فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّـٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ} (176)

{ ولو شئنا } رفعه بما آتيناه من الآيات { لرفعناه بها } أي بسببها إلى منازل العلماء ولكن لم نشأ ذلك لانسلاخه عنها وتركه للعمل بها ، وقيل : المعنى لو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها أي بالعمل بها قاله ابن عباس وقال مجاهد وعطاء : لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات .

{ ولكنه أخلد } أصل الإخلاد اللزوم يقال أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه ، والمعنى هنا أنه مال وسكن على الدنيا ورغب فيها ورضي بها واطمأن وآثرها على الآخرة { إلى الأرض } هي هنا عبارة عن الدنيا لأن بها المفاوز والقفار والمدن والضياع والمعادن والنبات ، ومنها يستخرج ما يعاش به في الدنيا فالدنيا كلها هي الأرض .

{ واتبع هواه } أي ما يهواه وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله وهو حطام الدنيا وقيل كان هواه مع الكفار وقيل : اتبع رضاء زوجته وكانت هي التي حملته على الانسلاخ من آيات الله ، وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء الذين يريدون بعلمهم الدنيا وشهوات النفس ويتبعون الهوى .

{ فمثله كمثل الكلب } أي وصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطا على أسفل رتبة مشابها لأخس الحيوانات في الدناءة مماثلا له في أقبح أوصافه { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } أي في كلتا حالتي قصد الإنسان له وتركه هو لاهث سواء زجر أو ترك ، طرد أو لم يطرد ، شد عليه أو لم يشد ، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء .

والمعنى مثله كمثل الكلب حال كونه متصفا بهذه الصفة أي : إن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوي عن المعصية في جميع أحواله سواء وعظه الواعظ وذكره المذكر وزجره الزاجر أو لم يقع شيء من ذلك ، قال القتيبي : كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة وحال الربي وحال العطش فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال إن وعظته ضل وإن تركته ضل فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث كقوله تعالى : { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم ادعوتموهم أم أنتم صامتون } .

واللهث : إخراج اللسان لتعب أو عطش أو غير ذلك قاله الجوهري قيل معنى الآية إنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا وإن تركته شد عليك ونبح فيتعجب نفسه مقبلا عليك ومدبرا عنك فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان ، يقال لهث الكلب يلهث إذا أدلع لسانه .

{ ذلك } أي التمثيل بتلك الحالة الخسيسة { مثل القوم الذي كذبوا بآياتنا } من اليهود بعد أن علموا بها وعرفوها فحرفوا وبدلوا وكتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذبوا بها ، وقيل عم هذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها وهو الحق لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب { فاقصص القصص } الذي هو صفة الرجل المنسلخ عن الآيات عليهم فإن مثل المذكور كمثل هؤلاء القوم المكذبين من اليهود الذين نقص عليهم { لعلهم يتفكرون } في ذلك ويعملون فيه أفهامهم فينزجرون عن الضلال ويقبلون على الصواب ، وقيل هذا المثل لكفار مكة ولا وجه لتخصيصه بفرد دون فرد والأولى هو العموم .