أو من وراء حجاب : أو يكلمه من وراء حجاب .
أو يرسل رسولا : أو يبعث الله الملك للأنبياء ليبلغهم ما أمر الله به .
51- { وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم } .
ذكر غير واحد من المفسرين أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا ، كما كلمه موسى ؟ فنزلت هذه الآية ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( لم ينظر موسى إلى الله تعالى ) .
الوحي نعمة من نعم الله على عباده ، وطريق إلى الهداية ، وفضل إلهي ترسله السماء إلى الأرض بواسطة مَلَك يختاره الله ليوحي إلى رسول مصطفى ومختار من عباد الله ، فما أجلّها من نعمة ، أن يتفضل الإله العلي الحكيم بإنزال هدايات السماء ؛ ليهدي العباد إلى الصراط المستقيم .
ذكر الوحي في كتب علوم القرآن والتفسير على أنه الوسيلة التي يبلغ الله بها عباده التشريع والهداية ، بواسطة اختيار ملك كجبريل ينزل على رسول كمحمد صلى الله عليه وسلم .
تفيد الآية الكريمة أن ما يبلغه الله إلى عباده يتم عن طريق واحدة من ثلاث طرق :
الأولى : إلقاء المعنى في قلب النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق رؤيا منامية ، كما حدث لإبراهيم عليه السلام ، حين أمره الله بذبح ولده إسماعيل ، وأحيانا يلقي المعنى في قلب الرسول يقظة ، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب )22 .
الثانية : سماع الرسول كلام الله من وراء حجاب ، بأن يسمعه الرسول من الله بدون واسطة ، متيقنا أنه كلام الله من حيث لا يُرى سبحانه وتعالى ، كما كلم موسى عليه السلام ، وسمى الله ذلك وحيا ، فقال : { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } . ( طه : 13 ) ، وقال سبحانه : { وكلّم الله موسى تكليما } . ( النساء : 164 ) . وكان موسى قد طلب الرؤية بعد التكلم فحجب عليها .
قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } . ( الأعراف : 143 ) .
الثالثة : أن يرسل الله تعالى ملكا من الملائكة إما جبريل أو غيره ، فيوحى ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء الله أن يوحى إليه ، كما كان جبريل عليه السلام وغيره من الملائكة ينزلون على الأنبياء عليهم السلام ، والقرآن الكريم جميعه نزل عن طريق الوحي الجليّ في هذه الصورة الثالثة ، بواسطة جبريل عليه السلام يتلقاه عنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم متيقنا أن ذلك من عند الله ، وهو وحي الله إلى رسوله ليبلغه إلى عباده .
قال تعالى : { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } . ( الشعراء : 193-195 ) .
وقال تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . . . } ( المائدة : 67 ) .
وقال تعالى : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى } . ( النجم : 3-7 ) .
وقد أفاد النبي صلى الله عليه وسلم أن الوحي كان يأتيه مثل صلصلة الجرس23 ، حيث يغيب النبي صلى الله عليه وسلم عمن حوله ، ويتفرغ بروحه وكل شئونه لاستقبال ذلك الوحي ، فإذا انتهى الوحي عاد إلى من حوله ، وأحيانا يتمثل الملك رجلا فيكلم الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويعي الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله الملك .
قالت عائشة : ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ، أي : يسيل عرقا .
هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الرب جل وعلا ، فتارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم وحيا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل .
وقوله تعالى : { أو من وراء حجاب . . . } أي : كما كلم موسى عليه السلام ، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما : ( ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحا )24 ، كذا جاء في الحديث ، وكان قد قتل يوم أحد ، ولكن هذا في عالم البرزخ ، والآية إنما هي في الدار الدنيا .
وقوله عز وجل : { أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء . . . } كما ينزل جبريل عليه السلام ، وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
{ إنه علي حكيم } . فهو علي عليم ، خبير حكيم .
{ وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلا وحيا . . . }
يوحي إليه فيلهمه ويقذف ذلك في قلبه ، كما أوحى إلى أم موسى ، وإلى إبراهيم في ذبح ولده ، والوحي هو الإخبار بسرعة على وجه الخفية .
{ أو من وراء حجاب . . . } كما كلم موسى عليه السلام ، يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى .
{ أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء . . }
أي : يرسل ملكا فيوحي ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحى إليه .
أي : متعال عن صفات النقص ، حكيم في كل أحكامه .
ثم إن هذه الأنواع من الوحي كلها قد حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم . اه .
( أ ) أي أن الله قد قذف في قلبه أن الإنسان لن يموت حتى يستوفي أجله ورزقه .
( ب ) وقد كلمه الله من وراء حجاب ليلة الإسراء والمعراج .
( ج ) وقد نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم خلال ثلاثة وعشرين عاما من عمره الشريف ، حيث بدأ نزول الوحي عليه في مكة وعمره أربعون عاما ، واستمر الوحي ينزل عليه ثلاثة عشر عاما في مكة قبل الهجرة ، ثم نزل عليه الوحي عشرة أعوام بالمدينة ، وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وعمره ثلاثة وستون عاما .
وما نزل من القرآن بمكة يسمى مكيا ، وما نزل بالمدينة بعد الهجرة سمي مدنيا ، ونجد في كتب علوم القرآن بحوثا مستفيضة عن الوحي المكي والمدني ، المحكم والمتشابه ، فواتح السور ، كتابة القرآن في الألواح ، وجمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق ، وكتابة القرآن الكريم على لغة قريش في عهد عثمان ، والمصحف العثماني نقطه وتشكيله ، وتجويد كتابته ، ووضع علامات الربع والحزب والجزء ، وعلامات الوقف والوصل والسجدة ، ووضع إطار حول كل صفحة ، واستمرار تحسين خط المصحف عبر العصور الإسلامية ، فالمصحف القرآني أصدق وثيقة وأنقى نص عرفه التاريخ 25 ، لأن الله تعالى تعهد بحفظه فقال : { إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون } . ( الحجر : 9 ) .
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ } أي ما صح لفرد من أفراد البشر .
{ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء } ظاهره حصر التكليم في ثلاثة أقسام . الأول : الوحي وهو المراد بقوله تعالى : { إِلاَّ وَحْياً } وفسره بعضهم بالإلقاء في القلب سواء كان في اليقظة أو في المنام والإلقاء أعم من الإلهام فإن إيحاء أم موسى إلهام وإيحاء إبراهيم عليه السلام إلقاء في المنام وليس إلهاماً وإيحاء الزبور إلقاء في اليقظة كما روى عن مجاهد وليس بإلهام ؛ والفرق أن الإلهام لا يستدعي صورة كلام نفساني فقد وقد وأما اللفظي فلا ، وأما نحو إيحاء الزبور فيستدعيه ، وقد جاء إطلاق الوحي على الإلقاء في القلب في قول عبيد بن الأبرص :
وأوحى إلى الله أن قد تأمروا *** بابل أبي أوفي فقمت على رجلي
فإنه أراد قذف في قلبي . والثاني : إسماع الكلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه كما كان لموسى وكذا الملائكة الذين كلمهم الله تعالى في قضية خلق آدم عليه السلام ونحوهم وهو المراد بقوله سبحانه : { أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } فإنه تمثيل له سبحانه بحال الملك المتحجب الذي يكلم بعض خواصه من وراء حجاب يسمع صوته ولا يرى شخصه . والثالث : إرسال الملك كالغالب من حال نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حال كثير من الأنبياء عليهم السلام ، ، وزعم أنه من خصوصيات أولي العزم من المرسلين غير صحيح وهو المراد بقوله عز وجل : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } أي ملكاً { فَيُوحِىَ } ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري { بِإِذْنِهِ } أي بأمره تعالى وتيسيره سبحانه : { مَا يَشَاء } أن يوحيه ، وهذا يدل على أن المراد من الأول الوحي من الله تعالى بلا واسطة لأن إرسال الرسول جعل فيه إيحاء ذلك الرسول ، وبني المعتزل على هذا الحصر أن الرؤية غير جائزة لأنها لو صحت لصح التكليم مشافهة فلم يصح الحصر ، وقال بعض : المراد حصر التكليم في الوحي بالمعنى المشهور والتكليم من وراء حجاب وتكليم الرسل البشريين مع أممهم ، واستبعد بأن العرف لم يطرد في تسمية ذلك إيحاء ، وقال القاضي إن قوله تعالى : { إِلاَّ وَحْياً } معناه إلا كلاماً خفياً يدرك بسرعة وليس في ذاته مركباً من حروف مقطعة وهو ما يعم المشافهة كما روى في حديث المعراج وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى عليه السلام في الطور لكن عطف قوله تعالى : { أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها ، وإلى الأول ذهب الزمخشري وانتصر له صاحب الكشف عفا الله تعالى عنه فقال : وأما نحن فنقول والله تعالى أعم : إن قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ } على التعميم يقتضي الحصر بوجه لا يخص التكلم بالأنبياء عليهم ويدخل فيه خطاب مريم وما كان لأم موسى وما يقع للمحدثين من هذه الأمة وغيرهم فحمل الوحي على ما ذهب إليه الزمخشري أولى .
