعمه على خلقه ، فقال –تعالى- :
[ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ، إن الله لطيف خبير ] [ ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض ، والفلك تجري في البحر بأمره ، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، إن الله بالناس لرءوف رحيم* وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ، إن الإنسان لكفور ] .
8- ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة ، بنداءين : أحدهما : وجهه إلى الناس جميعاً ، وبين لهم فيه ، أن الذين يعبدونهم من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له .
والثاني : وجهه –سبحانه- إلى المؤمنين ، وأمرهم فيه بمداومة الركوع والسجود والعبادة له –عز وجل- وبالمواظبة على فعل الخير وعلى الجهاد في سبيله .
قال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون* وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج . ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ، وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس ، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ، ونعم النصير ] .
9- هذا : والمتأمل في هذه السورة الكريمة ، يرى أن من أبرز ما اهتمت بالحديث عنه ما يأتي :
( أ ) بيان أنواع الناس في هذه الحياة ، وعاقبة كل نوع ، ترى ذلك واضحاً في قوله –تعالى- :
[ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ، ويتبع كل شيطان مريد ] .
[ ومن الناس من يعبد الله على حرف ، فإن أصابه خير اطمأن به ، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ، خسر الدنيا والآخرة . . . ] .
ترى ذلك في قوله –تعالى- : [ يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة مختلفة وغير مختلفة ، لنبين لكم ، ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ، ثم نخرجكم طفلاً ، ثم لتبلغوا أشدكم ، ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً وترى الأرض هامدة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج* ذلك بأن الله هو الحق ، وأنه يحيي الموتى ، وأنه على كل شيء قدير* وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ] .
( ج ) الحديث المفصل عن فريضة الحج ، ومما اشتملت عليه هذه الفريضة من منافع وآداب وأحكام .
( د ) المقارنة بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين ، نرى ذلك في آيات كثيرة ، منها قوله –تعالى- : [ هذان خصمان اختصموا في ربهم . فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم ] .
[ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ] .
( ه ) بيان سنن الله في خلقه ، والتي من أعظمها : دفاعه عن المؤمنين ، ونصره لهم ، ترى ذلك في مثل قوله –تعالى- : [ إن الله يدافع عن الذين آمنوا ] [ ولينصرن الله من ينصره ، إن الله لقوي عزيز ] .
والتي من أعظمها –أيضاً- عدم إخلاف وعده ، قال –تعالى- : [ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده ، وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون* وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ] .
( و ) يمتاز أسلوب السورة –في مجموعه- بالقوة والعنف ، والشدة والرهبة ، والإنذار والتحذير ، وغرس التقوى في القلوب بأسلوب تخشع له النفوس . .
نرى ذلك في كثير من آياتها ، ومن ذلك ، قوله –تعالى- :
[ يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم* يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ] .
وقوله –تعالى- : [ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ] .
وقوله –تعالى- : [ . . . فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم* يصهر به ما في بطونهم والجلود* ولهم مقامع من حديد ] . .
وقوله –سبحانه- : [ فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة . فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد* أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ، أو آذان يسمعون بها ، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ] . .
وبجانب هذه الشدة في الأسلوب ، نرى في السورة –أيضاً- أسلوباً آخر فيه من اللين والرقة والبشارة للمؤمنين ما فيه ، ويكفيك قوله –تعالى- :
[ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ، يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير* وهدوا إلى الطيب من القول ، وهدوا إلى صراط الحميد ] .
نسأل الله –تعالى- أن يجعلنا من عباده المؤمنين الصادقين ، وأن يحشرنا معهم .
افتتحت سورة الحج بهذا النداء الموجه من الخالق - عز وجل - إلى الناس جميعاً ، يأمرهم فيه بامتثال أمره ، وباجتناب نهيه ، حتى يفوزوا برضاه يوم القيامة .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ } تعليل للأمر بالتقوى .
قال القرطبى : الزلزلة شدة الحركة ، ومنه قوله - تعالى - : { . . . وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله . . } وأصل الكلمة من زل فلان عن الموضع ، أى : زال عنه وتحرك ، وزلزل الله قدمه ، أى : حركها وهذه اللفظة تستعمل فى تهويل الشىء " .
