لو كان خروجهم لطلب العرض القريب ، أي : منفعة دنيوية سهلة التناول { و } كان السفر { سَفَرًا قَاصِدًا } أي : قريبا سهلا . { لَاتَّبَعُوكَ } لعدم المشقة الكثيرة ، { وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } أي : طالت عليهم المسافة ، وصعب عليهم السفر ، فلذلك تثاقلوا عنك ، وليس هذا من أمارات العبودية ، بل العبد حقيقة هو المتعبد لربه في كل حال ، القائم بالعبادة السهلة والشاقة ، فهذا العبد للّه على كل حال .
{ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } أي : سيحلفون أن تخلفهم عن الخروج أن لهم أعذرا وأنهم لا يستطيعون ذلك .
{ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ } بالقعود والكذب والإخبار بغير الواقع ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
وهذا العتاب إنما هو للمنافقين ، الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في { غزوة تبوك } وأبدوا من الأعذار الكاذبة ما أبدوا ، فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بمجرد اعتذارهم ، من غير أن يمتحنهم ، فيتبين له الصادق من الكاذب ، ولهذا عاتبه اللّه على هذه المسارعة إلى عذرهم فقال :
ثم أخذت السورة الكريمة في بيان قبائح المنافقين ، ومعاذيرهم الواهية ، ومساكلهم الخبيثة . وأيمانهم الفاجرة . . فقال - تعالى - : { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً . . . } .
قال الفخر الرازى هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك والعرض . ما يعرض للانسان من منافع الدنيا وشهواتها .
والسفر القاصد : هو السفر القريب السهل الذي لا يصاحبه ما يؤدى إلى التعب الشديد . من المقصد بمعنى التوسط والاعتدال في الشئ .
والشقة : المسافة التي لا تقطع إلا بعد تكبد المشقة والتعب ، فهى مأخوذة من المشقة وشدة العناء .
قال القرطبى : حكى أبوع بيدة وغيره أن الشقة : السفر إلى أرض بعيدة . يقال : منه شقة شاقة . والمراد بذلك كله غزوة تبوك . .
والمعنى : لو كان الذي دعوتهم إليه يا محمد ، متاعاً من متع الحياة الدنيا ، وسفراً سهلا قريباً ، لاتبعوك فيما دعوتهم إليه ، لأنه يوافق أهواءهم ، ويشبع رغباتهم ، ولكنهم حين عرفوا أن ما دعوتهم إليه هو الجهاد في سبيل الله وما يصحبه من أسفار شاقة . وتضحيات جسمية . . تعلَّلوا لك بالمعاير الكاذبة ، وتخلفوا عن الخروج معك ، حبناً منهم ، وحباً للراحة والسلام .
وشبيه بهذه الآية من حيث المعنى ، قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شأن المتخلفين عن صلاة الجماعة " لو يعلم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً ، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء " .
أى : لو يعلم أحد هؤلاء المتخلفين عن صلاة العشاء في جماعة ، أنه يجد عند حضور صلاتها في جماعة شيئاً من اللحم لحضرها .
ثم حكى - سبحانه - ما سيقوله هؤلاء المنافقون بعد عودة المؤمنين من الجهاد فقال : { وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } .
أى : وسيحلق هؤلاء المنافقون بالله - كذباً وزوراً - قائلين . لو استطعنا أيها المؤمنون أن نخرج معكم للجهاد في تبوك لخرجنا : فاننا لم نتخلف عن الخروج معكم إلا مضطرين ، فقد كانت لنا أعذارنا القاهرة التي حملتنا على التخلف ! !
وأتى - سبحانه - بالسين في قوله : { وَسَيَحْلِفُونَ } لأنه من قبيل الإِخبار بالغيب . فقد كان نزول هذه الآية قبل رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من تبوك . وحلفهم هذا كان بعد رجوعه منها .