ثم أنه يلزم القاضي أن لا يكون ما وقع من وراء حجاب وحياً لا أنه يخصصه لأنه نظير قولك : ما كان لك أن تنعم إلا على المساكين وزيد ، نعم يحتمل أن يكون زيد داخلاً فيهم على نحو { ملائكته . . . وَجِبْرِيلُ } [ البقرة : 98 ] وهذا يضر القاضي لاقتضائه أن يكون هذا القسم أعني ما وقع من وراء حجاب أعلا المراتب فلا يكون الثاني هو المشافهة ، وتقدير إلا وحياً من غير حجاب أو من وراء حجاب خلاف الظاهر وفيه فك للنظم لقوله سبحانه : { أَوْ يُرْسِلَ } وهو عطف على قوله تعالى : { إِلاَّ وَحْياً } مع كونه خلاف الظاهر .
وعلى هذا يفسد ما بني عليه من حديث التنزل من القسم الأعلى إلى ما دونه ، ومع ذلك لا يدل على عدم وقوع الرؤية فضلاً عن جوازه بل دل على أنها لو وقعت لم يكن معها المكالمة وذلك هو الصحيح لأن الرؤية تستدعي الفناء والبقاء به عز وجل وهو يقتضي رفع حجاب المخاطب المستدعي كوناً وجودياً ثم الكامل لتوفيته حق المقامات الكبرى يكون المحتظى منه بالشهود في مقام البقاء المذكور ومع ذلك لا يمنعه عن حظه من سماع الخطاب لأنه حظ القلب المحجوب عن مقام الشهود ، والمقصود أن الذي يصح ذوقاً ونقلاً وعقلاً كون الخطاب من وراء حجاب البتة وهو صحيح لكن لا ينفع منكر الرؤية ولا مثبتها ، وأما سؤال الترقي في الأقسام فالجواب عنه أن الترقي حاصل بين الأول والثاني الذي له سمي الكليم كليماً ، وأما الثالث : فلما كان تكليماً مجازياً أخر عن القسمين ولم ينظر إلى أنه أشرف من القسم الأول فإن ذلك الأمر غير راجع إلى التكليم بل لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم السلام انتهى .
وتعقب ما اعترض به على القاضي بأنه لا يرد لأن الوحي بذلك المعنى بالتخصيص المذكور والتقييد المأخوذ من التقابل صار مغايراً لما بعده وليس من شيء من القبيلين حتى يذهب إلى الترقي أو التدلي لأنه لا يعطف بأو بل بالواو كما لا يخفي ، ولزوم أن لا يكون الواقع من وراء حجاب وحياً غير مسلم لأنه إن أراد أن لا يكون وحياً مطلقاً فغير صحيح لأن قوله تعالى بعده : فيوحى بأنه قرينة على أن المراد بالوحي السابق وحي مخصوص كالذي بعده وإن أراد أنه لا يكون من الوحي المخصوص السابق فلا يضره لأنه عين ما عناه ، نعم الحصر على ما ذهب إليه القاضي غير ظاهر إلا بعد ملاحظة أنه مخصوص بما كان بالكلام فتدبر ، والظاهر أن عائشة رضي الله تعالى عنها حملت الآية على نحو ما حملها المعتزلة ، أخرج البخاري .
