تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

27

المفردات :

الرؤيا : هي رؤيا منامية رآها صلى الله عليه وسلم في منامه أنه دخل المسجد الحرام معتمرا ، وصدق الله رسوله الرؤيا ، أي : صدقه في رؤياه ولم يكذبه .

لتدخلن : جواب لقسم محذوف ، أي : والله لتدخلن أيها المؤمنون المسجد الحرام في عامكم المقبل .

آمنين : حال كونكم آمنين من كل فزع .

محلقين : حال كون بعضكم يحلق شعر رأسه كله .

ومقصرين : وبعضكم يكتفي بقص جزء منه .

التفسير :

27- { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } .

هذه الآية تأكيد لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه ، وبيان لحكمة العلي القدير في تأخير فتح مكة ، وفي إنجاز صلح الحديبية .

فائدة

جزيرة العرب عبارة عن صحراء واسعة ، تعتمد هذه الصحراء على المدن القريبة منها في بيع منتجاتها ، من الألبان واللحوم والزراعة والخضر والفاكهة ، ويشتري الأعراب من هذه المدن ما يلزمهم من الكساء والفراش وغير ذلك ، وقد كانت فتوحات الرسول صلى الله عليه وسلم وغزواته أفعالا منظمة مرتبة لحكم عالية ، وضعت في حسبانها أن تتم السيطرة على المدينة وما حولها ، وأن يتم قطع الطريق على تجارة مكة ، حتى تضطر إلى التسليم بالإسلام ، أو مهادنته رهبة أو رغبة ، والمتأمل في تاريخ السرايا والغزوات يرى أنها حققت ذلك .

وفي أول حياة المسلمين بالمدينة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرايا استطلاعية لتعرف أحوال مكة وأخبار تجارتها ، خصوصا المتحركة إلى الشام ، حيث تمر بطريق المدينة ، فمكة في جنوب الجزيرة ، والشام في شمالها ، والمدينة في الوسط ، وكانت بدر الصغرى وبدر الكبرى دروسا موجهة إلى أهل مكة ، وتمت غزوة أحد وغزوة الخندق ، وفي أعقاب غزوة الخندق قال صلى الله عليه وسلم : ( سنغزو مكة ولا تغزونا بعد ذلك ) ، ثم تم صلح الحديبية ، وبحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم تم فتح خيبر بعد شهرين من صلح الحديبية ، ومن يسيطر على خيبر يمكنه التحكم في الأعراب المحيطة بها ، وكان من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحرم مكة من حلفائها ، أو ممن ينسِّقون معها في حرب المسلمين ، وأخذ صلى الله عليه وسلم يعقد معاهدات ومصالحات ، ويستقبل وفودا من العرب ، حتى سمى العام السابع الهجري بعام الوفود ، من كثرة الوفود التي قدمت من حول مكة ، آمنة على نفسها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي عمرة القضاء شاهد الصبيان والنساء بمكة المسلمين في نسكهم وعبادتهم ، وناقشوهم في مبادئ الإسلام ، وتهيأت مكة لاستقبال الإسلام رغبة أو رهبة ، لقد حَرَم الرسول صلى الله عليه وسلم مكة من عدد من الحلفاء ، وعقد معاهدات ومصالحات مع عدد من العرب في أنحاء الجزيرة ، ورأى أهل مكة أن الإسلام هو دين الغد ، وأن مكة ستسقط في يد المسلمين عاجلا أم آجلا ، وقد كان صلح الحديبية أعظم فتح في تاريخ المسلمين ، فقد تضاعف به عدد المسلمين ، ويسّر الطريق لفتح خيبر ، ثم لعمرة القضاء ، ثم لفتح مكة بقليل من الجهد ، مع الحفاظ على حرمة البيت الحرام وحرمة مكة ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إنما أباحها الله لي ساعة من نهار ) .

ومن ذلك نعلم أن الغزوات لم تكن ردود أفعال كما يتوهم بعض كتاب السيرة ، وإنما كانت خطة محكمة ، اعتمدت على تدريب الرجال ، وإرسال السرايا ، وإعداد المخابرات والعيون ، وتوقيع المعاهدات ، والاستيلاء على الأماكن المؤثّرة ، والالتفاف حول مكة ، والتأثير على تجارتها ، وإفهامها أن مصلحتها في مهادنة الإسلام ، ثم التمهيد لفتح مكة بأقل التضحيات ، ثم فتح الطائف ، ثم توجيه المسلمين إلى تبوك ، وتهيئة الصحابة ليقودوا معارك في بلاد الفرس وبلاد الروم في مستقبل أمرهم ، حتى أنه لم تمض على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عشر سنوات حتى ورث المسلمون ممالك الفرس والروم .

مع يقيننا بأن قدرة الله القادرة وتوفيقه العظيم ، وهدايته لرسوله ، وبشارته بالنصر ، ومعونة الله له بالملائكة والهداية والتوفيق ، كانت من أهم أسباب النصر .