وقال الآلوسى : " والزلزلة : التحريك الشديد ، والإزعاج العنيف ، بطريق التكرير ، بحيث يزيل الأشياء من مقارها ، ويخرجها من مراكزها .
وإضافتها إلى الساعة ، من إضافة المصدر إلى فاعله ، لكن على سبيل المجاز فى النسبة كما فى قوله - تعالى - : { بَلْ مَكْرُ الليل والنهار } لأن المحرك حقيقة هو الله - تعالى - ، والمفعول الأرض أو الناس ، أو من إضافته إلى المفعول ، لكن على إجرائه مجرى المفعول به اتساعاً كما فى قوله : " يا سارق الليلة أهل الدار . . " .
والمعنى : يأيها الناس اتقوا ربكم إتقاء تاماً ، بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما لا يرضيه ، وبأن تسارعوا إلى فعل ما يحبه ، لأن ما يحدث فى هذا الكون عند قيام الساعة ، شىء عظيم ، ترتجف لهوله القلوب ، وتخشع له النفوس .
وقال - سبحانه - : { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ } بصيغة الإجمال والإبهام لهذا الشىء العظيم ، لزيادة التهويل والتخويف .
تعريف بالحج هذه السورة مشتركة بين مكية ومدنية كما يبدو من دلالة آياتها . وعلى الأخص آيات الأذن بالقتال . وآيات العقاب بالمثل ، فهي مدنية قطعا . فالمسلمون لم يؤذن لهم في القتال والقصاص إلا بعد الهجرة . وبعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة . أما قبل ذلك فقد قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حين بايعه أهل يثرب ، وعرضوا عليه أن يميلوا على أهل منى من الكفار فيقتلوهم " إني لم أومر بهذا " . حتى إذا صارت المدينة دار إسلام شرع الله القتال لرد أذى المشركين عن المسلمين والدفاع عن حرية العقيدة ، وحرية العبادة للمؤمنين .
والذي يغلب على السورة هو موضوعات السور المكية ، وجو السور المكية . فموضوعات التوحيد والتخويف من الساعة ، وإثبات البعث ، وإنكار الشرك . ومشاهد القيامة ، وآيات الله المبثوثة في صفحات الكون . . بارزة في السورة وإلى جوارها الموضوعات المدنية من الإذن بالقتال ، وحماية الشعائر ، والوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغي وهو يرد العدوان ، والأمر بالجهاد في سبيل الله .
والظلال الواضحة في جو السورة كلها هي ظلال القوة والشدة والعنف والرهبة . والتحذير والترهيب واستجاشة مشاعر التقوى والوجل والاستسلام .
تبدو هذه الظلال في المشاهد والأمثال . .
فمشهد البعث مزلزل عنيف رهيب : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم . يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ) . .
وكذلك مشهد العذاب : ( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود ، ولهم مقامع من حديد ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها ، وذوقوا عذاب الحريق ) . .
ومثل الذي يشرك بالله : ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) . .
وحركة من ييأس من نصر الله : ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ، ثم ليقطع ، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) . .
ومشهد القرى المدمرة بظلمها : ( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة ، فهي خاوية على عروشها ، وبئر معطلة وقصر مشيد ) . .
تجتمع هذه المشاهد العنيفة المرهوبة إلى قوة الأوامر والتكاليف ، وتبرير الدفع بالقوة ، وتأكيد الوعد بالنصر والتمكين . إلى عرض الحديث عن قوة الله وضعف الشركاء المزعومين . .
ففي الأولى : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا . ولينصرن الله من ينصره . إن الله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر . ولله عاقبة الأمور ) . .
وفي الثانية : ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له . إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب . ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ) . .
ووراء هذا وذلك ، الدعوة إلى التقوى والوجل واستجاشة مشاعر الرهبة والاستسلام .
تبدأ بها السورة وتتناثر في ثناياها : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) . . ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) . . ( فإلهكم إله واحد ، فله أسلموا وبشر المخبتين . الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) . . ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) . .
ذلك إلى استعراض مشاهد الكون ، ومشاهد القيامة ، ومصارع الغابرين . والأمثلة والعبر والصور والتأملات لاستجاشة مشاعر الإيمان والتقوى والإخبات والاستسلام . . وهذا هو الظل الشائع في جو السورة كلها ، والذي يطبعها ويميزها .