ومسلم . والترمذي عنها أنها قالت : «من زعم أن محمداً رأى ربه فقد كذب ثم قرأت { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير } [ الأنعام : 103 ] { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } » وأنت تعلم أن أكثر العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه ليلة الإسراء لكثرة الروايات المصرحة بالرؤية نعم ليس فيهيا التصريح بأنها بالعين لكن الظاهر من الرؤية كونها بها ، والمروي عن الأشعري وجمع من المتكلمين أنه جل شأنه كله عليه الصلاة والسلام تلك الليلة بغير واسطة ويعزى ذلك إلى جعفر بن محمد الباقر . وابن عباس . وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم وهو الظاهر للأحاديث الصحاح في مرادة الصلاة واستقرار الخمسين على الخمس وغير ذلك ، وعائشة رضي الله تعالى عنها لم تنف الرؤية إلا اعتماداً على الاستنباط من الآيات ولو كان معها خبر لذكرته ، واحتجاجها بما ذكر من الآيات غير تام ، أما عدم تمامية احتجاجها بآية لا تدركه الأبصار فمشهور ، وأما عدم تمامية الاحتجاج بالآية الثانية فلما سمعت عن «صاحب الكشف » قدس سره ، وقال الخفاجي بعد تقرير الاحتجاج بأنه تعالى حصر تكليمه سبحانه للبشر في الثلاثة : فإذا لم يره جل وعلا من يكلمه سبحانه في وقت الكلام لم يره عز وجل في غيره بالطريق الأولى وإذا لم يره تعالى هو أصلاً لم يره سبحانه غيره إذ لا قائل بالفصل ، وقد أجيب عنه في الأصول بأنه يحتمل أن يكون المراد حصر التكليم في الدنيا في هذه الثلاثة أو نقول يجوز أن تقع الرؤية حال التكليم وحياً إذا لوحي كلام بسرعة وهو لا ينافي الرؤية انتهى ، ولا يخفي عليك أن الجواب الأول لا ينفع فيما نحن بصدده إلا بالتزام أن ما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام تلك الليلة لا يعد تكليماً في الدنيا على ما ذكره الشرنبلالي في إكرام أولي الألباب لأنه كان في الملكوت الأعلى وأنه يستفاد من كلام «صاحب الكشف » منع ظاهر للشرطية في وجه الاستدلال الذي قرره ، وبعضهم أجاب بأن العام مخصص بغير ما دليل وفي «البحر » قيل «قالت قريش : ألا تلكم الله تعالى وتنظر إليه إن كنت نبياً صادقاً كما كلم جل وعلا موسى ونظر إليه تعالى فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : " لم ينظر موسى عليه السلام إلى الله عز وجل فنزلت { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ } الآية " وهذا ظاهر في أن الآية لم تتضمن التكليم الشفاهي مع الرؤية وكذا ما فيه أيضاً كان من الكفار خوض في تكليم الله تعالى موسى عليه السلام فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم فنزلت فإن عدم تضمنها ذلك أدفع لتوهم التجسيم ، وبالجملة الذي يترجح عندي ما قاله «صاحب الكشف » قدس سره أن الآية لا تنفع منكر الرؤية ولا مثبتها وما ذكر من سبب النزول ليس بمتيقن الثبوت ، ويفهم من كلام بعضهم أن الوحي كما يكون بالإلقاء في الروع يكون بالخط فقد قال النخعي كان في الأنبياء عليهم السلام من يخط له في الأرض ، ومعناه اللغوي يشمل ذلك ، فقد قال الإمام أبو عبد الله التيمي الأصبهاني : الوحي أصله التفهيم وكل ما فهم به شيء من الإلهام والإشارة والكتب فهو وحي ، وقال الراغب : أصل الوحي الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي وذلك يكون بالكلام على الرمز والتعريض ، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة ، وقد حمل على ذلك قوله تعالى :
{ فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً } [ مريم : 11 ] فقد قيل رمز وقيل اعتبار وقيل كتب وجعل التسخير من الوحي أيضاً وحمل عليه قوله تعالى : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } [ النحل : 68 ] وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للصوفية قدست أسرارهم من الكلام في هذه الآية ، و { وَحْياً } على ما قال الزمخشري مصدر واقع موقع الحال وكذا أن يرسل لأنه بتأويل إرسالاً ، و { مِن وَرَاء حِجَابٍ } ظرف واقع موقع الحال أيضاً كقوله تعالى : { وعلى جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 191 ] والتقدير وما صح أن يكلم أحداً في حال من الأحوال إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً . وتعقبه أبو حيان فقال : وقوع المصدر حالاً لا ينقاس فلا يجوز جاء زيد بكاءً تريد باكياً ، وقاس منه المبرد ما كان نوعاً للفعل نحو جاء زيد مشياً أو سرعة ومنع سيبويه من وقوع أن مع الفعل موقع الحال فلا يجوز جاء زيد أن يضحك في معنى ضحكاً الواقع موقع ضاحكاً .
