تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

{ 72 - 73 } { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

يعظم تعالى شأن الأمانة ، التي ائتمن اللّه عليها المكلفين ، التي هي امتثال الأوامر ، واجتناب المحارم ، في حال السر والخفية ، كحال العلانية ، وأنه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة ، السماوات والأرض والجبال ، عرض تخيير لا تحتيم ، وأنك إن قمت بها وأدَّيتِهَا على وجهها ، فلك الثواب ، وإن لم تقومي بها ، [ ولم تؤديها ] فعليك العقاب .

{ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } أي : خوفًا أن لا يقمن بما حُمِّلْنَ ، لا عصيانًا لربهن ، ولا زهدًا في ثوابه ، وعرضها اللّه على الإنسان ، على ذلك الشرط المذكور ، فقبلها ، وحملها مع ظلمه وجهله ، وحمل هذا الحمل الثقيل . فانقسم الناس -بحسب قيامهم بها وعدمه- إلى ثلاثة أقسام :

منافقون ، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا ، ومشركون ، تركوها ظاهرًا وباطنًا ، ومؤمنون ، قائمون بها ظاهرًا وباطنًا .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

ثم بين - سبحانه - ضخامة التبعة التى حملها الإِنسان فقال : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان . . } .

وأرجح الأقوال وأجمعها فى المراد بالأمانة هنا : أنها التكاليف والفرائض الشرعية التى كلف الله - تعالى - بها عباده ، من إخلاص فى العبادة ، ومن أداء للطاعات ، ومن محافظة على آداب هذا الدين وشعائره وسننه .

وسمى - سبحانه - ما كلفنا به أمانة ، لأن هذه التكاليف حقوق أمرنا - سبحانه - بها ، وائتمننا عليها ، وأوجب علينا مراعاتها والمحافظة عليها ، وأداءها بدون إخلال بشئ منها .

والمراد بالإِنسان : آدم - عليه السلام - أو جنس الإِنسان .

والمراد بحمله إياها : تقبله لحمل هذه التكاليف والأوامر والنواهى مع ثقلتها وضخامتها .

وللعلماء فى تفسير هذه الآية اتجاهات ، فمنهم من يرى أن الكلام على حقيقته ، وأن الله - تعالى - قد عرض هذه التكاليف الشرعية المعبر عنها بالأمانة ، على السماوات والأرض والجبال { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } لثقلها وضخامتها { وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } أى : وخفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك ما يؤدى بهن إلى عذاب الله وسخطه بسبب التقصير فى أداء ما كلفن بأدائه .

{ وَحَمَلَهَا الإنسان } أى : وقبل الإِنسان حمل هذه الأمانة عند عرضها عليه ، بعد أن أبت السماوات والأرض والجبال حملها ، وأشفقن منها .

{ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } أى : إنه كان مفرطا فى ظلمه لنفسه ، ومبالغة فى الجهل ، لأن هذا الجنس من الناس لم يلتزموا جميعا بأداء ما كلفهم الله - تعالى - بأدائه . وإنما منهم من أداها على وجهها - وهم الأقلون - ، ومنهم من لم يؤدها وإنما عصى ما أمره به ربه ، وخان الأمانة التى التزم بأدائها .

فالضمير فى قوله { إِنَّهُ } يعود على بعض أفراد جنس الإِنسان ، وهم الذين لم يؤدوا حقوق هذه الأمانة التى التزموا بحملها .

قال الآلوسى : { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } أى : بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة ، دون من عداهم من الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة ، دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله ويكفى فى صدق الحكم على الجنس بشئ ، وجوده فى بعض أفراده ، فضلا عن وجوده فى غالبها . .

وقال بعض العلماء : ورجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلى معروف فى اللغة التى نزل بها القرآن .

وقد جاء فعلا فى آية من كتاب الله ، وهى قوله - تعالى - : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ . . . }

لأن الضمير فى قوله : { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلى ، كما هو ظاهر .

وهذه المسألة هى المعروفة عند علماء العربية بمسألة : عندى درهم ونصفه . أى : ونصف درهم آخر .

