تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

49

المفردات :

وحيا : إلقاء في القلب .

أو من وراء حجاب : أو يكلمه من وراء حجاب .

أو يرسل رسولا : أو يبعث الله الملك للأنبياء ليبلغهم ما أمر الله به .

التفسير :

51- { وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم } .

سبب النزول :

ذكر غير واحد من المفسرين أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا ، كما كلمه موسى ؟ فنزلت هذه الآية ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( لم ينظر موسى إلى الله تعالى ) .

الوحي نعمة من نعم الله على عباده ، وطريق إلى الهداية ، وفضل إلهي ترسله السماء إلى الأرض بواسطة مَلَك يختاره الله ليوحي إلى رسول مصطفى ومختار من عباد الله ، فما أجلّها من نعمة ، أن يتفضل الإله العلي الحكيم بإنزال هدايات السماء ؛ ليهدي العباد إلى الصراط المستقيم .

الوحي

ذكر الوحي في كتب علوم القرآن والتفسير على أنه الوسيلة التي يبلغ الله بها عباده التشريع والهداية ، بواسطة اختيار ملك كجبريل ينزل على رسول كمحمد صلى الله عليه وسلم .

ثلاث طرق

تفيد الآية الكريمة أن ما يبلغه الله إلى عباده يتم عن طريق واحدة من ثلاث طرق :

الأولى : إلقاء المعنى في قلب النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق رؤيا منامية ، كما حدث لإبراهيم عليه السلام ، حين أمره الله بذبح ولده إسماعيل ، وأحيانا يلقي المعنى في قلب الرسول يقظة ، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب )22 .

الثانية : سماع الرسول كلام الله من وراء حجاب ، بأن يسمعه الرسول من الله بدون واسطة ، متيقنا أنه كلام الله من حيث لا يُرى سبحانه وتعالى ، كما كلم موسى عليه السلام ، وسمى الله ذلك وحيا ، فقال : { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } . ( طه : 13 ) ، وقال سبحانه : { وكلّم الله موسى تكليما } . ( النساء : 164 ) . وكان موسى قد طلب الرؤية بعد التكلم فحجب عليها .

قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } . ( الأعراف : 143 ) .

الثالثة : أن يرسل الله تعالى ملكا من الملائكة إما جبريل أو غيره ، فيوحى ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء الله أن يوحى إليه ، كما كان جبريل عليه السلام وغيره من الملائكة ينزلون على الأنبياء عليهم السلام ، والقرآن الكريم جميعه نزل عن طريق الوحي الجليّ في هذه الصورة الثالثة ، بواسطة جبريل عليه السلام يتلقاه عنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم متيقنا أن ذلك من عند الله ، وهو وحي الله إلى رسوله ليبلغه إلى عباده .

قال تعالى : { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } . ( الشعراء : 193-195 ) .

وقال تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . . . } ( المائدة : 67 ) .

وقال تعالى : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى } . ( النجم : 3-7 ) .

وقد أفاد النبي صلى الله عليه وسلم أن الوحي كان يأتيه مثل صلصلة الجرس23 ، حيث يغيب النبي صلى الله عليه وسلم عمن حوله ، ويتفرغ بروحه وكل شئونه لاستقبال ذلك الوحي ، فإذا انتهى الوحي عاد إلى من حوله ، وأحيانا يتمثل الملك رجلا فيكلم الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويعي الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله الملك .

قالت عائشة : ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ، أي : يسيل عرقا .

من تفسير ابن كثير :

هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الرب جل وعلا ، فتارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم وحيا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل .

وقوله تعالى : { أو من وراء حجاب . . . } أي : كما كلم موسى عليه السلام ، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها .

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما : ( ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحا )24 ، كذا جاء في الحديث ، وكان قد قتل يوم أحد ، ولكن هذا في عالم البرزخ ، والآية إنما هي في الدار الدنيا .