قال الفخر الرازى : قالوا : الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر عنهم أنهم سيحلفون ، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل ، والأمر لما وقع كما أخبر كان هذا إخباراً عن الغيب فكان معجزاً .
والمراد بالاستطاعة في قوله : { لَوِ استطعنا } : وجد وسائل للجهاد معهم ، من زاد وعدة وقوة في البدن وغير ذلك مما يستلزمه الجهاد في سبيل الله .
وقوله : { لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } ساد مسد جوابى القسم والشرط .
ثم بين - سبحانه - سوء مصيرهم بسبب كذبهم ونفاقهم فقال : { يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } .
أى . أن هؤلاء المتخلفين عن الجهاد يهلكون أنفسهم بسبب حلفهم الكاذب ، وجرأتهم على الله . تعالى .
فى اختلاق المعاذير الباطلة ، مع أنهز سبحانه . يعلم إنهم لكاذبون في أيمانهم ، وفيما انتحلوه من أعذار .
قال ابن جرير قوله : { والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في قولهم : { لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } ، لأنهم كانوا للخروج مطيقين ، بوجود السبيل إلى ذلك بالذى كان عندهم من الأموال ، مما يحتاج إليه الغازى في غزوه ، وصحة الأبدان ، وقوة الأجسام .
هذا ، ومن الإِحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ، أن الأيمان الكاذبة تؤدى إلى الخسران والهلاك : وفى الحديث الشريف : " اليمين الغموس تدع الديار بلاقع " .
( لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لا تبعوك ، ولكن بعدت عليهم الشقة ؛ وسيحلفون باللّه لو استطعنا لخرجنا معكم ، يهلكون أنفسهم ، واللّه يعلم إنهم لكاذبون . عفا اللّه عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ? لا يستأذنك الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم واللّه عليم بالمتقين . إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر ، وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ؛ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره اللّه انبعاثهم ، فثبطهم ، وقيل : اقعدوا مع القاعدين . لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ، وفيكم سماعون لهم ، واللّه عليم بالظالمين . لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر اللّه وهم كارهون ) . .
لو كان الأمر أمر عرض قريب من أعراض هذه الأرض ، وأمر سفر قصير الأمد مأمون العاقبة لاتبعوك ! ولكنها الشقة البعيدة التي تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة . ولكنه الجهد الخطر الذي تجزع منه الأرواح الهزيلة والقلوب المنخوبة . ولكنه الأفق العالي الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة والبنية المهزولة .
وإنه لنموذج مكرور في البشرية ذلك الذي ترسمه تلك الكلمات الخالدة :
( لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة ) . .
فكثيرون هم أولئك الذين يتهاوون في الطريق الصاعد إلى الآفاق الكريمة . كثيرون أولئك الذين يجهدون لطول الطريق فيتخلفون عن الركب ويميلون إلى عرض تافه أو مطلب رخيص . كثيرون تعرفهم البشرية
في كل زمان وفي كل مكان ، فما هي قلة عارضة ، إنما هي النموذج المكرور . وإنهم ليعيشون على حاشية الحياة ، وإن خيل إليهم أنهم بلغوا منافع ونالوا مطالب ، واجتنبوا أداء الثمن الغالي ، فالثمن القليل لا يشتري سوى التافه الرخيص !
( وسيحلفون باللّه لو استطعنا لخرجنا معكم ) . .
فهو الكذب المصاحب للضعف أبداً . وما يكذب إلا الضعفاء . أجل ما يكذب إلا ضعيف ولو بدا في صورة الأقوياء الجبارين في بعض الأحايين . فالقوي يواجه والضعيف يداور . وما تتخلف هذه القاعدة في موقف من المواقف ولا في يوم من الأيام . .
بهذا الحلف وبهذا الكذب ، الذي يخيل إليهم أنه سبيل النجاة عند الناس ، واللّه يعلم الحق ، ويكشفه للناس ، فيهلك الكاذب في الدنيا بكذبه ، ويهلك في الآخرة يوم لا يجدي النكران .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.