قال تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر } . ( المدثر : 31 ) .

وقال تعالى : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم * ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } . ( الأنفال : 17 ، 18 ) .

عود إلى التفسير

معنى الآية :

والله لقد صَدَق الله رسوله وما كذبه ، فالله هو الذي أراه الرؤيا بالحق ، وكانت الرؤيا سببا في صلح الحديبية ، وقال بعض الناس أو بعض المنافقين : لم ندخل المسجد الحرام ، فنزلت هذه الآية : { لتدخلن المسجد الحرام . . . } أي في عمرة القضاء ، { إن شاء الله . . . } تأكيد من الله العليم بكل شيء ، وتعليم لنا ونحن لا علم لنا ، أي : ستدخلن المسجد الحرام بمشيئة الله وتوفيقه ، لا بسبب قوتكم أو أسلحتكم .

{ آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين . . . }

حال كونكم آمنين من عدوان أهل مكة ، تتمتعون بالأمن وأداء العمرة ، بعضكم يتحلل من إحرامه بالحلق لرأسه كاملا ، وبعضكم يتحلل من إحرامه بتقصير شعر رأسه ، والحلق أفضل بالنسبة للرجل ، أما المرأة فليس لها إلا التقصير .

{ لا تخافون . . . }

تأكيد للأمن ، ولتكفّل الله بإلقاء الرعب في قلوب أهل مكة ، ولتطمين المسلمين بأنهم سيؤدون عمرة القضاء آمنين لا يخافون ، وهو تأكيد مقصود في أعقاب غزوات متعددة ، وتعنت من أهل مكة في معاهدة الحديبية .

{ فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } .

إن حكمة الله أن تسير الأمور في أسبابها ، وسقوط خيبر في يد المسلمين حرم كفار مكة من حلفاء أشداء ، وحرم اليهود في خيبر من حرية الحركة ، وألقى الرعب في قلوب أهل مكة ، ويسر فتح مكة على المسلمين في الوقت المناسب ، والله تعالى عالم الغيب لذلك جعل فتح خيبر قبل فتح مكة ، أو جعل صلح الحديبية قبل فتح مكة .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

{ لقد صدق الله ورسوله . . . } أي حقق رؤياه بالحق ، وذلك في عمرة القضاء . وكان صلى الله عليه وسلم رأى في منامه قبل الحديبية كأنه هو وأصحابه حلقوا وقصّروا : فأخبر بها أصحابه ففرحوا ، " وحسبوا أنهم سيدخلون مكة عامهم ذلك ، فلما رجعوا من الحديبية دون أن يدخلوا مكة قال المنافقون : والله ما حلقنا ولا قصّرنا ولا دخلنا المسجد الحرام ؛ فأنزل الله هذه الآية . ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المسجد الحرام آمنين في العام القابل ، وحلق بعضهم وقصّر بعضهم بعد سعي العمرة ، { فعلم ما لم تعلموا } من المصلحة في الصلح عام الحديبية وفي عدم دخولكم مكة فيه . { فجعل من دون ذلك } أي من قبل دخولكم الحرم{ فتحا قريبا } هو فتح خيبر ، يقويكم به على أعدائكم . أو هو صلح الحديبية . أو هما ، ورجّحه الطبري .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءۡيَا بِٱلۡحَقِّۖ لَتَدۡخُلُنَّ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمۡ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَۖ فَعَلِمَ مَا لَمۡ تَعۡلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتۡحٗا قَرِيبًا} (27)

ولما {[60478]}قرر سبحانه وتعالى علمه{[60479]} بالعواقب لإحاطة علمه ووجه أسباب كفه أيدي الفريقين وبين ما فيه من المصالح وما في التسليط من المفاسد من قتل{[60480]} من حكم بإيمانه من المشركين وإصابة من لا يعلم{[60481]} من المؤمنين - وغير ذلك إلى أن ختم بإحاطة علمه المستلزم لشمول قدرته . أنتج ذلك قوله لمن توقع الإخبار عن الرؤيا التي أقلقهم أمرها وكاد بعضهم أن يزلزله ذكرها على سبيل التأكيد : { لقد } .

ولما كان للنظر إلى الرؤيا اعتباران : أحدهما من جهة الواقع وهو غيب{[60482]} عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين : والآخر من جهة الإخبار وهو مع الرؤيا شهادة بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ، عبر بالصدق والحق فقال تعالى : { صدق الله } أي الملك الذي لا كفوء له المحيط بجميع صفات الكمال { رسوله } صلى الله عليه وسلم الذي هو أعز الخلائق عنده وهو غني عن الإخبار عما لا يكون أنه يكون ، فكيف إذا كان المخبر رسوله { الرؤيا } التي هي من الوحي لأنه سبحانه يرى الواقع ويعلم مطابقتها في أنكم تدخلون المسجد الحرام آمنين يحلق بعض ويقصر{[60483]} آخرون ، متلبساً خبره ورؤيا رسوله صلى الله عليه وسلم { بالحق } لأن مضمون الخبر إذا وقع فطبق بين الواقع وبينه ، وكان الواقع يطابقه لا يخرم {[60484]}شيء منه{[60485]} عن شيء منه{[60486]} ، والحاصل أنك إذا نسبتها للواقع طابقته فكان صدقاً ، وإذا نسبت الواقع إليها طابقها فكانت{[60487]} حقاً .

