فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

{ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون ، وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } .

{ يسألونك عن الأهلة } أي عن فائدة اختلافها ، لأن السؤال عن ذاتها غير مفيد ، وقد أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عباس قال : نزلت في معاذ ابن جبل وثعلبة ابن عتمة وهما رجلان من الأنصار قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد ، فنزلت هي مواقيت للناس في حل دينهم ولصومهم ولفطرهم ، وأوقات حجهم وجائرهم

وأوقات الحيض وعدد نسائهم والشروط التي إلى أجل ، ولهذا خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة .

والأهلة جمع هلال وجمعها باعتبار هلال كل شهر أو كل ليلة تنزيلا لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات ، والهلال اسم لما يبدو في أول الشهر وفي آخره قال الأصمعي هو هلال حتى يستدير ، وقيل هو هلال حتى ينير بضوئه السماء ، وذلك ليلة السابع ، وإنما قيل له هلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه عند رؤيته ، ومنه استهل الصبي إذ صاح واستهل وجهه وتهلل إذا ظهر فيه السرور والهلال في الحقيقة واحد وجمعه باعتبار أوقاته واختلافه في ذاته ، واختلف أهل اللغة إلى متى يسمى هلالا فقال الجمهور لليلتين ، وقيل لثلاث ثم يكون قمرا ، وقال أبو الهيثم لليلتين من أول الشهر ولليلتين من آخره وما بينهما قمر .

{ قل هي مواقيت } الذي قرره أبو السعود والخازن أن الجواب مطابق للسؤال وفي الآية بيان وجه الحكمة في زيادة الهلال ونقصانه وأن ذلك لأجل بيان المواقيت التي يوقت الناس عبادتهم ومعاملاتهم بها كالصوم والفطر والحج ومدة الحمل والعدة والإجارات والأيمان وغير ذلك ، ومثله قوله تعالى { ولتعلموا عدد السنين والحساب } وقيل هو جواب بغير ما سأل عنه تنبيها على أن الأولى لهم أن يسألوا عن هذا المجاب لا عن سبب الاختلاف فهو من قبيل المغيبات التي لا غرض للمكلف في معرفتها ولا يليق أن تبين له .

والمواقيت جمع الميقات وهو الوقت والفرق بين الوقت وبين المدة والزمان أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها ، والزمان مدة منقسمة إلى الماضي والحال والمستقبل ، والوقت الزمان المفروض لأمر وكل ما جاء في القرآن من السؤال أجيب عنه بقل بلا فاء إلا في طه { ويسألونك عن الجبال فقل } لأن الجواب في الجميع كان بعد وقوع السؤال وفي طه كان قبله إذ تقديره إن سئلت عن الجبال فقل .

{ للناس } أي لأغراضهم الدنيوية والدينية كما أشار بذلك بتعداد الأمثلة إذ الأهلة ليست مواقيت لذوات الناس { والحج } عطف على الناس أي يعلم بها وقته ، فلو استمرت على حالة لم يعرف ذلك ، قال سيبويه : بالفتح كالرد والشد وبالكسر كالذكر مصدران بمعنى وقيل بالفتح مصدر وبالكسر الاسم ، وإنما أفرد سبحانه بالحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت ، ولا يجوز فيه النسء عن وقته ولعظم المشقة على من التبس عليه وقت مناسكه أو أخطأ وقتها أو وقت بعضها .

وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب أعني قوله قل هي مواقيت من الأسلوب الحكيم كما تقدم وهو تلقي الخطاب بغير ما يترقب تنبيها على أنه الأولى بالقصد ، ووجه ذلك أنهم سألوا عن إجرام الأهلة باعتبار زيادتها ونقصانها فأجيبوا بالحكمة التي كانت الزيادة والنقصان لأجلها لكون ذلك أولى بأن يقصده السائل وأحق بأن يتطلع لعلمه .

{ وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها } وجه اتصال هذا بالسؤال عن الأهلة والجواب بأنها مواقيت للناس والحج أن الأنصار كانوا إذا حجوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز أن يحول بينه وبين السماء حائل فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من الصحابة التابعين وقال أبو عبيدة : إن هذا من ضرب المثل ، والمعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن البر التقوى واسألوا العلماء كما تقول أتيت الأمر من بابه ، وقيل هو مثل في جماع النساء وأنهم أمروا بإتيانهن في القبل لا في الدبر ، وقيل غير ذلك ، والبيوت جمع بيت وقرئ بضم الباء وكسرها { واتقوا الله لعلكم تفلحون } قد تقدم تفسير التقوى والفلاح .