وأصحاب هذا الاتجاه يقولون : لا مانع إطلاقا من أن يخلق الله - تعالى - إدراكا ونطقا للسموات والأرض والجبال ، ولكن هذا الإِدراك والنطق لا يعلمه إلا هو - سبحانه - .

ومما يشهد لذلك قوله - تعالى - : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } قال الجمل : وكان هذا العرض عليهن - أى على السماوات والأرض والجبال تخييرا لا إلزاما ، ولو ألزمهن لم يمتنعن عن حملها . والجمادات كلها خاضعة لله - تعالى - مطيعة لأمره ، ساجدة له .

قال بعض أهل العلم : ركب الله - تعالى - فيهن العقل والفهم حين عرض عليهن الأمانة ، حتى عقلن الخطاب ، وأجبن بما أجبن .

ويرى بعضهم أن العرض فى الآية الكريمة من قبيل ضرب المثل ، أو من قبيل المجاز .

قال الإِمام القرطبى ما ملخصه : لما بين - تعالى - فى هذه السورة من الأكحام ما بين ، أم بالتزام أوامره ، والأمانة تعم جميع وظائف الدين ، على الصحيح من الأقوال ، وهو قول الجمهور . .

ويصح أن يكون عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال على سبيل الحقيقة .

وقال القفال وغيره : العرض فى هذه الآية ضرب مثل ، أى : أن السماوات والأرض والجبال على كبر أجرامها ، لو كانت بحيث يجوز تكليفها ، لثقل عليها تقلد الشرائع ، لما فيها من الثواب والعقاب .

أى : أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السماوات والأرض والجبال ، وقد حمله الإِنسان وهو ظلوم جهول لو عقل . وهذا كقوله : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله . . . } وقال قوم : إن الآية من المجاز : أى : أنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال ، رأينا أنها لا تطيقها ، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت ، فَعُبِّر عن هذا بعرض الأمانة . كما تقول : عرضت الحمل على البعير فأباه ، وأنت تريد : قايست قوته بثقل الحمل فرأيت أنها تقصر عنه . .

وقيل : { عَرَضْنَا } يعنى عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال ، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة . ورجحت الأمانة بثقلها عليها . . .

ويبدو لنا أن حمل الكلام على الحقيقة أولى بالقبول ، لأنه ما دام لم يوجد مانع يمنع منه ، فلا داعى لصرفه عن ذلك .

ومما لا شك أن قدرة الله - تعالى - لا يعجزها أن تخلق فى السماوات والأرض ولاجبال إدراكا وتمييزا ونطقا لا يعلمه إلا هو - سبحانه - .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } .

اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : إن الله عرض طاعته وفرائضه على السموات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت وجوزيت ، وإن ضيعت عوقبت ، فأبت حملها شفقا منها أن لا تقوم بالواجب عليها ، وحملها آدم إنّهُ كانَ ظَلُوما لنفسه جَهُولاً بالذي فيه الحظّ له . ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله : إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْها قال : الأمانة : الفرائض التي افترضها الله على العباد .

قال : ثنا هشيم ، عن العوّام ، عن الضحاك بن مزاحم ، عن ابن عباس ، في قوله : إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها قال : الأمانة : الفرائض التي افترضها الله على عباده .

قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام بن حوشب وجويبر ، كلاهما عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ . . . إلى قوله جَهُولاً قال : الأمانة : الفرائض . قال جويبر في حديثه : فلما عرضت على آدم ، قال : أي ربّ وما الأمانة ؟ قال : قيل : إن أدّيتها جزيت ، وإن ضيعتها عوقبت ، قال : أي ربّ حملتها بما فيها ، قال : فما مكث في الجنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس حتى عمل بالمعصية ، فأُخرج منها .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الاَية إنّا عَرَضْنا الأَمانَةَ قال : عرضت على آدم ، فقال : خذها بما فيها ، فإن أطعت غفرت لك ، وإن عصيت عذّبتك ، قال : قد قبلت ، فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ إن أدّوها أثابهم ، وإن ضيّعوها عذّبهم ، فكرهوا ذلك ، وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم ، فقبلها بما فيها ، وهو قوله : وَحَمَلَها الإنْسانُ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً غرّا بأمر الله .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ : الطاعة عرضها عليها قبل أن يعرضها على آدم ، فلم تطقها ، فقال لاَدم : يا آدم إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال ، فلم تطقها ، فهل أنت آخذها بما فيها ؟ فقال : يا ربّ : وما فيها ؟ قال : إن أحسنت جُزِيت ، وإن أسأت عُوقبت ، فأخذها آدم فتحملها ، فذلك قوله : وَحَمَلَها الإنْسانُ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله : إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَها الإنْسانُ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً قال آدم : قيل له : خذها بحقها ، قال : وما حقها ؟ قيل : إن أحسنت جُزيت ، وإن أسأت عُوقبت ، فما لبث ما بين الظهر والعصر حتى أخرج منها .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ فلم يطقن حمَلها ، فهل أنت يا آدم آخذها بما فيها قال آدم : وما فيها يا ربّ ؟ قال : إن أحسنت جُزِيت ، وإن أسأت عوقبت ، فقال : تحمّلتُها ، فقال الله تبارك وتعالى : قد حملتكها فما مكث آدم إلا مقدار ما بين الأولى إلى العصر حتى أخرجه إبليس لعنه الله من الجنة والأمانة : الطاعة .

حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية ، قال : ثني عيسى بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن الحكم بن عمرو ، وكان من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ الأمانَةَ والوَفاءَ نَزَلا على ابْنِ آدَمَ مَعَ الأنْبِياءِ ، فأُرْسِلُوا بِهِ ، فَمِنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ ، ومِنْهُمْ نَبِيّ ، وَمِنْهُمْ نَبِيّ رَسُولٌ . نزل القرآن وهو كلام الله ، ونزلت العربية والعجمية ، فعلموا أمر القرآن ، وعلموا أمر السنن بألسنتهم ، ولم يدع الله شيئا من أمره مما يأتون ومما يجتنبون ، وهي الحجج عليهم ، إلا بَيّنَةُ لهم ، فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن من القبيح . ثم الأمانة أوّل شيء يُرْفع ، ويبقى أثرها في جذور قلوب الناس ، ثم يُرْفع الوفاء والعهد والذمم ، وتبقى الكتب ، فعالم يعمل ، وجاهل يعرفها وينكرها حتى وصل إليّ وإلى أمتي ، فلا يَهْلِك على الله إلا هالك ، ولا يُغْفِله إلا تارك ، والحذرَ أيها الناس ، وإياكم والوسواس الخناس ، وإنما يبلوكم أيكم أحسن عملا » .

حدثني محمد بن خلف العَسْقلاني ، قال : حدثنا عبيد بن عبد المجيد الحنفيّ ، قال : حدثنا العوّام العطار ، قال : حدثنا قتادة ، وأبان بن أبي عياش ، عن خَلِيد العَصْري ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خَمْسٌ مَنْ جاءَ بِهِنّ يَوْمَ القِيامَةِ مَعَ إيمانٍ دَخَلَ الجَنّةَ : مَن حافَظَ على الصّلَوَاتِ الخَمْسِ ، على وُضُوئهِنّ وَرُكُوعِهِنّ وَسُجُودِهِنّ وَمَوَاقِيتِهِنّ ، وأعْطَى الزّكاةَ مِنْ مالِهِ طَيّبَ النّفْسِ بِها » وكانَ يَقُولُ : «وَايْمُ اللّهِ لا يفْعَلُ ذلكَ إلاّ مُؤْمِنٌ ، وَصَامَ رَمَضَانَ ، وَحَجّ البَيْتَ إنِ اسْتَطاعَ إلى ذِلك سَبِيلاً ، وأدّى الأمانَةَ » قالوا : يا أبا الدرداء : وما الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن أُبيّ بن كعب ، قال : من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها .

حدثني يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْها قال : إن الله عرض عليهنّ الأمانة أن يفترض عليهنّ الدين ، ويجعل لهنّ ثوابا وعقابا ، ويستأمنهنّ على الدين ، فقلن : لا ، نحن مسخرات لأمرك ، لا نريد ثوابا ولا عقابا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَعَرَضَها اللّهُ على آدَمَ ، فقالَ : بين أُذُنِي وَعاتِقي » قال ابن زيد ، فقال الله له : أما إذ تحملت هذا فسأعينك ، أجعل لبصرك حجابا ، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحلّ لك ، فأرْخ عليه حجابه ، وأجعل للسانك بابا وغلقا ، فإذا خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك لباسا ، فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ يعني به : الدين والفرائض والحدود فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْها قيل لهنّ : احملنها تؤَدّين حقها ، فقلن : لا نطيق ذلك وَحَمَلَها الإنْسانُ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً قيل له : أتحملها ؟ قال : نعم ، قيل : أتؤدّي حقها ؟ قال : نعم ، قال الله : إنه كان ظلوما جهولاً عن حقها .

وقال آخرون : بل عنى بالأمانة في هذا الموضع : أمانات الناس . ذكر من قال ذلك :

حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «القَتْلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُكَفّرُ الذّنُوبَ كُلّها أو قال : يُكَفّرُ كُلّ شَيْءٍ إلاّ الأمانَةَ يُؤْتَى بصَاحِبِ الأمانَةِ ، فَيُقالُ لَهُ : أدّ أمانَتَكَ ، فَيَقُولُ : أي ربّ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدّنْيا ، ثَلاثا فَيُقالُ : اذْهَبُوا بِهِ إلى الهَاوِيَةِ فَيُذْهَبُ بِهِ إلَيْها ، فَيَهْوِي فِيها حتى يَنْتَهِي إلى قَعْرِها ، فَيَجِدُها هُناكَ كَهِيْئَتِها ، فَيَحْملُها ، فَيَضَعَها على عاتِقِهِ ، فَيَصْعَدُ بِها إلى شَفِيرِ جَهَنّمَ ، حتى إذَا رأى أنّهُ قَدْ خَرَجَ زَلّتْ ، فَهَوَى فِي أثَرِها أبَدَ الاَبِدِينَ » . قالوا : والأمانة في الصلاة ، والأمانة في الصوم ، والأمانة في الحديث وأشدّ ذلك الودائع ، فلقيت البراء فقلت : ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد الله ؟ فقال : صدق .

قال : شريك ، وثني عياش العامري عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه ، ولم يذكر الأمانة في الصلاة ، وفي كلّ شيء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن ابن أبي هلال ، عن أبي حازم ، قال : إن الله عرض الأمانة على سماء الدنيا ، فأبت ثم التي تليها ، حتى فرغ منها ، ثم الأرضين ثم الجبال ، ثم عرضها على آدم ، فقال : نعم ، بين أذني وعاتقي . فثلاث آمرك بهنّ ، فإنهنّ لك عون : إني جعلت لك لسانا بين لحسيين ، فكفه عن كلّ شيء نهيتك عنه وجعلت لك فرجا وواريته ، فلا تكشفه إلى ما حرّمت عليك .