وأجيب عن الأول بأن القرآن يقاس عليه ولا يلزم أن يقاس على غيره مع أنه قد يقال : يكتفي بقياس المبرد ، وعن الثاني بأنه علل المنع بكون الحاصل بالسبك معرفة وهي لا تقع حالاً ، وفي ذلك نظر لأنه غير مطرد ففي شرح التسهيل أنه قد يكون نكرة أيضاً ألا تراهم فسروا { أن يَفْتَرِى } بمفترى ، وقد عرض ابن جني ذلك على أبي علي فاستحسنه ، وعلى تسليم الاطراد فالمعرفة قد تكون حالاً لكونها في معنى النكرة كوحدة ، والاقتصار على المنع أولى لمكان التعسف في هذا ، واختار غير واحد إن وحياً بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأنه نوع من الكلام أو بتقدير إلا كلام وحي و { مِن وَرَاء حِجَابٍ } صفة كلام أو سماع محذوف وصفة المصدر تسد مسده والإرسال نوع من الكلام أيضاً بحسب المآل والاستثناء عليه مفرغ من أعم المصادر ، وقال الزجاج : قال سيبويه سألت الخليل عن قوله تعالى : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } بالنصب فقال : هو محمول على أن سوى هذه التي في قوله تعالى : أن يكلمه الله لما يلزم منه أن يقال : ما كان لبشر أن يرسل الله رسولاً وذلك غير جائز ، والمعنى ما كان لبشر { أَن يُكَلّمَهُ الله } إلا بأن يوحي أو أن يرسل ، وعليه أن يقدر في قوله تعالى : { أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وأي داع إلى ذلك مع ما سمعت ؟ واختلف في الاستثناء هل هو متصل أو منقطع وأبو البقاء على الانقطاع .
وتعقبه بعضهم بأن المفرغ لا يتصف بذلك والبحث شهير . وقرأ ابن أبي عبلة { أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وأي داع إلى ذلك مع ما سمعت ؟ واختلف في الاستثناء هل هو متصل أو منقطع وأبو البقاء على الانقطاع . وتعقبه بعضهم بأن المفرغ لا يتصف بذلك والبحث شهير . وقرأ ابن أبي عبلة { أَوْ مِن وَرَاء } بالجمع . وقرأ نافع . وأهل المدينة { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ } برفع الفعلين ووجهوا ذلك بأنه على إضمار مبتدأ أي هو يرسل أو هو معطوف على { وَحْياً } أو على ما يتعلق به { مِن وَرَاء } بناءً على أن تقديره أو يسمع من وراء حجاب ، وقال العلامة الثاني : إن التوجيه الثاني وما بعده ظاهر وهو عطف الجملة الفعلية الحالية على الحال المفردة ، وأما إضمار المبتدأ فإن حمل على هذا فتقدير المبتدأ لغو ، وإن أريد أنها مستأنفة فلا يظهر ما يعطف عليه سوى { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } الخ وليس بحسن الانتظام . وتعقب بأنه يجوز أن يكون تقدير المبتدأ مع اعتبار الحالية بناءً على أن الجملة الاسمية التي الخبر فيها جملة فعلية تفيد ما لا تفيده الفعلية الصرفة مما يناسب حال إرسال الرسول ، أو يقال : لا نسلم أن العطف على { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } ليس بحسن الانتظام ، وفيه دغدغة لا تخفي ، وفي الآية على ما قال ابن عطية دليل على أن من حلف أن لا يكلم فلاناً فراسله حنث لاستثنائه تعالى الإرسال من الكلام ، ونقله الجلال السيوطي في أحكام القرآن عن مالك وفيه بحث والله تعالى الهادي .
