تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

ولهذا ، لما كانت هذه الأمة أكمل الأمم عقولا ، وأحسنهم أفكارا ، وأرقهم قلوبا ، وأزكاهم أنفسا ، اصطفاهم الله تعالى ، واصطفى لهم دين الإسلام ، وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب ، ولهذا قال : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } وهم هذه الأمة . { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } بالمعاصي ، [ التي ] هي دون الكفر . { وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ } مقتصر على ما يجب عليه ، تارك للمحرم . { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } أي : سارع فيها واجتهد ، فسبق غيره ، وهو المؤدي للفرائض ، المكثر من النوافل ، التارك للمحرم والمكروه .

فكلهم اصطفاه اللّه تعالى ، لوراثة هذا الكتاب ، وإن تفاوتت مراتبهم ، وتميزت أحوالهم ، فلكل منهم قسط من وراثته ، حتى الظالم لنفسه ، فإن ما معه من أصل الإيمان ، وعلوم الإيمان ، وأعمال الإيمان ، من وراثة الكتاب ، لأن المراد بوراثة الكتاب ، وراثة علمه وعمله ، ودراسة ألفاظه ، واستخراج معانيه .

وقوله { بِإِذْنِ اللَّهِ } راجع إلى السابق إلى الخيرات ، لئلا يغتر بعمله ، بل ما سبق إلى الخيرات إلا بتوفيق اللّه تعالى ومعونته ، فينبغي له أن يشتغل بشكر اللّه تعالى على ما أنعم به عليه .

{ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } أي : وراثة الكتاب الجليل ، لمن اصطفى تعالى من عباده ، هو الفضل الكبير ، الذي جميع النعم بالنسبة إليه ، كالعدم ، فأجل النعم على الإطلاق ، وأكبر الفضل ، وراثة هذا الكتاب .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان أقسام الناس فى هذه الحياة . ووعده المؤمنين الصادقين بجنات النعيم ، فقال - تعالى - : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب . . . يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } .

" ثم " فى قوله - تعالى - : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } للتراخى الرتبى . و { أَوْرَثْنَا } أى أعطينا ومنحنا ، إذ الميراث عطاء يصل للإِنسان عن طريق غيره .

والمراد بالكتاب : القرآن الكريم ، وما اشتمل عليه من عقائد وأحكام وآداب وتوجيهات سديدة . . وهو المفعول الثانى لأورثنا ، وقد على المفعول الأول ، وهو الموصول للتشريف .

و { اصطفينا } بمعنى اخترنا واستخلصنا ، واشتقاقه من الصفو ، بمعنى الخلوص من الكدر والشوائب .

والمراد بقوله : { مِنْ عِبَادِنَا } الأمة الإِسلامية التى جعلها الله خير أمة أخرجت للناس .

والمعنى : ثم جعلنا هذا القرآن الذى اوحيناه إليك الرسول الكريم - ميراثاً منك لأمتك ، التى اصطفيناها على سائر الأمم ، وجعلناها أمة وسطا . وقد ورثناها هذا الكتاب لتنتفع بهداياته . . وتسترشد بتوجيهاته ، وتعمل بأوامره ونواهيه .

قال الآلوسى : قوله : { الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } هم - كما قال ابن عباس وغيره - أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الله - تعالى - اصطفاهم على سائر الأمم . .

وفى التعبير بالاصطفاء ، تنويه بفضل هؤلاء العباد ، وإشارة إلى فضلهم على غيرهم ، كما أن التعبير بالماضى يدل على تحقق هذا الاصطفاء .

ثم قسم - سبحانه - هؤلاء العباد إلى ثلاثة اقسام فقال : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله . . } .

وجمهور العلماء على أن هذه الأقسام الثلاثة ، تعد إلى أفراد هذه الأمة الإِسلامية .

وأن المراد بالظالم لنفسه ، من زادت سيئاته على حسناته .

وأن المراد بالمقصد : من تساوت حسناته مع سيئاته .