وقال آخرون : بل ذلك إنما عنى به ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده ، وخيانة قابيل أباه في قتله أخاه . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مُرّة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : كان لا يولد لاَدم مولود إلا وُلد معه جارية ، فكان يزوّج غلامَ هذا البطن جارية هذا البطن الاَخر ، ويزوّج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الاَخر ، حتى وُلد له اثنان ، يقال لهما قابيل ، وهابيل وكان قابيل صاحب زرع ، وكان هابيل صاحب ضرع ، وكان قابيل أكبرهما ، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل ، وإن هابيل طلب أن يَنْكِح أخت قابيل ، فأبى عليه وقال : هي أختي وُلدتْ معي ، وهي أحسن من أختك ، وأنا أحقّ أن أتزوّجها ، فأمره أبوه أن يزوّجها هابيل فأبى ، وإنهما قرّبا قربانا إلى الله أيهما أحقّ بالجارية ، وكان آدم يومئذ قد غاب عنهما ، أي بمكة ينظر إليها ، قال الله لاَدم : يا آدم هل تعلم أن لي بيتا في الأرض ؟ قال : اللهمّ لا ، قال : إن لي بيتا بمكة فأته ، فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة ، فأبت وقال للأرض ، فأبت فقال للجبال ، فأبت فقال لقابيل ، فقال : نعم ، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرّك فلما انطلق آدم وقرّبا قربانا ، وكان قابيل يفخر عليه فيقول : أنا أحقّ بها منك ، هي أختي ، وأنا أكبر منك ، وأنا وصيّ والدي فلما قرّبا ، قرّب هابيل جَذَعة سمينة ، وقرّب هابيل حُزْمة سُنْبل ، فوجد فيها سنبلة عظيمة ، ففركها فأكلها ، فنزلت النار فأكلت قُربان هابيل ، وتركت قُربان قابيل ، فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي ، فقال هابيل إنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ المُتّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إليّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أنا بِباسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنّي أخافُ اللّهَ رَبّ العالَمِينَ . . . إلى قوله : فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ فطلبه ليقتله ، فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال وأتاه يوما من الأيام ، وهو يرْعَى غنمه في جبل ، وهو نائم ، فرفع صخرة ، فشدخ بها رأسه ، فمات ، وتركه بالعَراء ، ولا يعلم كيف يُدْفَن ، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ، ثم حثا عليه فلما رآه قال : يا وَيُلَتا أعَجَزْتَ أنْ أكونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أخي ، فهو قول الله تبارك وتعالى : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوأَةَ أخِيهِ فرجع آدم فوجد ابنه قد قَتل أخاه ، فذلك حين يقول : إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ . . . إلى آخر الاَية .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قاله الذين قالوا : إنه عُنِي بالأمانة في هذا الموضع : جميع معاني الأمانات في الدين ، وأمانات الناس ، وذلك أن الله لم يخصّ بقوله : عَرَضنا الأمانَةَ بعضَ معاني الأمانات لما وصفنا .

وبنحو قولنا قال أهل التأويل في معنى قول الله : إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً يعني قابيل حين حمل أمانة آدم لم يحفظ له أهله .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيريّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن الضحاك ، في قوله : وَحَملَها الإنسان قال آدم إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً قال : ظلوما لنفسه ، جهولاً فيما احتمل فيما بينه وبين ربه .

حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً غَرّ بأمر الله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة إنّهُ كانَ ظَلُوما جَهُولاً قال : ظلوما لها ، يعني للأمانة ، جهولاً عن حقها .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا} (72)

{ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان } تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة ، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء ، والمعنى أنها لعظمة شأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها وحملها الإنسان مع ضعف بنيته ورخاوة قوته لا جرم فاز الراعي لها والقائم بحقوقها بخير الدارين . { إنه كان ظلوما } حيث لم يف بها ولم يراع حقها . { جهولا } بكنه عاقبتها ، وهذا وصف للجنس باعتبار الأغلب . وقيل المراد ب{ الأمانة } الطاعة التي تعم الطبيعية والاختيارية ، وبعرضها استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره ، وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته ، فيكون الإباء عنه إتيانا بما يمكن أن يتأتى منه والظلم والجهالة والخيانة والتقصير . وقيل إنه تعالى لما خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما وقال لها : إني فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعني فيها ، ونارا لمن عصاني ، فقلن نحن مسخرات على ما خلقتنا لا نحتمل فريضة ولا نبغي ثوابا ولا عقابا ، ولما خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله ، وكان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليها جهولا بوخامة عاقبته ، ولعل المراد ب { الأمانة } العقل أو التكليف ، وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن ، وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد ، وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية ، وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدي ومجاوزة الحد ، ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما .