{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ْ } أي : استضافاهم ، فلم يضيفوهما { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ْ } أي : قد عاب واستهدم { فَأَقَامَهُ ْ } الخضر أي : بناه وأعاده جديدا . فقال له موسى : { لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ْ } أي : أهل هذه القرية ، لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم ، وأنت تبنيه من دون أجرة ، وأنت تقدر عليها ؟ . فحينئذ لم يف موسى عليه السلام بما قال ، واستعذر الخضر منه ، فقال له : { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ْ }
ثم تسوق لنا السورة الكريمة الحادث الثالث والأخير فى تلك القصة الزاخرة بالمفاجآت والعجائب فتقول : { فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً . . . }
أى : فانطلق موسى والخضر - عليهما السلام - يتابعان سيرهما . حتى إذا أتيا أهل قرية قيل هى " أنطاكية " ، وقيل : هى قرية بأرض الروم .
{ استطعما أهلها } والاستطعام : سؤال الطعام . والمراد به هنا سؤال الضيافة لأنه هو المناسب لمقام موسى والخضر - عليهما السلام - ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك : { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا } يشهد له .
أى : فأبى وامتنع أهل تلك القرية عن قبول ضيافتهما بخلا منهم وشحا .
وقوله - تعالى - { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ } معطوف على { أتيا } أى : وبعد أن امتنع أهل القرية عن استضافتهما ، تجولا فيها { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً } أى : بناء مرتفعا { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أى : ينهدم ويسقط { فأقامه } أى الخضر بأن سواه وأعاد إليه اعتداله ، أو بأن نقضه وأخذ فى بنائه من جديد .
وهنا لم يتمالك موسى - عليه السلام - مشاعره ، لأنه وجد نفسه أمام حالة متناقضة ، قوم بخلاء أشحاء لا يستحقون العون . . ورجل يتعب نفسه فى إقامة حائط مائل لهم . . هلا طلب منهم أجرا على هذا العمل الشاق ، خصوصا وهما جائعان لا يجدان مأوى لهما فى تلك القرية !
لذا بادر موسى - عليه السلام - ليقول للخضر : { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } .
أى : هلا طلبت أجرا من هؤلاء البخلاء على هذا العمل ، حتى تنتفع به . وأنت تعلم أننا جائعان وهم لم يقدموا لنا حق الضيافة .
فالجملة الكريمة تحريض من موسى للخضر على أخذ الأجر على عمله ، ولوم له على ترك هذا الأجر مع أنهما فى أشد الحاجة إليه .
وكان هذا التحريض من موسى للخضر - عليهما السلام - هو نهاية المرافقة والمصاحبة بينهما ، ولذا قال الخضر لموسى : { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { فَانطَلَقَا حَتّىَ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } .
يقول تعالى ذكره : فانطلق موسى والعالم حَتّى إذَا أتَيَا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعمَا أهْلَها من الطعام فلم يطعموهما واستضافاهم فَأبَوْا أن يُضَيّفُوهُما فَوَجَدَا فِيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ يقول : وجدا في القرية حائطا يريد أن يسقط ويقع يقال منه : انقضّت الدار : إذا انهدمت وسقطت ومنه انقضاض الكوكب ، وذلك سقوطه وزواله عن مكانه ومنه قول ذي الرّمة :
*** فانْقَضّ كالكَوْكَبِ الدّرّي مُنْصَلِتا ***
وقد رُوي عن يحيى بن يعمر أنه قرأ ذلك : «يُرِيدُ أنْ يَنْقاضّ » .
وقد اختلف أهل العلم بكلام العرب إذا قرىء ذلك كذلك في معناه ، فقال بعض أهل البصرة منهم : مجاز ينقاضّ : أي ينقلع من أصله ، ويتصدّع ، بمنزلة قولهم : قد انقاضت السنّ : أي تصدّعت ، وتصدّعت من أصلها ، يقال : فراق كقبض السنّ : أي لا يجتمع أهله . وقال بعض أهل الكوفة منهم : الانقياض : الشقّ في طول الحائط في طيّ البئر وفي سنّ الرجل ، يقال : قد انقاضت سنة : إذا انشقّت طولاً . وقيل : إن القرية التي استطعم أهلها موسى وصاحبه ، فأبوا أن يضيفوهما : الاَية . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا عمران بن المعتمر صاحب الكرابيسي ، قال : حدثنا حماد أبو صالح ، عن محمد بن سيرين ، قال : انتابوا الأيلة ، فإنه قلّ من يأتيها فيرجع منها خائبا ، وهي الأرض التي أبوا أن يضيفوهما ، وهي أبعد أرض الله من السماء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فانْطَلَقا حتى إذَا أتيَا أهْلَ قَرْيَةٍ ، وتلا إلى قوله لاتّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا شرّ القرى التي لا تُضِيف الضيف ، ولا تعرف لابن السبيل حقه .
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قول الله عزّ وجلّ يَرِيدُ أنْ يَنْقَضّ فقال بعض أهل البصرة : ليس للحائط إرادة ولا للمَوَات ، ولكنه إذا كان في هذه الحال من رثة فهو إرادته . وهذا كقول العرب في غيره :
يُرِيدُ الرّمْحُ صَدْرَ أبي بَرَاءٍ *** وَيَرْغَبُ عَنْ دِماءه بَنِي عُقَيْلِ
وقال آخر منهم : إنما كلم القوم بما يعقلون ، قال : وذلك لما دنا من الانقضاض ، جاز أن يقول : يريد أن ينقضّ ، قال : ومثله تَكادُ السّمَواتُ يَتَفَطّرْنَ وقولهم : إني لأكاد أطير من الفرح ، وأنت لم تقرب من ذلك ، ولم تهمّ به ، ولكن لعظيم الأمر عندك . وقال بعض الكوفيين منهم : من كلام العرب أن يقولوا : الجدار يريد أن يسقط قال : ومثله من قول العرب قول الشاعر :
إنّ دهْرا يَلُفّ شَمِلي بِجُمْلٍ *** لَزَمانٌ يَهُمّ بالإِحْسانِ
يَشْكُو إليّ جَمَلِي طُولَ السّرَى *** صَبْرا جَمِيلاً فَكِلانا مُبْتَلَى
قال : والجمل لم يشك ، إنما تكلّم به على أنه لو تكلم لقال ذلك قال : وكذلك قول عنترة :
وَازْوَرّ مِنْ وَقْعِ القَنا بِلَبانِهِ *** وشَكا إليّ بعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ
قال : ومنه قول الله عزّ وجلّ : ولَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ والغضب لا يسكت ، وإنما يسكت صاحبه . وإنما معناه : سكن . وقوله : فَإذَا عَزَمَ الأَمْرُ إنما يعزم أهله . وقال آخر منهم : هذا من أفصح كلام العرب ، وقال : إما إرادة الجدار : ميله ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا تَرَاءى نارَاهُما » وإنما هو أن تكون ناران كلّ واحدة من صاحبتها بموضع لو قام فيه إنسان رأى الأخرى في القُرب قال : وهو كقول الله عزّ وجلّ في الأصنام : وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال : والعرب تقول : داري تنظر إلى دار فلان ، تعني : قرب ما بينهما واستشهد بقول ذي الرّمّة في وصفه حوضا أو منزلاً دارسا :
*** قَدْ كادَ أوْ قَدْ هَمّ بالبُيُودِ ***
قال : فجعله يهمّ ، وإنما معناه : أنه قد تغير للبلى . والذي نقول به في ذلك أن الله عزّ ذكره بلطفه ، جعل الكلام بين خلقه رحمة منه بهم ، ليبين بعضهم لبعض عما في ضمائرهم . مما لا تحسّه أبصارهم ، وقد عقلت العرب معنى القائل :
فِي مَهْمَةٍ قَلِقَتْ بِهِ هاماتُها *** قَلَقَ الفُؤُوسِ إذَا أرَدْنَ نُصُولا
وفهمت أن الفؤوس لا توصف به بنو آدم من ضمائر الصدور مع وصفها إياهما بأنها تريد . وعلمت ما يريد القائل بقوله :
كمِثْلِ هَيْلِ النّقا طافَ المُشاةُ بِهِ *** يَنْهالُ حِينا ويَنْهاهُ الثّرَى حِينا
وإنما لم يرد أن الثرى نطق ، ولكنه أراد به أنه تلبّد بالندى ، فمنعه من الانهيال ، فكان منعه إياه من ذلك كالنهي من ذوي المنطق فلا ينهال . وكذلك قوله : جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقُضّ قد علمت أن معناه : قد قارب من أن يقع أو يسقط ، وإنما خاطب جلّ ثناؤه بالقرآن من أنزل الوحي بلسانه ، وقد عقلوا ما عنى به وإن استعجم عن فهمه ذوو البلادة والعمى ، وضلّ فيه ذوو الجهالة والغبا .
وقوله : فَأقامَهُ ذكر عن ابن عباس أنه قال : هدمه ثم قعد يبنيه .
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن الحسن بن عُمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . وقال آخرون في ذلك ما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير فوجدا فيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ قال : رفع الجدار بيده فاستقام .
والصواب من القول في ذلك أن يُقال : إن الله عزّ ذكره أخبر أن صاحب موسى وموسى وجدا جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه صاحب موسى ، بمعنى : عَدَل مَيَله حتى عاد مستويا . وجائز أن يكون كان ذلك بإصلاح بعد هدم . وجائز أن يكون كان برفع منه له بيده ، فاستوى بقدرة الله ، وزال عنه مَيْلُه بلطفه ، ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر للعذر قاطع بأيّ ذلك كان من أيّ .
وقوله : قالَ لَوْ شِئْتَ لتّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا يقول : قال موسى لصاحبه : لو شئت لم تقم لهؤلاء القوم جدارهم حتى يعطوك على إقامتك أجرا ، فقال بعضهم : إنما عَنَى موسى بالأجر الذي قال له لَوْ شِئْتَ لتّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا القِرى : أي حتى يَقْرُونا ، فإنهم قد أبوا أن يضّيفونا .
وقال آخرون : بل عنى بذلك العِوَض والجزاء على إقامته الحائط المائل .
واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة والكوفة لَوْ شِئْتَ لاتّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا على التوجيه منهم له إلى أنه لافتعلت من الأخذ . وقرأ ذلك بعض أهل البصرة «لَوْ شَئِتَ لَتَخِذْتَ » بتخفيف التاء وكسر الخاء ، وأصله : لافتعلت ، غير أنهم جعلوا التاء كأنهم من أصل الكلمة ، ولأن الكلام عندهم في فعل ويفعل من ذلك : تخِذ فلان كذا يَتْخَذُهُ تَخْذا ، وهي لغة فيما ذكر لهُذَيل . وقال بعض الشعراء :
وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي لَدَى جَنْبِ غَرْزِها *** نَسِيفا كأُفُحُوصِ القَطاةِ المُطَرّقِ
والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، غير أني أختار قراءته بتشديد التاء على لافتعلت ، لأنها أفصح اللغتين وأشهرهما ، وأكثرهما على ألسن العرب .