تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} (65)

ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم ، أي : في كل شيء يحصل فيه اختلاف ، بخلاف مسائل الإجماع ، فإنها لا تكون إلا مستندة للكتاب والسنة ، ثم لا يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق ، وكونهم يحكمونه على وجه الإغماض ، ثم لا يكفي ذلك{[213]}  حتى يسلموا لحكمه تسليمًا بانشراح صدر ، وطمأنينة نفس ، وانقياد بالظاهر والباطن .

فالتحكيم في مقام الإسلام ، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان ، والتسليم في مقام الإحسان . فمَن استكمل هذه المراتب وكملها ، فقد استكمل مراتب الدين كلها . فمَن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر ، ومَن تركه ، مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين .


[213]:- في ب: هذا التحكيم.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} (65)

ثم بين - سبحانه - أن كل من يدعى الإِيمان لا يكون إيمانه صادقا إلا إذا تقبل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إذعان واقتناع فقال : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } .

والفاء فى قوله { فَلاَ } للإِفصاح عن شرط مقدر .

و { لاَ } يرى الزمخشرى أنها زائدة لتقوية الكلام وتأكيد معنى القسم ، فهى كقوله - تعالى - : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ويرى ان جرير أنها ليست زائدة ، وإنما هى رد على ما تقدم ذكره من تحاكمهم إلى الطاغوت وتركهم حكم شريعة الإِسلام فقد قال :

" يعنى - جل ثناؤه - بقوله فلا : أى فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ويصدون عنك إذا دعوا إليك يا محمد . ثم استأنف القسم - جل ذكره - فقال : وربك يا محمد لا يؤمنون أى : لا يصدقون بى وبك حتى يحكموك فيما شجر بينهم .

وقوله { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أى فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس .

يقال : شجر بينهم الأمر يشجر شجرا وشجورا إذا تنازعوا فيه .

واصله التداخل والاختلاط . ومنه شجر الكلام ، إذ دخل بعضه فى بضع واختلط . ومنه الشجر : لتداخل أغصانه .

وقيل للمنازعة تشاجر ، لأن المتنازعين تختلف أقوالهم ، وتتعارض دعاويهم ، ويختلط بعضهم ببعض .

وقوله { حَرَجاً } أى ضيقا وشكا ، وأصل الحرج مجتمع الشئ ، ويقال للشجر الملتف الذى لا يكاد يوصل إليه حرج . ثم أطلق على ضيق الصدر لكراهته لشئ معين .

والمعنى : إذا ثبت ما أخبرناك به يا محمد قبل ذلك ، فإن هؤلاء المنافقين وحق ربك " لا يؤمنون " إيمانا حقا يقبله الله - تعالى - { حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أى : حتى يجعلوك حاكما بينهم ، ويلجأوا إليك فيما اختلفوا فيه من أمور ، والتبس عليهم منها . { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ } بعد ذلك { حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } أى ضيقا وشكا فى قضائك بينهم { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } أى : ويخضعوا لحكمك خضوعا تام إلا إباء مع ولا ارتياب .

وفى إضافة الاسم الجليل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله - سبحانك - { وَرَبِّكَ } تكريم للنبى صلى الله عليه وسلم وتشريف له ، وتنويه بمكانته .

وقوله { لاَ يُؤْمِنُونَ } هو جواب القسم .

وقوله { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ } معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام . اى : حتى يحكموك فيما شجر بينهم فتحكم بينهم ثم لا يجدوا .

وقوله { تَسْلِيماً } تأكيد للفعل . بمنزلة تكريره . أى تسليما تاما بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة فقد روى الحافظ أبو نعيم والطبرانى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذى نفسى بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " .

هذا ، وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما رواه البخارى عن الزهرى " عن عروة قال : خاصم الزبير رجلا من الأنصار فى شراج الحرة - أى فى مسيل مياه - .

فقال النبى صلى الله عليه وسلم : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك . فقال الأنصارى : يا رسول الله ! ! أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال : اسق يا زبير . ثم أحبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " - والجدر هو ما يدار بالنخل من تراب كالجدار - . ثم أرسل الماء إلى جارك .