ويجري سياق السورة في أربعة أشواط :
يبدأ الشوط الأول بالنداء العام . نداء الناس جميعا إلى تقوى الله ، وتخويفهم من زلزلة الساعة ، ووصف الهول المصاحب لها ، وهو هول عنيف مرهوب . ويعقب في ظل هذا الهول باستنكار الجدل في الله بغير علم ، واتباع كل شيطان محتوم على من يتبعه الضلال . ثم يعرض دلائل البعث من أطوار الحياة في جنين الإنسان ، وحياة النبات ؛ مسجلا تلك القربى بين أبناء الحياة ، ويربط بين تلك الأطوار المطردة الثابتة وبين أن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور . . وكلها سنن مطردة وحقائق ثابتة متصلة بناموس الوجود . . ثم يعود إلى استنكار الجدل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير بعد هذه الدلائل المستقرة في صلب الكون وفي نظام الوجود . وإلى استنكار بناء العقيدة على حساب الربح والخسارة ، والانحراف عن الاتجاه إلى الله عند وقوع الضراء ، والالتجاء إلى غير حماه ؛ واليأس من نصرة الله وعقباه . وينتهي هذا الشوط بتقرير أن الهدى والضلال بيد الله ، وأنه سيحكم بين أصحاب العقائد المختلفة يوم الحساب . . وهنا يعرض ذلك المشهد العنيف من مشاهد العذاب للكافرين ، وإلى جواره مشهد النعيم للمؤمنين .
ويتصل الشوط الثاني بنهاية الشوط الأول بالحديث عن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام . ويستنكر هذا الصد عن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس جميعا . يستوي في ذلك المقيمون به والطارئون عليه . . وبهذه المناسبة يذكر طرفا من قصة بناء البيت ، وتكليف إبراهيم - عليه السلام - أن يقيمه على التوحيد ، وأن يطهره من رجس الشرك . ويستطرد إلى بعض شعائر الحج وما وراءها من استجاشة مشاعر التقوى في القلوب ، وهي الهدف المقصود . وينتهي هذا الشوط بالإذن للمؤمنين بالقتال لحماية الشعائر والعبادات من العدوان الذي يقع على المؤمنين ولا جريرة لهم إلا أن يقولوا : ربنا الله !
والشوط الثالث يتضمن عرض نماذج من تكذيب المكذبين من قبل ، ومن مصارع المكذبين ومشاهد القرى المدمرة على الظالمين . وذلك لبيان سنة الله في الدعوات ، وتسلية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عما يلقاه من صد وإعراض ، وتطمين المسلمين ، بالعاقبة التي لا بد أن تكون . كذلك يتضمن عرض طرف من كيد الشيطان للرسل والنبيين في دعوتهم ، وتثبيت الله لدعوته ، وإحكامه لآياته ، حتى يستيقن بها المؤمنون ، ويفتن بها الضعاف والمستكبرون !
أما الشوط الأخير فيتضمن وعد الله بنصرة من يقع عليه البغي وهو يدفع عنه العدوان ويتبع هذا الوعد بعرض دلائل القدرة في صفحات الكون ، وإلى جوارها يعرض صورة زرية لضعف الآلهة التي يركن إليها المشركون . . وينتهي الشوط وتنتهي السورة معه بنداء الذين آمنوا ليعبدوا ربهم ، ويجاهدوا في الله حق جهاده ، ويعتصموا بالله وحده ، وهم ينهضون بتكاليف عقيدتهم العريقة منذ أيام إبراهيم الخليل . .
( يا أيها الناس اتقوا ربكم ، إن زلزلة الساعة شيء عظيم . يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ؛ وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد ) . .
مطلع عنيف رعيب ، ومشهد ترتجف لهوله القلوب . يبدأ بالنداء الشامل للناس جميعا : ( يا أيها الناس )يدعوهم إلى الخوف من الله : ( اتقوا ربكم )ويخوفهم ذلك اليوم العصيب : ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) .
وهكذا يبدأ بالتهويل المجمل ، وبالتجهيل الذي يلقي ظل الهول يقصر عن تعريفه التعبير ، فيقال : إنه زلزلة . وإن الزلزلة ( شيء عظيم ) ، من غير تحديد ولا تعريف .