{ إِنَّهُ عَلِىٌّ } متعال عن صفات المخلوقين { حَكِيمٌ } يجري سبحانه أفعاله على سنن الحكمة فيكلم تارة بواسطة وأخرى بدونها إما إلهاماً وإما خطاباً أو إما عياناً وإما خطاباً من وراء حجاب على ما يقتضيه الاختلاف السابق في تفسير الآية .
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فيوحي بِإِذْنِهِ مَن يَشَآء إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ } [ الشورى : 51 ] قال سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني في تفسيره الآية المذكورة : اعلم أن المانع من سماع كلام الحق إنما هو البشرية فإذا ارتفع العبد عنها كلمه الله تعالى من حيث كلم سبحانه الأرواح المجردة عن المواد ، والبشر ما سمي بشراً إلا لمباشرته الأمور التي تعوقه عن اللحوق بدرجة الروح فلما لم يلحق كلمه الله تعالى في الأشياء وتجلى سبحانه له فيها بخلاف من لحق كالأنبياء عليهم السلام فلا يتجلى الحق سبحانه لغيرهم إلا في حجاب الصدور ولولا هدايته تعالى للعبد ما عرف أنه سبحانه ربه ، واعلم أن الحقيقة تأبى أن يكلم الله تعالى غير نفسه أو يسمع غير نفسه فلا بد إذا خاطب عبداً على قصد إسماعه أن يكون جميع قواه لأنه محال أن يطيق الحادث سماع كلام القديم ولم يكن الحق سبحانه قواه عند النجوى ولذلك خر موسى عليه السلام صعقاً إذ لم يكن له استعداد يقبل به التجلي اللائق بمقامه وثبت نبينا صلى الله عليه وسلم ولما لم يكن للجبل درجة المحبة التي يكون بها الحق سمع عبده وبصره وجميع قواه لم يقدر على سماع الخطاب فدك ، واعلم أن حديث الحق سبحانه للخلق لا يزال أبداً غير أن من الناس من يفهم أنه حديث كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ومن ورثه من الأولياء ومنهم من لا يعرف ذلك ويقول : ظهر لي كذا وكذا ولا يعرف أن ذلك من حديث الحق سبحانه معه وكان شيخنا يقول : كان عمر من أهل السماع المطلق الذي يحدثهم الله تعالى في كل شيء ولكن له ألقاب وهو أنه إن أجابوه به تعالى فهو حديث وإن أجابوه بهم فهي محادثة وإن سمعوا حديثه سبحانه فليس بحديث في حقهم وإنما هو خطاب أو كلام ، وقد ورد في المتهجدين أنهم أهل المسامرة فقد علمت أن الوحي ما يلقيه الله تعالى في قلوب خواص عباده على جهة الحديث فيحصل لهم من ذلك علم بأمر ما فإن لم يكن كذلك فليس بوحي ولا خطاب فإن بعض الناس يجدون في قلوبهم علماً بأمر ما مثل العلوم الضرورية عند الناس فهو علم صحيح لكن ليس صادراً عن خطاب وكلامنا إنما هو في الخطاب الإلهي المسمى وحياً فإن الله تعالى جعل هذا الصنف من الوحي كلاماً يستفيد به العلم من جاء له .