قال الزبير : فما أحسب هذه الآية إلا نزلت فى ذلك { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } .

وهذا السبب الخاص فى نزول الآية الكريمة لا يمنع عمومها فى وجوب التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حياته ، وإلى الشريعة التى أتى بها بعد وفاته ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء .

ويبدو أن ما ذكرناه سابقا من تحاكم بعض المنافقين إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء فى البخارى من تخاصم الزبير مع الرجل الأنصارى يبدو أن هذه الحوادث قد حدثت فى زمن متقارب فنزلت الآيات لبيان وجوب التحاكم إلى شريعة الله دون سواها .

والمتأمل فى الآية الكريمة يراها قد بينت أن المؤمن لا يكون إيمانه تاما إلا إذا توفرت فيه صفات ثلاث :

أولها : أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حياته ، وإلى شريعته بعد وفاته .

وثانيها : أن يتقبل حكم الشريعة الإِسلامية التى جاء بها النبى صلى الله عليه وسلم برضا وطيب خاطر ، وأن يوقن إيقانا تاما بأن ما يقضى به هو الحق والعدل . قال - تعالى - : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } .

وثالثها : أن يذعن لأحكام شريعة الله إذعانا تاما فى مظهره وحسه . قال - تعالى - { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } . أى يخضوا خضوعا تاما .

فقوله - تعالى - { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } يمثل الانقياد الباطنى والنفسى .

وقوله - تعالى - { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } يمثل الانقياد الظاهرى والحسى .

وهكذا نرى الآية الكريمة تحذر المؤمنين من التحاكم إلى غير شريعة الله بأسلوب يبعث فى النفوس الوجل والخشية ، ويحملهم على الإِذعان لأحكام الله - تعالى - .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} (65)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } . .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { فلا } فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك ، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ، ويصدّون عنك إذا دعو إليك يا محمد . واستأنف القسَمَ جلّ ذكره ، فقال : { وَربّكَ } يا محمد { لا يُؤْمِنُونَ } أي لا يصدّقون بي وبك ، وبما أنزل إليك ، { حَتّى يُحَكّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ } يقول : حتى يجعلوك حكما بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم ، فالتبس عليهم حكمه ، يقال : شَجَرَ يشجُر شُجُورا وشَجْرا ، وتشاجر القوم إذا اختلفوا في الكلام والأمر مشاجرة وشِجَارا { ثُم لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجا مما قَضَيْتَ } يقول : لا يجدوا في أنفسهم ضيقا مما قضيت ، وإنما معناه : ثم لا تحرج أنفسهم مما قضيت : أي لا تأثم بإنكارها ما قضيت وشكها في طاعتك وأن الذي قضيت به بينهم حق لا يجوز لهم خلافه . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { حَرَجا مما قَضَيْتَ } قال : شكّا .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : { حَرَجا مما قَضَيْتَ } يقول : شَكّا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : { ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسهِمْ حَرَجا مِمّا قَضَيْتَ } قال : إثما { وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما } يقول : ويسلموا لقضائك وحكمك ، إذعانا منهم بالطاعة ، وإقرارا لك بالنبوّة تسليما .

واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الاَية وفيمن نزلت ، فقال بعضهم : نزلت في الزبير بن العوّام وخصم له من الأنصار ، اختصما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور . ذكر الرواية بذلك :