وأن المراد بالسابقين بالخيرات : من زادت حسناتهم على سيئاتهم .

وعلى هذا يكون الضمير فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا . . . } يعود إلى تلك الأقسام الثلاثة ، لأنهم جميعاً من أهل الجنة بفضل الله ورحمته .

ومن العلماء من يرى أن المراد بالظالم لنفسه : الكافر ، وعليه يكون الضمير فى قوله : { يَدْخُلُونَهَا } يعود إلى المقتصد والسابق بالخيرات ، وأن هذه الآية نظير قوله - تعالى - فى سورة الواقعة : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة والسابقون السابقون . . } .

ومن المفسرين الذين رجحوا القول الأول ابن كثير فقد قال ما ملخصه : يقول - تعالى - ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم . . . وهم هذه الأمة على ثلاث أقسام : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } وهو المفرط فى بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات . { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } وهو المؤدى للواجبات التارك للمرحمات وقد يترك بعض المستحبات ، ويفعل بعض المكروهات .

{ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله } وهو الفاعل للواجبات والمستحبات .

وقال ابن عباس : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله - تعالى - كل كتاب أنزله . فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب .

وفى رواية عنه : السبق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله - تعالى - ، والظالم لنفسه يدخل الجنة بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم .

وفى الحديث الشريف : " شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى " .

وقال آخرون : الظالم لنفسه : هو الكافر .

والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة ، وهذا اختيار ابن جرير كما و ظاهر الآية ، وكا جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق يشد بعضها بعضاً .

ثم أورد الإِمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث منها : ما أخرجه الإِمام أحمد عن أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى هذه الآية : " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة ، وكلهم فى الجنة " .

ومعنى قوله " بمنزلة واحدة " أى : فى أنهم من هذه الأمة ، وأنهم من أهل الجنة ، وإن كان بينهم فرق فى المنازل فى الجنة .

وقال الإِمام ابن جرير : فإن قال لنا قائل : إن قوله { يَدْخُلُونَهَا } إنما عنى به المقتصد والسابق بالخيرات ؟

قيل له : وما برهانك على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل ؟ فإن قلا : قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار ، ولم لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد ، وجب أن لا يكون لأهل الإِيمان وعيد .

قيل : إنه ليس فى الآية خبر أنهم لا يدخلون النار ، وإنما فيها إخبار من الله - تعالى - أنهم يدخلون جنات عدن : وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التى أصابها فى الدنيا . . ثم يدخلون الجنة بعد ذلك ، فيكون ممن عمه خبر الله - تعالى - بقوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } .

وقال الشوكانى : والظالم لنفسه : هو الذى عمل الصغائر . وقد روى هذا القول عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وأبى الدرداء ، وعائشة . وهذا هو الراجح ، لأن عمل الصغائر لا ينافى الاصطفاء ، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور . . وجه كونه ظالماً لنفسه ، أنها نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له ، فإنه لو عمل تلك الصغائر طاعات ، لكان لنفسه فيها من الثواب عظيماً . .

قالوا : وتقديم الظالم لنفسه على المقتصد وعلى السابق بالخيرات . لا يقتضى تشريفاً ، كما فى قوله - تعالى - { لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة . . } ولعل السر فى مجئ هذه الأقسام بهذا الترتيب ، أن الظالمين لأنفسهم الأقسام عددا ، ويليهم المقتصدون ، ويليهم السابقون بالخيرات ، كما قال - تعالى - { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } وقوله : { بِإِذُنِ الله } أى : بتوفيقه وإرادته وفضله .

واسم الإِشارة فى قوله : { ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } يعود إلى ما تقدم من توريث الكتاب ومن الاصطفاء .

أى : ذلك الذى أعطيناه - أيها الرسول الكريم - لأمتك من الاصطفاء ومن توريهم الكتاب ، هو الفضل الواسع الكبير ، الذى لا يقادر قدره ، ولا يعرف كنهه إلا الله - تعالى - .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } .

اختلف أهل التأويل في معنى الكتاب الذي ذكر الله في هذه الاَية أنه أورثه الذين اصطفاهم من عباده ، ومن المصطفون من عباده ، والظالم لنفسه ، فقال بعضهم : الكتاب : هو الكتب التي أنزلها الله من قبل الفُرقان ، والمصطفون من عباده : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والظالم لنفسه : أهل الإجرام منهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ . . . إلى قوله : الفَضْلُ الكَبِيرُ هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ورّثهم الله كل كتاب أنزله ، فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس ، عن عبد الله بن عيسى ، عن يزيد بن الحارث ، عن شقيق ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة : ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ، وثلث يجيئون بذنوب عظام ، حتى يقول : ما هؤلاء ؟ وهو أعلم تبارك وتعالى ، فتقول الملائكة : هؤلاء جاؤوا بذنوب عظام إلاّ أنهم لم يُشركوا بك ، فيقول الربّ : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي . وتلا عبد الله هذه الاَية : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا .

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا عون ، قال : حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل ، قال : حدثنا كعب الأحبار أن الظالم لنفسه من هذه الأمة ، والمقتصد ، والسابق بالخيرات : كلهم في الجنة ألم تر أن الله قال : ثُمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا . . . إلى قوله : كُلّ كَفُورٍ .

حدثني عليّ بن سعيد الكندي ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عوف ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، قال : سمعت كعبا يقول : فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ بإذْنِ اللّهِ قال : كلهم في الجنة ، وتلا هذه الاَية : جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها .

حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، عن عوف بن أبي جبلة ، قال : حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل ، قال : حدثنا كعب أن الظالم من هذه الأمة ، والمقتصد ، والسابق بالخيرات ، كلهم في الجنة ألم تر أن الله قال : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا . . . إلى قوله : لُغُوبِ والذين كفروا لهم نار جهنم ، قال : قال كعب : فهؤلاء أهل النار .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عوف ، قال : سمعت عبد الله بن الحارث يقول : قال كعب : إن الظالم لنفسه ، والمقتصد ، والسابق بالخيرات من هذه الأمة : كلهم في الجنة ، ألم تر أن الله يقول : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا . . . حتى بلغ قوله : جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا حميد ، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه ، أن ابن عباس سأل كعبا عن قوله تعالى : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا . . . إلى قوله : بإذْنِ اللّهِ فقال : تماست مناكبهم ورب الكعبة ، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس ، عن أبي إسحاق السبيعي ، في هذه الاَية : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا قال : قال أبو إسحاق : أما ما سمعت منذ ستين سنة ، فكلهم ناج .

قال : ثنا عمرو ، عن محمد بن الحنفية ، قال : إنها أمة مرحومة الظالم مغفور له ، والمقتصد في الجنات عند الله ، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله .

وقال آخرون : الكتاب الذي أورث هؤلاء القوم ، هو شهادة أن لا إله إلاّ الله والمصطفون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم والظالم لنفسه منهم هو المنافق ، وهو في النار والمقتصد ، والسابق بالخيرات في الجنة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي ، قال : حدثنا الفضل بن موسى ، عن حسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة ، عن عبد الله فَمِنهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ قال : اثنان في الجنة ، وواحد في النار .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ثُمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا . . . إلى آخر الاَية ، قال : جعل أهل الإيمان على ثلاثة منازل ، كقوله : أصحَابُ الشّمالِ ما أصحَابُ الشّمال وأصحَابُ اليَمِينِ ما أصحَابُ اليَمِينِ والسّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرّبُونَ فهم على هذا المثال .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ . . . الاَية ، قال : الاثنان في الجنة ، وواحد في النار ، وهي بمنزلة التي في الواقعة : وأصحَابُ اليَمِينِ ما أصحَابُ اليَمِينِ وأصحَابُ الشّمالِ ما أصحَابُ الشّمالِ والسّابِقونَ السّابِقُونَ .

