{ 7-8 } { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
أي : ليكن لديكم معلومًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بين أظهركم ، وهو الرسول الكريم ، البار ، الراشد ، الذي يريد بكم الخير وينصح لكم ، وتريدون لأنفسكم من الشر والمضرة ، ما لا يوافقكم الرسول عليه ، ولو يطيعكم في كثير من الأمر لشق عليكم وأعنتكم ، ولكن الرسول يرشدكم ، والله تعالى يحبب إليكم الإيمان ، ويزينه في قلوبكم ، بما أودع الله في قلوبكم من محبة الحق وإيثاره ، وبما ينصب على الحق من الشواهد ، والأدلة الدالة على صحته ، وقبول القلوب والفطر له ، وبما يفعله تعالى بكم ، من توفيقه للإنابة إليه ، ويكره إليكم الكفر والفسوق ، أي : الذنوب الكبار ، والعصيان : هي ما دون ذلك من الذنوب{[796]} بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر ، وعدم إرادة فعله ، وبما نصبه من الأدلة والشواهد على فساده ، وعدم قبول الفطر له ، وبما يجعله الله من الكراهة في القلوب له{[797]} .
{ أُولَئِكَ } أي : الذين زين الله الإيمان في قلوبهم ، وحببه إليهم ، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان { هُمُ الرَّاشِدُونَ } أي : الذين صلحت علومهم وأعمالهم ، واستقاموا على الدين القويم ، والصراط المستقيم .
وضدهم الغاوون ، الذين حبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، وكره إليهم الإيمان ، والذنب ذنبهم ، فإنهم لما فسقوا طبع الله على قلوبهم ، ولما { زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } ولما لم يؤمنوا بالحق لما جاءهم أول مرة ، قلب الله أفئدتهم .
{ واعلموا أن فيكم رسول الله } فلا تقولوا الباطل فان الله يخبره { لو يطيعكم في كثير من الأمر } لو أطاع مثل هذا المخبر الذي أخبره بما لا أصل له { لعنتم } لأثمتم ولهلكتم { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } فأنتم تطيعون الله ورسوله فلا تقعون في العنت يعني بهذا المؤمنين المخلصين ثم أثنى عليهم فقال { أولئك هم الراشدون }
ولما كان إقدامهم على كثير من الأمور من غير-{[60769]} مشاورة لمن أرسله الله رحمة لعباده ليعلمهم ما يأتون وما يذرون عمل من لا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب منه ، وكان الإعراض عنه حياً وعن بذل الجهد في استخراج الأمور من شريعته بعد موته أمراً مفسداً للبين إن لم يعتبر ويتنبه له-{[60770]} غاية التنبه ، أخبرهم به منزلاً لهم منزلة من لا-{[60771]} يعلم أنه موجود معه مشيراً بكلمة التنبيه إلى أن-{[60772]} من أخل{[60773]} بمراعاة ذلك في عداد الغافلين فقال-{[60774]} : { واعلموا } أي أيها الأمة ، وقدم الخبر إيذاناً بأن بعضهم{[60775]} باعتراضه أو بإقدامه{[60776]} على ما لا علم له به يعمل عمل من لا يعلم مقدار ما خصه الله به من إنعامه عليه به صلى الله عليه وسلم ، فهو يفيد توبيخ{[60777]} من فعل ذلك : { أن فيكم } أي-{[60778]} على وجه الاختصاص لكم ويا له من شرف { رسول الله } أي الملك الأعظم المتصف بالجلال والإكرام على حال هي أنكم تريدونه أن-{[60779]} يتبع أذاكم ، وذلك أمر شنيع جداً ، فإنه لا يليق أن يتحرك إلا بأمر من أرسله ، فيجب عليكم الرجوع عن تلك الحالة ، فإنكم تجهلون أكثر مما تعلمون ، ولإرادتهم إن لا يطيعهم في جميع الأمور عبر بالمضارع فقال : { لو يطيعكم } وهو لا{[60780]} يحب عنتكم ولا شيئاً يشق عليكم { في كثير من الأمر } أي الذي تريدونه على فعله من أنه يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعن لكم وتستصوبونه ليكون فعله معكم فعل المطاوع{[60781]} لغيره التابع له ، فينقلب حينئذ الحال ، ويصير المتبوع تابعاً والمطاع طائعاً { لعنتم } {[60782]}أي لاءمتم وهلكتم{[60783]} ، ومن أراد دائماً أن يكون أمر الرسول الله صلى الله عليه وسلم تابعاً{[60784]} لأمره فقد زين له الشيطان الكفران ، فأولئك هم الغاوون ، وسياق " لو " معلم قطعاً أن التقدير : ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يطيعكم لكراهة{[60785]} لما يشق عليكم لما هو متخلق به من طاعة الله والوقوف عند حدوده والتقيد في جميع الحركات والسكنات بأمره ، مع ما له من البصرة في التمييز بين الملبسات والخبرة التامة بالأمور المشتبهات ، التي هي سبب هلاك الأغلب لكونها لا يعلمها كثير من الناس ، والتقييد{[60786]} بالكثير معلم بأنهم يصيبون وجه الرشاد في كثير من الأمور .