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس والليث بن سعد ، عن ابن شهاب ، أن عروة بن الزبير حدثه ، أن عبد الله بن الزبير حدثه ، عن الزبير بن العوّام : أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرّة كانا يسقيان به كلاهما النخل ، فقال الأنصاريّ : سرّح الماء يمرّ ! فأبي عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اسْق يا زُبَيْرُ ثُمّ أرْسِل المَاءَ إلى جاركَ ! » فغضب الأنصاريّ وقال : يا رسول الله ، أن كان ابن عمتك ؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : «اسْق يا زُبَيْرُ ثُمّ احْبِسِ المَاءَ حتى يَرْجِعَ إلى الجَدْرِ ثُمّ أرْسِلِ المَاءَ إلى جارِكَ ! » واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه قال أبو جعفر : والصواب : «استوعب » . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه الشفقة له وللأنصاريّ ، فلما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصاري استوعب للزبير حقه في صريح الحكم . قال : فقال الزبير : ما أحسب هذه الاَية نزلت إلا في ذلك : { فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ } . . . الاَية .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، قال : خاصم الزبير رجل من الأنصار في شرج من شراج الحرّة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا زُبَيْرُ ، اشْرَبْ ثُمّ خَلّ سَبِيلَ المَاءِ ! » فقال الذي من الأنصار : اعدل يا نبيّ الله وإن كان ابن عمتك ! قال : فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف أن قد ساءه ما قال ، ثم قال : «يا زُبَيْرُ احْبِس المَاءَ إلى الجُدُر أوْ إلى الكَعْبَيْن ، ثُمّ خَلّ سَبِيلَ المَاء ! » ، قال : ونزلت : { فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ } .

حدثني عبد الله بن عمير الرازي ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عمرو بن دينار ، عن سلمة رجل من ولد أمّ سلمة ، عن أمّ سلمة : أن الزبير خاصم رجلاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير ، فقال الرجل لما قضى للزبير : أن كان ابن عمتك ؟ فأنزل الله : { فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسهِمْ حَرَجا ممّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما } .

وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية في المنافق واليهودي اللذين وصف الله صفتهما في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكع يُرِيدُونَ أنْ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ } . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ حَرَجا مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيما } قال : هذا الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي بنحوه ، إلا أنه قال : إلى الكاهن .

قال أبو جعفر : وهذا القول أعني قول من قال : عني به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } أولى بالصواب ، لأن قوله¹ { فَلا وَرَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ } في سياق قصة الذين ابتدأ اللّه الخبر عنهم بقوله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ } ، ولا دلالة تدلّ على انقطاع قصتهم ، فإلحاق بعض ذلك ببعض ما لم تأت دلالة على انقطاعه أَوْلَى .

فإن ظنّ ظانّ أن في الذي رُوي عن الزبير وابن الزبير من قصته وقصة الأنصاري في شراج الحرّة ، وقول من قال في خبرهما ، فنزلت : { فَلا ورَبّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ما ينبيء عن انقطاع حكم هذه الاَية وقصتها من قصة الاَيات قبلها ، فإنه غير مستحيل أن تكون الاَية نزلت في حصة المحتكمين إلى الطاغوت ، ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاريّ ، إذ كانت الاَية دالة على ذك . وإذ كان ذلك غير مستحيل ، كان إلحاق معنى بعض ذلك ببعض أولى ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد ، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض ، فيعدل به عن معنى ما قبله . وأما قوله : { وَيُسَلّمُوا } فإنه منصوب عطفا على قوله : { ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ } . قوله : { ثُمّ لا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ } نصب عطفا على قوله : { حتى يُحكّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهمْ } .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} (65)

{ فلا وربك } أي فوربك ، ولا مزيدة لتأكيد القسم لا لتظاهر لا في قوله : { لا يؤمنون } لأنها تزاد أيضا في الإثبات كقوله تعالى : { لا أقسم بهذا البلد } .

{ حتى يحكموك فيما شجر بينهم } فيما اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه . { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت } ضيقا مما حكمت به ، أو من حكمك أو شكا من أجله ، فإن الشاك في ضيق من أمره . { ويسلموا تسليما } وينقادوا لك انقيادا بظاهرهم وباطنهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا} (65)

قال الطبري : قوله : { فلا } رد على ما تقدم ، تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله ، { وربك لا يؤمنون } .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقال غيره : إنما قدم «لا » على القسم اهتماماً بالنفي ، وإظهاراً لقوته ، ثم كررها بعده تأكيداً للتهمم بالنفي ، و كان يصح إسقاط { لا } الثانية ، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ، ويذهب معنى الاهتمام{[4132]} ، و { شجر } معناه : اختلط والتف من أمورهم ، وهو من الشجر ، شبيه بالتفاف الأغصان ، وكذلك الشجير الذي امتزجت مودته بمودة صاحبه{[4133]} ، وقرأ أبو السمال «شجْر » بإسكان الجيم .

قال القاضي أبو محمد : وأظنه فر من توالي الحركات ، وليس بالقوي ، لخفة الفتحة ، و { يحكموك } نصب بحتى ، لأنها هاهنا غاية مجردة . و { يجدوا } عطف عليه ، والحرج : الضيق والتكلف والمشقة ، قال مجاهد : { حرجاً } ، شكاً{[4134]} ، وقوله : { تسليماً } مصدر مؤكد ، منبىء على التحقيق في التسليم ، لأن العرب إنما تردف الفعل بالمصدر إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة ، كما قال تعالى : { وكلم الله موسى تكليماً }{[4135]} [ النساء : 164 ] وقد تجيء به مبالغة وإن لم يقع ، ومنه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وعجت عجيجاً من جدام المطارف{[4136]} .

وقال مجاهد وغيره : المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ، ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت ، وفيهم نزلت ، ورجح الطبري هذا ، لأنه أشبه بنسق الآية وقالت طائفة : نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب ذلك الرجل وقال آن كان ابن عمتك ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستوعب للزبير حقه ، فقال : احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر ، ثم أرسل الماء ، » فنزلت الآية{[4137]} ، واختلف أهل هذا القول في الرجل ، فقال قوم : هو رجل من الأنصار من أهل بدر ، وقال مكي وغيره : هو حاطب بن أبي بلتعة .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والصحيح الذي وقع في البخاري أنه رجل من الأنصار ، وأن الزبير قال : فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك ، وقالت طائفة : لما قتل عمر الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم ، بلغ ذلك النبي وعظم عليه ، وقال : ( ما كنت أظن أن عمر يجترىء على قتل رجل مؤمن ){[4138]} ، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي ، مقيمة عذر عمر بن الخطاب في قتله .


[4132]:- يرى الزمخشري أن [لا] الثانية زائدة، كما زيدت في [لئلا يعلم] لتأكيد وجوب العلم، و[لا يؤمنون] جواب القسم. و[حتى] هنا غاية، أي: ينتفي عنهم الإيمان إلى هذه الغاية.
[4133]:- ويقال لعصي الهودج: شجار، لتداخل بعضها في بعض، قال الشاعر: نفسي فداؤك والرماح شواجر والقوم ضنك للقاء قيام وقال طرفة: وهم الحكام أرباب الهدى وسعاة الناس في الأمر الشجر
[4134]:- لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يأتيه البيان والوضوح، وبسبب الضيق قيل للشجر الملتف: حرج وحرجة، والجمع: حراج.
[4135]:- من قوله تعالى في الآية (124) من سورة النساء: {ورسلا قد قصصنا عليك من قبل، ورسلا لم نقصصهم عليك، وكلم الله موسى تكليما}
[4136]:- عجّ يعجّ ويعجّ عجّا وعجيجا: رفع صوته وصاح، وقيده في التهذيب فقال: بالدعاء والاستغاثة، وجذام: قبيلة تهجوها الشاعرة بأنها ليست أهلا للنعيم، والمطارف: أردية من خز مربعة لها أعلام، والواحد: مطرف ومُطرف، وقال الفراء: المطرف من الثياب: ما جعل في طرفيه علمان. والبيت لهند بنت النعمان بن بشير. وسيأتي زيادة إيضاح.
[4137]:- أخرجه عبد الرزاق، وأحمد، عبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، وأصحاب السنن من طريق الزهري، وأخرجه الحميدي، وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الكبير وغيرهم عن أم سلمة. (الدر المنثور). وقول الرجل الأنصاري للرسول عليه الصلاة والسلام: (آن كان) بمد همزة (أن) المفتوحة على سبيل الإنكار، أي: أتحكم عليّ لأجل قرابته لك؟ وقوله في الحديث: (الجدر) معناه: ما رفع حول المزروعة فصار كالجدار.
[4138]:- أخرج الحديث مع اختلاف في بعض الألفاظ ابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود