فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ} (2)

{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } انتصاب الظرف بما بعده ، والضمير يرجع إلى الزلزلة ، أي وقت رؤيتكم لها ، تذهل : كل ذات رضاع عن رضيعها وتغفل عنه . قال قطرب : تذهل تشتغل ، وأنشد قول الشاعر :

ضرب يزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخليل عن خليله

وقيل : تنسى ، وقيل : تلهو . وقيل : تسلو ، وهذه معانيها متقاربة . قال المبرّد : إن «ما » فيما أرضعت بمعنى المصدر أي تذهل عن الإرضاع ، قال : وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا ، إذ ليس بعد القيامة حمل وإرضاع ، إلا أن يقال : من ماتت حاملاً فتضع حملها للهول ، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك ، ويقال : هذا مثل كما يقال : { يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } [ المزمل : 17 ] . وقيل : يكون مع النفخة الأولى ، قال : ويحتمل أن تكون الساعة عبارة عن أهوال يوم القيامة ، كما في قوله : { مَسَّتْهُمُ البأساء والضراء وَزُلْزِلُوا } [ البقرة : 214 ] . ومعنى { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } : أنها تلقي جنينها لغير تمام من شدّة الهول ، كما أن المرضعة تترك ولدها بغير رضاع لذلك { وَتَرَى الناس سكارى } قرأ الجمهور بفتح التاء والراء خطاب لكل واحد ، أي يراهم الرائي كأنهم سكارى { وَمَا هُم بسكارى } حقيقة ، قرأ حمزة والكسائي : " سكرى " بغير ألف ، وقرأ الباقون بإثباتها وهما لغتان يجمع بهما سكران ، مثل كسلى وكسالى ، ولما نفى سبحانه عنهم السكر أوضح السبب الذي لأجله شابهوا السكارى فقال : { ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } فبسبب هذه الشدة والهول العظيم طاشت عقولهم ، واضطربت أفهامهم فصاروا كالسكارى ، بجامع سلب كمال التمييز وصحة الإدراك .

وقرئ : «وترى » بضم التاء وفتح الراء مسنداً إلى المخاطب من أرأيتك أي : تظنهم سكارى . قال الفراء : ولهذه القراءة وجه جيد في العربية .

/خ7