وقوله عز وجل : { أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء . . . } كما ينزل جبريل عليه السلام ، وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

{ إنه علي حكيم } . فهو علي عليم ، خبير حكيم .

من فتح القدير للشوكاني :

{ وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلا وحيا . . . }

يوحي إليه فيلهمه ويقذف ذلك في قلبه ، كما أوحى إلى أم موسى ، وإلى إبراهيم في ذبح ولده ، والوحي هو الإخبار بسرعة على وجه الخفية .

{ أو من وراء حجاب . . . } كما كلم موسى عليه السلام ، يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى .

{ أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء . . }

أي : يرسل ملكا فيوحي ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره ما يشاء أن يوحى إليه .

{ إنه علي حكيم } .

أي : متعال عن صفات النقص ، حكيم في كل أحكامه .

ثم إن هذه الأنواع من الوحي كلها قد حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم . اه .

( أ ) أي أن الله قد قذف في قلبه أن الإنسان لن يموت حتى يستوفي أجله ورزقه .

( ب ) وقد كلمه الله من وراء حجاب ليلة الإسراء والمعراج .

( ج ) وقد نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم خلال ثلاثة وعشرين عاما من عمره الشريف ، حيث بدأ نزول الوحي عليه في مكة وعمره أربعون عاما ، واستمر الوحي ينزل عليه ثلاثة عشر عاما في مكة قبل الهجرة ، ثم نزل عليه الوحي عشرة أعوام بالمدينة ، وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وعمره ثلاثة وستون عاما .

وما نزل من القرآن بمكة يسمى مكيا ، وما نزل بالمدينة بعد الهجرة سمي مدنيا ، ونجد في كتب علوم القرآن بحوثا مستفيضة عن الوحي المكي والمدني ، المحكم والمتشابه ، فواتح السور ، كتابة القرآن في الألواح ، وجمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق ، وكتابة القرآن الكريم على لغة قريش في عهد عثمان ، والمصحف العثماني نقطه وتشكيله ، وتجويد كتابته ، ووضع علامات الربع والحزب والجزء ، وعلامات الوقف والوصل والسجدة ، ووضع إطار حول كل صفحة ، واستمرار تحسين خط المصحف عبر العصور الإسلامية ، فالمصحف القرآني أصدق وثيقة وأنقى نص عرفه التاريخ 25 ، لأن الله تعالى تعهد بحفظه فقال : { إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون } . ( الحجر : 9 ) .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا } دلت الآية على أن تكليم الله تعالى للبشر وقع على ثلاثة أنحاء : الأول – بالإبقاء في القلب يقظة أو مناما ، ويسمى وحيا ؛ وهو يشمل الإلهام والرؤيا المنامية . مصدر وحى إليه –كوعى – وأوحى إليه مثله . تقول العرب : وحيث إليه وله ، وأوحيت إليه وله ؛ ولغة القرآن الفاشية " أوحى " بالألف . وأصل الوحي : الإشارة السريعة . يقال : أمر وحى أي سريع ؛ ثم غلب استعماله فيما يلقى للمصطفين الأخيار من الكلمات الإلهية . الثاني – بإسماع الكلام الإلهي من غير أن يرى السامع من يكلمه ؛ كما كان لموسى عليه السلام ، وكما كان للملائكة الذين كلمهم الله في قصة خلق آدم ؛ وهو المراد بقوله تعالى : { أو من وراء حجاب } . الثالث – بإرسال ملك ترى صورته المعينة ، ويسمع كلامه ؛ كجبريل عليه السلام فيوحى للنبي ما أمر الله أن يوحى به إليه ؛ وهو المعنى بقوله تعالى : { أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء } . ومعنى الآية على ما اختاره الزمخشري : وما صح أن يكلم الله أحدا في حال إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب ، أو مرسلا رسولا .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

وحيا : كلاماً خفيا .

من وراء حجاب : يُسمع ولا يُرى .