واعلم أنه لا ينزل على قلوب الأولياء من وحي الإلهام إلا دقائق ممتدة من الأرواح الملكية لا نفس الملائكة لأن الملك لا ينزل بوحي على غير نبي أصلاً ولا يأمر بأمر إلهي قطعاً لأن الشريعة قد استقرت فلم يبق إلا وحي المبشرات وهو الوحي الأعم ويكون من الحق إلى العبد من غير واسطة ويكون أيضاً بواسطة والنبوة من شأنها الواسطة فلا بد من واسطة الملك فيها لكن الملك لا يكون حال إلقائه ظاهراً بخلاف الأنبياء عليهم السلام فإنهم يرون الملك حال الكلام والولي لا يشهد الملك إلا في غير حال الإلقاء فإن سمع كلامه لم يره وإن رآه لا يكلمه فالعارفون لا ينالون ما فاتهم من النبوة مع بقاء المبشرات عليهم إلا أن الناس يتفاضلون فمنهم من لا يبرح في بشارة الواسطة ومنهم من يرتفع عنها كالأفراد فإن لهم المبشرات بارتفاع الوسائط وما لهم النبوات ولهذا ينكر عليهم الأحكام لأنهم ضاهوا الأنبياء من حيث كونهم يعملون بما يرونه من تعريفات الحق لهم كأنه شريعة مستقلة في الظاهر وليس ذلك بشريعة إنما هو بيان لها فالمنقطع إنما هو وحي التشريع لا غير أما التعريف لأمور مجملة في السنة فهو باق لهذه الأمة ليكونوا على بصيرة فيما يدعون الناس إليه لأنه خبر إلهي وأخبار من الله تعالى للعبد على يد ملك مغيب على هذا الملهم ، ولا يكون الإلهام إلا في الخير و { ألهمها فجورها } [ الشمس : 8 ] فجورها على معنى إلهامها إياه لتجتنبه كما أن إلهامها تقواها لتعمل بها ، وأكمل الإلهام أن يلهم اتباع الشرع والنظر في الكتب الإلهية ويقف عند حدودها وأوامرها حتى يزول صدى طبيعته وتنتقش فيها صور العالم ، وأما قوله تعالى : { أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } فهو خطاب إلهي يلقيه على السمع لا على القلب فيدركه من ألقي إليه فيفهم منه ما قصده من يسمعه ذلك وقد يحصل له ذلك في صورة التجلي فتخاطبه تلك الصورة وهي عين الحجاب فيفهم من ذلك الخطاب علم ما يدل عليه ويعلم أن ذلك حجاب وأن المتكلم من وراء ذلك الحجاب وكل من أدرك صورة التجلي الإلهي يعلم أن ذلك هو الله تعالى فما يزيد صاحب هذا الحال على غيره إلا بمعرفته أن المخاطب له من وراء الحجاب .
وأما قوله تعالى : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } فهو ما ينزل به الملك أو ما يجيء به الرسول البشرى إلينا إذا نقلا كلام الله تعالى خاصة كالتالين فإن نقلا علماً وجداه في أنفسهما وأفصحا عنه فذلك ليس بكلام إلهي ، ومن الأولياء من يعطي الترجمة عن الله سبحانه في حال الإلقاء والوحي الخاص بكل إنسان فيكون المترجم موجداً لصور الحروف اللفظية أو المرقومة ويكون روح تلك الصور كلام الله عز وجل لا غير ، وقد يقول الولي : حدثني قلبي عن ربي يعني به من الوجه الخاص فاعلم ذلك وتأمل ما قررته لك فإنه نفيس والله تعالى يتولى هداك ، وله قدس سره كلام كثير في هذا المقام تركناه خوف الإطالة ، ولعل فيما ذكرناه كفاية لذوي الأفهام
{ 51-53 } { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ }
لما قال المكذبون لرسل الله ، الكافرون بالله : { لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } من كبرهم وتجبرهم ، رد الله عليهم بهذه الآية الكريمة ، وأن تكليمه تعالى لا يكون إلا لخواص خلقه ، للأنبياء والمرسلين ، وصفوته من العالمين ، وأنه يكون على أحد هذه الأوجه .
إما أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ وَحْيًا بأن يلقي الوحي في قلب الرسول ، من غير إرسال ملك ، ولا مخاطبة منه شفاها .
{ أَوْ } يكلمه منه شفاها ، لكن { مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } كما حصل لموسى بن عمران ، كليم الرحمن .
{ أَوْ } يكلمه الله بواسطة الرسول الملكي ، ف { يُرْسِلَ رَسُولًا } كجبريل أو غيره من الملائكة .
{ فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ } أي : بإذن ربه ، لا بمجرد هواه ، { إِنَّهُ } تعالى علي الذات ، علي الأوصاف ، عظيمها ، علي الأفعال ، قد قهر كل شيء ، ودانت له المخلوقات . حكيم في وضعه كل شيء في موضعه ، من المخلوقات والشرائع .