ولما أقسم لأجل التأكيد لمن كان يتزلزل ، أجابه بقوله مؤكداً بما يفهم القسم أيضاً إشارة إلى عظم الزلزال : { لتدخلن } أي بعد هذا دخولاً قد-{[60488]} تحتم أمره { المسجد } أي الذي يطاف {[60489]}فيه بالكعبة{[60490]} ولا يكون دخوله إلى بدخول الحرم { الحرام } أي{[60491]} الذي أجاره الله من امتهان الجبابرة ومنعه من كل ظالم .

ولما كان لا يجب عليه سبحانه وتعالى شيء وإن وعد به ، أشار إلى ذلك بقوله تأديباً لهم أن يقول أحد منهم بعد ذلك : ألم يقل أننا ندخل البيت ونحو ذلك ، ولغيرهم{[60492]} أن يقول : نحن ندخل : { إن شاء الله } أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال ، حال كونكم { آمنين } لا تخشون إلا-{[60493]} الله منقسمين بحسب التحليق والتقصير إلى قسمين { محلقين رءوسكم } ولعله أشار بصيغة التفعيل إلى أن فاعل الحلق{[60494]} كثير ، وكذا { ومقصرين } غير أن التقديم يفهم أن الأول أكثر .

ولما كان الدخول حال الأمن لا يستلزم الأمن بعده قال تعالى : { لا تخافون } أي لا يتجدد لكم خوف بعد ذلك إلى أن تدخلوا عليهم عام الفتح قاهرين {[60495]}لهم بالنصر{[60496]} . ولما كان من المعلوم أن سبب هذا الإخبار إحاطة العلم ، فكان التقدير ، هذا أمر حق يوثق غاية الوثوق لأنه إخبار عالم الغيب والشهادة ، صدق سبحانه فيه ، وما ردكم عنه هذه الكرة على هذا الوجه إلا لأمور دبرها وشؤون أحكمها وقدرها ، قال عاطفاً على { صدق{[60497]} } مسبباً عنه أو معللاً : { فعلم } أي بسبب ، أو لأنه علم من أسباب الفتح وموانعه وبنائه{[60498]} على الحكمة { ما لم تعلموا } أي أيها{[60499]} الأولياء { فجعل } أي{[60500]} بسب إحاطة علمه { من دون } أي أدنى رتبة من-{[60501]} { ذلك } أي الدخول العظيم في هذا العام { فتحاً قريباً * } يقويكم به من فتح خيبر ووضع الحرب بين العرب بهذا الصلح ، واختلاط بعض الناس بسبب{[60502]} ذلك ببعض ، الموجب لإسلام{[60503]} بشر كثير تتقوون بهم ، فتكون تلك الكثرة والقوة سبب هيبة الكفار المانعة لهم من القتال ، فتقل القتلى رفقاً بأهل حرم الله تعالى إكراماً لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عن إغارة قومه وإصابة من عنده{[60504]} من المسلمين المستضعفين من غير علم .


[60478]:من ظ ومد، وفي الأصل: تقرر علمه سبحانه وتعالى.
[60479]:من ظ ومد، وفي الأصل: تقرر علمه سبحانه وتعالى.
[60480]:من ظ ومد، وفي الأصل: قبل.
[60481]:من مد، وفي الأصل و ظ: علم له.
[60482]:من مد، وفي الأصل و ظ: غيبا.
[60483]:من ظ ومد، وفي الأصل: تقصير.
[60484]:من مد، وفي الأصل و ظ: منه شيء.
[60485]:من مد، وفي الأصل و ظ: منه شيء.
[60486]:زيد في الأصل: انتهى، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها.
[60487]:زيد في الأصل: في الحقيقة، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها.
[60488]:زيد من مد.
[60489]:من مد، وفي الأصل و ظ: به بالكعبة.
[60490]:من مد، وفي الأصل و ظ: به بالكعبة.
[60491]:سقط من ظ.
[60492]:من مد، وفي الأصل و ظ: لغيره.
[60493]:زيد من ظ ومد.
[60494]:في الأصل و ظ بياض ملأناه من مد.
[60495]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[60496]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[60497]:زيد في الأصل: الوعد، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها.
[60498]:من مد، وفي الأصل و ظ: بيانه.
[60499]:سقط من ظ ومد.
[60500]:سقط من ظ ومد.
[60501]:زيد من مد.
[60502]:زيد في الأصل: عن، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها.
[60503]:من ظ ومد، وفي الأصل: بإسلام.
[60504]:زيد في الأصل: عن، ولم تكن الزيادة في ظ ومد، وفي الأصل: عندهم.