حدثنا سهل بن موسى ، قال : حدثنا عبد المجيد ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قال : هم أصحاب المشأمة وَمِنْهُم مُقْتَصِدٌ قال : هم أصحاب الميمنة وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْراتِ قال : هم السابقون من الناس كلهم .

حدثنا الحسن بن عرفة قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : قال عوف ، قال الحسن : أما الظالم لنفسه فإنه هو المنافق ، سقط هذا . وأما المقتصد والسابق بالخيرات ، فهما صاحبا الجنة .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عوف ، قال : قال الحسن : الظالم لنفسه : المنافق .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ثمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا شهادة أن لا إله إلاّ الله فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ هذا المنافق في قول قتادة والحسن وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ قال : هذا صاحب اليمين وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ قال : هذا المقرّب . قال قتادة : كان الناس ثلاث منازل في الدنيا ، وثلاث منازل عند الموت ، وثلاث منازل في الاَخرة . أما الدنيا ، فكانوا : مؤمن ، ومنافق ، ومشرك . وأما عند الموت ، فإن الله قال : فأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَرّبِينَ فَرْوحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنّةُ نَعِيمٍ وأمّا إنْ كانَ مِنْ أصحَابِ اليَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أصحَابِ اليَمينِ وأمّا إنْ كانَ مِنَ المُكَذّبِينَ الضّالّينَ فَنُزُلٌ منْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ . وأما في الاَخرة فكانوا أزواجا ثلاثة ، وأصحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ وأصحَابُ المَشأمَةِ ما أصحَابُ المَشْأَمَةِ والسّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرّبُونَ .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ثُمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قال : هم أصحاب المشأمة وَمِنْهُمْ مُقْتَصِد قال : أصحاب الميمنة ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ قال : فهم السابقون من الناس كلهم .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ثُمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قال : سقط هذا وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ بإذْنِ اللّهِ قال : سبق هذا بالخيرات ، وهذا مقتصد على أثره .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب تأويل من قال : عنى بقوله : ثُمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الكتب التي أُنزلت من قبل الفرقان .

فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتلون غير كتابهم ، ولا يعملون إلاّ بما فيه من الأحكام والشرائع ؟ قيل : إن معنى ذلك على غير الذي ذهبت إليه ، وإنما معناه : ثم أورثنا الإيمان بالكتاب الذين اصطفينا ، فمنهم مؤمنون بكلّ كتاب أنزله الله من السماء قبل كتابهم وعاملون به ، لأن كل كتاب أنزل من السماء قبل الفرقان ، فإنه يأمر بالعمل بالفرقان عند نزوله ، وباتباع من جاء به ، وذلك عمل من أقرّ بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به ، وعمل بما دعاه إليه بما في القرآن ، وبما في غيره من الكتب التي أنزلت قبله .

وإنما قيل : عنى بقوله ثُمّ أوْرَثْنا الكتابَ الكتب التي ذكرنا لأن الله جلّ ثناؤه قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وَالّذِي أوْحَيْنَا إلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الحَقّ مُصَدّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثم أتبع ذلك قوله ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا فكان معلوما ، إذ كان معنى الميراث إنما هو انتقال معنى من قوم إلى آخرين ، ولم تكن أمة على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم انتقل إليهم كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته ، أن ذلك معناه . وإذ كان ذلك كذلك ، فبيّنٌ أن المصطفين من عباده هم مؤمنو أمته وأما الظالم لنفسه ، فإنه لأن يكون من أهل الذنوب والمعاصي التي هي دون النفاق والشرك عندي أشبه بمعنى الاَية من أن يكون المنافق أو الكافر ، وذلك أن الله تعالى ذكره أتبع هذه الاَية قوله : جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها فعمّ بدخول الجنة جميع الأصناف الثلاثة .

فإن قال قائل : فإن قوله يَدْخُلُونَها إنما عنى به المقتصد والسابق ، قيل له : وما برهانك على أن ذلك كذلك من خبر أو عقل ؟ فإن قال : قيام الحجة أن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار ، ولو لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد وجب أن لا يكون لأهل الإيمان وعيد ، قيل : إنه ليس في الاَية خبر أنهم لا يدخلون النار ، وإنما فيها إخبار من الله تعالى ذكره أنهم يدخلون جنات عَدْن ، وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التي أصابها في الدنيا ، وظلمه نفسه فيها بالنار ، أو بما شاء من عقابه ، ثم يُدخله الجنة ، فيكون ممن عمه خبر الله جلّ ثناؤه بقوله جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخَلُونَها .

وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك أخبارٌ ، وإن كان في أسانيدها نظر ، مع دليل الكتاب على صحته على النحو الذي بيّنت . ذكر الرواية الواردة بذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان عن الأعمش ، قال : ذكر أبو ثابت أنه دخل المسجد ، فجلس إلى جنب أبي الدرداء ، فقال : اللهمّ آنس وحشتي ، وارحم غُرْبتي ، ويسّر لي جليسا صالحا ، فقال أبو الدرداء : لئن كنت صادقا لأنا أسعد به منك سأحدّثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحدّث به منذ سمعته ذَكَرَ هذه الاَية : ثُمّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ فأما السابق بالخيرات ، فيدخلها بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغمّ والحزن ، فذلك قوله : الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أذْهَبَ عَنّا الحَزَنَ .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة عن الوليد بن المغيرة ، أنه سمع رجلاً من ثقيف حدّث عن رجل من كنانة ، عن أبي سعيد الخدريّ ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الاَية : ثُمّ أوْرَثْنا الكِتابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ بإذْنِ الله قال : «هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة ، وكلهم في الجنة » .

وعنى بقوله : الّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا : الذين اخترناهم لطاعتنا واجتبيناهم . وقوله : فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ يقول : فمن هؤلاء الذين اصطفينا من عبادنا ، من يظلم نفسه بركوبه المآثم ، واجترامه المعاصي ، واقترافه الفواحش وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وهو غير المبالغ في طاعة ربه ، وغير المجتهد فيما ألزمه من خدمة ربه ، حتى يكون عمله في ذلك قصدا وَمِنْهُمْ سابِقٌ بالخَيْرَاتِ وهو المبرز الذي قد تقدّم المجتهدين في خدمة ربه ، وأداء ما لزمه من فرائضه ، فسبقهم بصالح الأعمال ، وهي الخيرات التي قال الله جلّ ثناؤه بِإذْنِ اللّهِ يقول : بتوفيق الله إياه لذلك .

وقوله : ذَلكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ يقول تعالى ذكره : سبوق هذا السابق من سبقه بالخيرات بإذن الله ، وهو الفضل الكبير الذي فضل به من كان مقصّرا عن منزلته في طاعة الله من المقتصد والظالم لنفسه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ} (32)

{ أورثنا } معناه أعطيناه فرقة بعد موت فرق ، والميراث حقيقة أو مجازاً إنما يقال فيما صار لإنسان بعد موت آخر ، و { الكتاب } هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده ، فكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن وهو قد تضمن لمعاني الكتب المنزلة ، قبله ، فكأنه ورث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها ، و { الذين اصطفينا } يريد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وغيره ، وكأن اللفظ يحتمل أن يريد به جميع المؤمنين من كل أمة إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والأول لم يورثوه ، و { اصطفينا } معناه اخترنا وفضلنا ، و «العباد » عام في جميع العالم ، مؤمنهم وكافرهم ، واختلف الناس في عود الضمير من قوله { فمنهم } فقال ابن عباس وابن مسعود ما مقتضاه إن الضمير عائد على { الذين } والأصناف الثلاثة هي كلها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ف «الظالم لنفسه » العاصي المسرف ، و «المقتصد » متقي الكبائر والجمهور من الأمة ، و «السابق » المتقي على الإطلاق ، وقالت هذه الفرقة والأصناف الثلاثة في الجنة وقاله أبو سعيد الخدري .