بعد أن بين تعالى النعم الحسيّة التي يعيش بها الناس ، بيّن هنا النعمَ الروحية التي تحيا بها القلوب ، وتعمرُ الأنفس ، وبيّن أن الناس محجوبون عن ربّهم ، لأنهم في عالم المادة وهو منزَّهٌ عنها ، ولكن من رقَّ حجابُه ، وخَلَصَت نفسُه من شوائب المادة ، فإنه يستطيع أن يتصل بالملأ الأعلى ، وأن يسمع كلام ربّه بأحد الأوجه الآتية :

1- أن يحسّ بمعان تُلقى في قلبه ، أو يرى رؤيا صادقة كرؤيا الخليل إبراهيم بأنه يذبح ولده . . . ورؤيا الأنبياء وحي .

2- أن يسمع كلاماً من وراء حجاب كما سمع موسى عليه السلام من غير أن يبصر من يكلّمه ، فقد سمع كلاما ولم ير المتكلم .

3- أن يرسل الله مَلَكا فيوحي إلى النبيّ ما كلّف به .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

{ 51-53 } { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ }

لما قال المكذبون لرسل الله ، الكافرون بالله : { لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ } من كبرهم وتجبرهم ، رد الله عليهم بهذه الآية الكريمة ، وأن تكليمه تعالى لا يكون إلا لخواص خلقه ، للأنبياء والمرسلين ، وصفوته من العالمين ، وأنه يكون على أحد هذه الأوجه .

إما أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ وَحْيًا بأن يلقي الوحي في قلب الرسول ، من غير إرسال ملك ، ولا مخاطبة منه شفاها .

{ أَوْ } يكلمه منه شفاها ، لكن { مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } كما حصل لموسى بن عمران ، كليم الرحمن .

{ أَوْ } يكلمه الله بواسطة الرسول الملكي ، ف { يُرْسِلَ رَسُولًا } كجبريل أو غيره من الملائكة .

{ فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ } أي : بإذن ربه ، لا بمجرد هواه ، { إِنَّهُ } تعالى علي الذات ، علي الأوصاف ، عظيمها ، علي الأفعال ، قد قهر كل شيء ، ودانت له المخلوقات . حكيم في وضعه كل شيء في موضعه ، من المخلوقات والشرائع .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

قوله عز وجل :{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه ، إن كنت نبياً ، كما كلمه موسى ونظر إليه ، فقال : لم ينظر موسى إلى الله عز وجل ، فأنزل الله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } يوحي إليه في المنام أو بالإلهام ، { أو من وراء حجاب } يسمعه كلامه ولا يراه ، كما كلمه موسى عليه الصلاة والسلام ، { أو يرسل رسولاً } إما جبريل أو غيره من الملائكة ، { فيوحي بإذنه ما يشاء } بنصب اللام والياء عطفاً على محل الوحي لأن معناه : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي إليه أو يرسل رسولاً . { إنه علي حكيم }

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا } بأن يوحي إليه في منامه { أو من وراء حجاب } كما كلم موسى عليه السلام { أو يرسل رسولا } ملكا { فيوحي بإذنه ما يشاء } فيكلمه عنه بما يشاء

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

فيه مسألتان :

الأولى- قوله تعالى : " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا " سبب ذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه ، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن موسى لن ينظر إليه ) فنزل قوله : " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا " ، ذكره النقاش والواحدي والثعلبي . " وحيا " قال مجاهد : نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاما ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن روح القدس نفث في روعي{[13557]} إن نفسا لن تموت حتى تستكمل ، رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب . خذوا ما حل ودعوا ما حرم ) . " أو من وراء حجاب " كما كلم موسى . " أو يرسل رسولا " كإرساله جبريل عليه السلام . وقيل : " إلا وحيا " رؤيا يراها في منامه ؛ قال محمد بن زهير . " أو من وراء حجاب " كما كلم موسى . " أو يرسل رسولا " قال زهير : هو جبريل عليه السلام . " فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم " وهذا الوحي من الرسل خطاب منهم للأنبياء يسمعونه نطقا ويرونه عيانا . وهكذا كانت حال جبريل عليه السلام إذا نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : نزل جبريل عليه السلام على كل نبي فلم يره منهم إلا محمد وعيسى وموسى وزكريا عليهم السلام . فأما غيرهم فكان وحيا إلهاما في المنام . وقل : " إلا وحيا " بإرسال جبريل " أومن وراء حجاب " كما كلم موسى . " أو يرسل رسولا " إلى الناس كافة . وقرأ الزهري وشيبة ونافع " أو يرسل رسولا فيوحي " برفع الفعلين . الباقون بنصبهما . فالرفع على الاستئناف ؛ أي وهو يرسل . وقيل : " يرسل " بالرفع في موضع الحال ، والتقدير إلا موحيا أومرسلا . ومن نصب عطفوه على محل الوحي ؛ لأن معناه وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي أو يرسل . ويجوز أن يكون النصب على تقدير حذف الجار من أن المضمرة . ويكون في موضع الحال ، التقدير أو بأن يرسل رسولا . ولا يجوز أن يعطف " أو يرسل " بالنصب على " أن الكلمة " لفساد المعنى ؛ لأنه يصير : ما كان لبشر أن يرسله أو أن يرسل إليه رسولا ، وهو قد أرسل الرسل من البشر وأرسل إليهم .

الثانية- احتج بهذه الآية من رأى فيمن حلف ألا يكلم رجلا ، فأرسل إليه رسولا أنه حانث ؛ لأن المرسل قد سمي فيها مكلما للمرسل إليه ، إلا أن ينوي الحالف المواجهة بالخطاب . قال ابن المنذر : واختلفوا في الرجل يحلف ألا يكلم فلانا فكتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا ، فقال الثوري : الرسول ليس بكلام . وقال الشافعي : لا يبين أن يحنث . وقال النخعي : والحكم في الكتاب يحنث . وقل له مالك : يحنث في الكتاب والرسول . وقال مرة : الرسول أسهل من الكتاب . وقال أبو عبيد : الكلام سوى الخط والإشارة . وقال أبو ثور : لا يحنث في الكتاب . قال ابن المنذر : لا يحنث في الكتاب والرسول .

قلت : وهو قول مالك . قال أبو عمر : ومن حلف ألا يكلم رجلا فسلم عليه عامدا أو ساهيا ، أو سلم على جماعة هو فيهم فقد حنث في ذلك كله عند مالك . وإن أرسل إليه رسولا أو سلم عليه في الصلاة لم يحنث .

قلت : يحنث في الرسول إلا أن ينوي المشافهة ؛ للآية ، وهو قول مالك وابن الماجشون . وقد مضى في أول " سورة مريم " {[13558]} هذا المعنى عن علمائنا مستوفى ، والحمد لله .


[13557]:الروع (بالضم): القلب والعقل. الروع (بالفتح): الفزع.
[13558]:راجع ج 11 ص 86.
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{۞وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ} (51)

{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا } الآية : بين الله تعالى فيها كلامه لعباده وجعله على ثلاثة أوجه :

أحدها : الوحي المذكور أولا وهو الذي يكون بالهام أو منام .

والآخر : أن يسمعه كلامه من وراء حجاب .

الثالث : الوحي بواسطة الملك وهو قوله : { أو يرسل رسولا } يعني : ملكا فيوحي بإذنه ما يشاء إلى النبي وهذا خاص بالأنبياء .

والثاني : خاص بموسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم إذ كلمه الله ليلة الإسراء .

وأما الأول : فيكون للأنبياء والأولياء كثيرا وقد يكون لسائر الخلق ومنه : { وأوحى ربك إلى النحل } [ النحل : 68 ] ومنه منامات الناس .

{ أو يرسل رسولا } قرئ يرسل ، ويوحي بالرفع على تقدير أو هو يرسل وبالنصب عطفا على وحيا لأن تقديره : أن يوحي عطف على أن المقدرة .