حرث : الحرث : كسب المال ، والحرث : البذر يوضع في الأرض لينبت ، ويطلق على الزرع الحاصل منه ، وعلى ثمرة الأعمال .
20- { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } .
الهدف متعدد في أعمال البشر ، فمنهم من يريد بعمله وجه الله ورجاء الثواب في الدار الآخرة ، وهذا يضاعف الله له ثواب عمله ويكثر نماءه ، ويجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله .
وفي هذا المعنى يقول البني صلى الله عليه وسلم : ( إن الصدقة توضع في يد الله تعالى قبل أن توضع في يد السائل ، فينميها كما ينمي أحدكم فصيله )7 .
أي : إن الله يبارك في ثواب الصدقة ويزيد ثوابها وهذا أشبه بمستثمر يستثمر ماله في رعاية الغنم والبقر والإبل ، وحين يفطم الرضيع يسمى فصيلا لأنه فصل عن أمه ، وصار معتمدا على رعاية صاحب المال .
فالله يبارك في ثواب الصدقة ويزيدها أضعافا مضاعفة ، كما يزيد ابن الماشية الذي يطعمه صاحب المال ويسقيه ، فيتحول في المستقبل من فصيل صغير إلى حيوان قوي مكتمل القوة يسر الناظرين .
{ ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } .
ومن كان يعمل للدنيا وحدها وليس له هم في الآخرة : أعطاه الله من الدنيا الرزق الذي كتبه له في الأجل ، وليس له حظ من ثواب الآخرة ، ولك أن تتصور فضل الله ولطفه في عطائه ورزقه ، فالهمة العليا تكون في طلب ثواب الآخرة وجزائها الدائم الموصول ، أما الدنيا فعرض حائل يأكل منها البار والفاجر ولا يصل إلى صاحبها إلا ما قدر له .
قال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ( 18 ) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ( 19 ) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ( 20 ) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ( 21 ) } . ( الإسراء : 18-21 ) .
حرثَ الآخرة : العمل الصالح الباقي .
حرث الدنيا : متاعها من مال وبنين وغيرهما . يقال حرثَ المال : جمعه ، وكسبه ، واحترثه مثلُه .
ثم بين أن من كان يريد بعمله ثوابَ الآخرة - يضاعَف له أجره أضعافا كثيرة ، ومن كان يريد بأعماله متاع الدنيا وجلْب لذّاتها يَعْطِه الله ما يريد ، وليس له في الآخرة نصيب من نعيمها . ومثلُ ذلك في سورة آل عمران { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين } [ آل عمران : 145 ] .
قوله تعالى : " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه " الحرث العمل والكسب . ومنه قول عبد الله بن عمر : واحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا . ومنه سمي الرجل حارثا . والمعنى أي من طلب بما رزقناه حرثا لآخرته ، فأدى حقوق الله وأنفق في إعزاز الدين ، فإنما نعطيه ثواب ذلك للواحد عشرا إلى سبعمائة فأكثر . " ومن كان يريد حرث الدنيا " أي طلب بالمال الذي آتاه الله رياسة الدنيا والتوصل إلى المحظورات ، فإنا لا نحرمه الرزق أصلا ، ولكن لا حظ به في الآخرة من ماله . قال الله تعالى : " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا " {[13493]} [ الإسراء : 18 ] . وقيل : " نزد له في حرثه " نوفقه للعبادة ونسهلها عليه . وقيل : حرث الآخرة الطاعة ، أي من أطاع فله الثواب . قيل : " نزد له في حرثه " أي نعطه الدنيا مع الآخرة . وقيل : الآية في الغزو ، أي من أراد بغزوه الآخرة أوتى الثواب ، ومن أراد بغزوه الغنيمة أوتي منها . قال القشيري : والظاهر أن الآية في الكافر ، يوسع له في الدنيا ، أي لا ينبغي له أن يغتر بذلك لأن الدنيا لا تبقى . وقال قتادة : إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا ، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا . وقال أيضا : يقول الله تعالى : ( من عمل لآخرته زدناه في عمله وأعطيناه من الدنيا ما كتبنا له ومن آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيبا في الآخرة إلا النار ولم يصب من الدنيا إلا رزقا قد قسمناه له لا بد أن كان يؤتاه مع إيثار أو غير إيثار ) . وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : وقوله عز وجل : " من كان يريد حرث الآخرة " من كال من الأبرار يريد بعمله الصالح ثواب الآخرة " نزد له في حرثه " أي في حسناته . " ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب
" ومن كان يريد حرث الدنيا " أي من كان من الفجار يريد بعمله الحسن الدنيا " نؤته منها " ثم نسخ ذلك في الإسراء : " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد " {[13494]} [ الإسراء . 18 ] . والصواب أن هذا ليس بنسخ ؛ لأن هذا خبر ، والأشياء كلها بإرادة الله عز وجل . ألا ترى أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ) . وقد قال قتادة ما تقدم ذكره ، وهو يبين لك أن لا نسخ . وقد ذكرنا في " هود " أن هذا من باب المطلق والمقيد ، وأن النسخ لا يدخل في الأخبار{[13495]} . والله المستعان .
مسألة : هذه الآية تبطل مذهب أبي حنيفة في قوله : إنه من توضأ تبردا أنه يجزيه عن فريضة الوضوء الموظف عليه ، فإن فريضة الوضوء من حرث الآخرة والتبرد من حرث الدنيا ، فلا يدخل أحدهما على الآخر ، ولا تجزي نيته عنه بظاهر هذه الآية . قاله ابن العربي .
ولما بين بهذا أن الرزق ليس إلا في يده ، أتبعه ما يزهد في طلب رزق البدن ، ويرغب في رزق الروح فقال على سبيل الاستئناف جواباً لمن يسأل : هل يكون الرزق بشدة السعي أو لا ، وبدأ برزق الروح لشرفه : { من كان } أي من شريف أو دنيء { يريد } ولما كان مدار مقصد السورة على الدين ، وكان الدين معاملة بين العبد وربه يقصد به ما يقصد بالحرث من حصول الفائدة ، وكان الحرث من أجل أسباب المكاسب ، وكانت الجنة قيعاناً غراسها ذكر الله ، عبر عن مطلق الكسب بالحرث فقال : { حرث الآخرة } أي أعمالها التي تستنمي بها الفوائد . ولما كانت أسباب الحروث وثمراتها لا يقدر على تعطيلها وإنجاحها إلا الله ، وكان الآدمي يظن لنفسه في ذلك قدرة ، نبه سبحانه بالالتفات إلى أسلوب العظمة أن أمره سبحانه في ذلك لا يستطاع دفاعه ولا ممانعته ونزاعه : { نزد له } أي بعظمتنا التي لا يقدر أحد على تحويلها { في حرثه } بأن يعينه على الأعمال الصالحة بإنارة القلب وتصفية الحال وتهدئة السر ونفوذ البصر فيما يضر وينفع ويضاعف له ثوابها من العشر لكل حسنة إلى ما لا نهاية له ويغطيه ، من الدنيا التي أعرض عنها ما قدر له إعانة له على ما أقبل عليه من الآخرة ، وطوى ذكر الدنيا في هذا الشق تنبيهاً على أنها أحقر من أن تذكر مع أنه معلوم من آيات أخر { ومن كان } أي من قوي أو ضعيف { يريد حرث الدنيا } أي أرزاقها التي تطلب بالكد والسعي ويستنمي به مكتفياً به مؤثراً له على الآخرة { نؤته منها } ما قسمناه له ، ولو تهاون به ولم يطلبه لأتاه ، ولا ينال كل ما يتمناه ولو جهد كل الجهد ، وأما الآخرة فكل ما نواه طالبها من أعمالها حصل له وإن لم يعمله { وما } أي والحال أن طالب الدنيا ما { له في الآخرة من نصيب * } أصلاً ، روى أبيّ بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والنصرة والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب " رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم - وقال : صحيح الإسناد - والبيهقي ، وذلك لأن الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، وهذا تهاون بها فلم ينوها وهي أشرف من أن تقبل على من أعرض عنها وتبعد عمن أقبل عليها حتى تهلكه في مهاويها ، والآخرة تقبل على من أقبل عليها أضعاف إقباله ، وتنادي من أدبر عنها لينتهي عن غيه وضلاله ، قال الرازي في اللوامع : أهل الإرادة على أصناف : مريد للدنيا ومريد للآخرة ومريد للحق جل وعلا ، وعلامة إرادة الدنيا أن يرضى في زيادة دنياه بنقص دينه والإعراض عن فقراء المسلمين وأن تكون حاجاته في الدعاء مقصورة على الدنيا ، وعلامة إرادة الآخرة بعكس ذلك ، وأما علامة إرادة الله سبحانه وتعالى كما قال { ويريدون وجهه } طرح الكونين والحرية عن الخلق والخلاص من يد النفس - انتهى ، وحاصله أن يستغرق أوقاته في التوفية بحقوق الحق وحقوق الخلق وتزكية النفس لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار ، بل امتثالاً لأمر الملك الأعلى الذي لا إله غيره لأنه أهل لذلك مع اعترافه لأنه لن يقدر الله حق قدره .