ولما كان التقدير حتماً بما هدى إليه السياق : ولو خالفتموه في الأمور التي لا-{[60787]} يطيعكم فيها لعنتم ، استدرك عنه قوله : { ولكن الله } أي الملك الأعظم الذي يفعل ما يريد { حبب إليكم الإيمان } فلزمتم طاعته وعشقتم متابعته . ولما كان الإنسان قد يحب شيئاً وهو يعلم فيه عيباً ، فيكون جديراً بأن يتزلزل{[60788]} فيه ، نفى ذلك بقوله : { وزينه في قلوبكم } أي فلا شيء عندكم أحسن منه ولا-{[60789]} يعادله ولا يقاربه بوجه { وكره إليكم الكفر } وهو تغطية ما أدت إليه الفطرة الأولى والعقول المجردة عن الهوى من الحق بالجحود { والفسوق } وهو المروق من ربقة الدين ، ولو من غير تغطية بل بغير تأمل { والعصيان } وهو الامتناع من الانقياد عامة{[60790]} فلم تخالفوه ، ورأيتم خلافه هلاكاً ، فصرتم والمنة لله أطوع شيء للرسول صلى الله عليه وسلم ، فعلم من هذا{[60791]} أن الله تعالى هو الفاعل وحده لجميع الأفعال من الطاعات والمعاصي والعادات والعبادات ، لأنه خالق لكل ، ومدحوا لفعل الله بهم لأنهم الفاعلون في الظاهرة فهو واقع موقع : أطعتم الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تخالفوه{[60792]} ، وإنما وضع-{[60793]} فعل الله وهولا يمدحون عليه موضع فعلهم الذي يمدحون عليه للحث على الشكر والإنسلاخ من العجب .
ولما أرشد السياق إلى متابعتهم على هذا الوجه ، أنتج قوله مادحاً لهم ثانياً الكلام عن خطابهم إلى خطابه صلى الله عليه وسلم ليدل على عظم هذه الأوصاف وبينه بأداة البعد على علو مقام المتصف : { أولئك } أي-{[60794]} الذين أعلى الله {[60795]}القادر على كل شيء{[60796]} مقاديرهم { هم } أي خاصة { الراشدون * } أي الكاملون في الرشد وهو الهدى على أحسن سمت وتقدير ، وفي تفسير الأصبهاني : الرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه - انتهى . والذي أنتج الرشاد متابعة الحق ، فإن الله تكفل لمن تعمد الخير وجاهد نفسه على البر بإصابة الصواب وإحكام المساعي المنافي للندم ، { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } وقد دل السياق على أنهم كانوا في خبر الوليد صنفين : صنف صدقه وأراد {[60797]}غزوة بني{[60798]} المصطلق وأشار به ، وصنف توقف ، وأن الصنفين سلموا آخر الأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهدوا{[60799]} ، فالآية من الاحتباك وهي شبيهة به : دلت الشرطية في { لو يطيعكم } على الاستدراكية ، والاستدراكية في { ولكن الله } على تقدير الشرطية دلالة ظاهرة .