والمقسم عليه قوله : { إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } أي : لمنوع للخير الذي عليه لربه{[1469]} .
فطبيعة [ الإنسان ] وجبلته ، أن نفسه لا تسمح بما عليه من الحقوق ، فتؤديها كاملة موفرة ، بل طبيعتها الكسل والمنع لما عليه من الحقوق المالية والبدنية ، إلا من هداه الله ، وخرج عن هذا الوصف إلى وصف السماح بأداء الحقوق .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } جواب القسم . والكنود : الجحود ، يقال : فلان كند النعمة - من باب دخل - ، إذا جحدها ولم يشكر الله عليها . وكند الحبل : أي قطعة ، وأصل الكنود : الأرض التى لا تنبت شيئا ، فشبه بها الإِنسان الذى يمنع الحق والخير ، ويجحد ما عليه من حقوق وواجبات .
أى : إن فى طبع الإِنسان - إلا من عصمه الله تعالى - الكنود لربه والكفران لنعمته ، والنسيان لمننه وإحسانه ، والغفلة عن المواظبة على شكره - تعالى - ، والتضرع إليه - سبحانه - عند الشدائد والضراء . . والتشاغل عن ذلك عند العافية والرخاء .
فالمراد بالإِنسان هنا : جنسه ، إذ إن هذه الصفة غالبة على طبع الإِنسان بنسب متفاوتة ، ولا يسلم منها إلا من عصمه الله - تعالى - .
وقيل : المراد بالإِنسان هنا : الكافر ، وأن المقصود به ، الوليد بن المغيرة .
والأولى أن يكون المراد به الجنس ، ويدخل فيه الكافر دخولا أوليا .
وقوله : { إنّ الإنْسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } يقول : إن الإنسان لكفور لنِعم ربه . والأرض الكنود : التي لا تُنبت شيئا ، قال الأعشى :
أحْدِثْ لَهَا تُحْدِثْ لِوَصْلِكَ إنّها *** كُنُدٌ لِوَصْلِ الزّائِرِ المُعْتادِ
وقيل : إنما سُمّيت كِندة : لقطعها أباها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد الله بن يوسف الجُبَيْرِيّ ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، قال : حدثنا مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّ الإنْسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } قال : لكفور .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { إنّ الإنْسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } قال : لربه لكفور .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد { إنّ الإنْسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } قال : لكفور .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن مهديّ بن ميمون ، عن شعيب بن الحَبْحاب ، عن الحسن البصريّ : { إنّ الإنْسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } قال : هو الكفور الذي يَعُدّ المصائب ، وينسى نِعَم ربه .
حدثنا وكيع ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، قال : الكنود : الكفور .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، قال : قال الحسن : { إنّ الإنْسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } يقول : لوّام لربه يعدّ المصائب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن { لَكَنُودٌ } قال : لكفور .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة { إنّ الإنْسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } قال : لكفور .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سعيد ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي ، قال : حدثنا خالد بن الحارث ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك أنه قال : إنما سُمّيت كِندة : أنها قَطَعت أباها ، { إنّ الإنْسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } قال : لكفور .
حدثنا أبو كرَيب ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن جعفر بن الزّبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إنّ الإنْسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } ، قال : «لَكَفُورٌ ، الّذِي يأكُلُ وَحْدَهُ ، وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ ، ويَمْنَعُ رِفْدَهُ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { إنّ الإنْسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } قال : الكنود : الكفور ، وقرأ : إنّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ .
حدثنا الحسن بن عليّ بن عياش ، قال : حدثنا أبو المُغيرة عبد القدّوس ، قال : حدثنا حريز بن عثمان ، قال : ثني حمزة بن هانىء ، عن أبي أمامة أنه كان يقول : الكَنُود : الذي ينزل وحده ، ويضرب عبده ، ويمنع رفده .
حدثني محمد بن إسماعيل الصواريّ ، قال : حدثنا محمد بن سوّار ، قال : أخبرنا أبو اليقظان ، عن سفيان عن هشام ، عن الحسن ، في قوله{ إنّ الإنْسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } قال : لوّام لربه ، يعدّ المصائب ، وينسى النّعَم .
وجملة : { إن الإنسان لربه لكنود } جواب القسم .
والكَنود : وصف من أمثلة المبالغة من كَند ولغات العرب مختلفة في معناه فهو في لغة مضر وربيعةَ : الكفور بالنعمة ، وبلغة كنانة : البخيل ، وفي لغة كِندة وحضرموت : العاصي . والمعنى : لشديد الكفران لله .
والتعريف في { الإنسان } تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالباً ، أي أن في طبع الإنسان الكُنود لربه ، أي كفرانَ نعمته ، وهذا عارض يعرض لكل إنسان على تفاوتٍ فيه ولا يسلم منه إلا الأنبياء وكُمَّل أهل الصلاح لأنه عارض ينشأ عن إيثار المرء نفسه وهو أمر في الجبلة لا تدفعه إلا المراقبة النفسية وتذكّرُ حق غيره .
وبذلك قد يذهل أو ينسَى حق الله ، والإِنسان يحس بذلك من نفسه في خطراته ، ويتوانى أو يغفل عن مقاومته لأنه يشتغل بإرضاء داعية نفسه والأنفس متفاوتة في تمكن هذا الخُلق منها ، والعزائم متفاوتة في استطاعة مغالبته .
وهذا ما أشار إليه قوله تعالى : { وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد } فلذلك كان الاستغراق عرفياً أو عامّاً مخصوصاً ، فالإِنسان لا يخلو من أحوال مآلها إلى كفران النعمة ، بالقول والقصد ، أو بالفعل والغفلة ، فالإِشراك كنود ، والعِصيان كنود ، وقِلة ملاحظة صَرف النعمة فيما أعطيت لأجله كنود ، وهو متفاوت ، فهذا خلق متأصل في الإِنسان فلذلك أيقظ الله له الناس ليَريضوا أنفسهم على أمانة هذا الخلق من نفوسهم كما في قوله تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعاً } [ المعارج : 19 ] وقوله : { خلق الإنسان من عجل } [ الأنبياء : 37 ] وقوله : { إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } [ العلق : 6 ، 7 ] وقد تقدمت قريباً .
وعن ابن عباس : تخصيص الإنسان هنا بالكافر فهو من العموم العرفي .
وروي عن أبي أمامة الباهلي بسند ضعيف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الكنود هو الذي يأكل وحْدَه ويمنع رفده ويضْرب عبده » وهو تفسير لأدنى معاني الكنود فإن أكله وحده ، أي عدم إطعامه أحداً معه ، أو عدم إطعامه المحاويج إغضاء عن بعض مراتب شكر النعمة ، وكذلك منعه الرفد ، ومثله : ضربه عبده فإن فيه نسياناً لشكر الله الذي جعل العبد ملكاً له ولم يجعله ملكاً للعبد فيدل على أن ما هو أشد من ذلك أولى بوصف الكَنود .
وقيل التعريف في { الإنسان } للعهد ، وأن المراد به الوليد بن المغيرة ، وقيل : قرطة بن عبد عمرِو بن نوفل القرشي .
واللام في { لربه } لام التقوية لأن ( كَنود ) وصف ليس أصيلاً في العمل ، وإنما يتعلق بالمعمولات لمشابهته الفعل في الاشتقاق فيكثر أن يقترن مفعوله بلام التقوية ، ومع تأخيره عن معموله .
وتقديم { لربه } لإِفادة الاهتمام بمتعلق هذا الكنود لتشنيع هذا الكنود بأنه كنود للرب الذي هو أحق الموجودات بالشكر وأعظم ذلك شرك المشركين ، ولذلك أكد الكلام بلام الابتداء الداخلة على خبر ( إنَّ ) للتعجيب من هذا الخبر .
وتقديم { لربه } على عامله المقترن بلام الابتداء وهي من ذوات الصدر لأنهم يتوسعون في المجرورات والظروف ، وابنُ هشام يرى أن لام الابتداء الواقعة في خبر ( إنَّ ) ليست بذات صدارة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.