تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الكوثر

أهداف سورة الكوثر

( سورة الكوثر مكية ، وآياتها 3 آيات ، نزلت بعد سورة العاديات )

وهي سورة خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان أعداؤه يملكون المال والجاه والسلطان ، ويعيرونه بأن أتباعه من الفقراء ، وكانوا يرون أن أبناءه الذكور يموتون صغارا ، فيعيّرونه بأنه أبتر ، لا عقب له من الذكور ، وكانت هذه الأقاويل تلقى من يستمع إليها ويردّدها ، في بيئة تئد البنات ، وتحتكم إلى السيف والقوة ، وترى الفقر سبّة ومنقصة ، فنزلت هذه السورة تدافع عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وتفيد أن الله أعطاه من الخير الكثير ، لقد أعطاه الله النبوة والهدى ، وأيده بالصحابة الأوفياء ، وجعل سيرته عطرة منتشرة ، وشريعته باقية خالدة ، وآلاف الملايين تردد ذكره ، وتشهد له بالرسالة :

وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشقّ له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد

مع آيات السورة

1- إنّا أعطيناك الكوثر . الكوثر صيغة مبالغة من الكثرة ، ومعناه : الشيء البالغ من الكثرة حد الإفراط ، وهو مطلق غير محدود .

وقد ورد أن سفهاء قريش ، ممن كانوا يتابعون الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته بالكيد والمكر ، وإظهار السخرية والاستهزاء ، من أمثال العاص بن وائل ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي لهب ، وأبي جهل وغيرهم ، كانوا يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه أبتر ، يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده ، وقال أحدهم : دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره ، فنزلت هذه السورة لتشير إلى عطاء الله تعالى للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وهو عطاء كثير لا حد له .

وقد وردت روايات من طرق كثيرة تفيد أن الكوثر نهر في الجنة ، أوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

( وأخرج البخاري ، وابن جرير ، والحاكم ، وابن عساكر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : الكوثر : الخير الذي أعطاه الله تعالى إياه . قال أبو بشر : قلت لسعيد : فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة ، قال : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله عز وجل إياه ، عليه الصلاة والسلام ، ويروى هذا الجواب عن ابن عباس نفسه أيضا )i .

وفي تفسير النيسابوري أنه وردت عدة أقوال في معنى الكوثر :

القول الأول : الخير الكثير ، إن أن أكثر المفسرين خصّوه فحملوه على أنه نهر في الجنة .

القول الثاني : أن الكوثر أولاده من نسل فاطمة ، أي أن الله يعطيه منها نسلا يبقون إلى آخر الزمان .

القول الثالث : الكوثر هم علماء أمته ، فهم رحمة إلى يوم القيامة .

وروي أن الكوثر هو النبوة والرسالة وكونه خاتم المرسلينii .

كما روي أن الكوثر هو تيسير القرآن وتخفيف الشرائع ، وقيل : هو الإسلام ، وقيل : هو التوحيد ، وقيل : هو العلم والحكمة ، وقيل : هو الفضائل الكثيرة التي وهبه الله تعالى إياها .

( فقد أسري به ليلا ، وانشق له القمر ، وكثر الزاد ببركة دعائه ، وأطعم الخلق الكثير من الطعام القليل ، وأعطاه الله القرآن هدى ورحمة للعالمينiii .

6- فصلّ لربك وانحر . أي : فاجعل صلاتك لربك وحده ، وانحر ذبيحتك ذاكرا اسم الله ، مخلصا لله في صلاتك ونحرك .

كما قال تعالى : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . ( الأنعام : 162 ، 163 ) .

( والأكثرون على أن المقصود بالصلاة هنا جنس الصلاة ، لإطلاق اللفظ ، وقال الآخرون : إنها صلاة عيد الأضحى ، لاقترانها بقوله : وانحر . وكانوا يقدمون الأضحية على الصلاة فأمروا بتأخيرها عنها ، والواو تفيد الترتيب استحسانا وأدبا وإن لم تفده قطعا )iv .

3- إن شانئك هو الأبتر . أي : إن مبغضك –كائنا من كان- هو المقطوع ذكره من خيري الدنيا والآخرة .

إنهم لم يبغضوه لشخصه ، فقد كان الصادق الأمين ، ولكنهم أبغضوه لما يحمله لهم من الرسالة والهدي ، فآثروا أهوائهم ، وتخبطوا في ضلالهم ، حتى خذلهم الله وقطع أثرهم ( فقد جرّهم الخذلان إلى غاية الخسران ، ولم يبق لهم إلا سوء الذكر لبعضهم ، والنسيان التام لبقيتهم ، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم ومن اهتدى بهديه فإن ذكرهم لا يزال رفيعا ، وأثرهم لا يزال باقيا في نفوس الصالحينv .

مقاصد السورة

1- أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم الخير الكثير ، فرفع ذكره ، وأعلى شأنه ، ونصر دعوته ، وبارك في أمته .

2- ينبغي إخلاص الصلاة والعبادة والنحر لله سبحانه وتعالى .

3- من أبغض النبي ودعوته انقطع أثره وباء بالخذلان ، بينما بقي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته على مرّ الأزمان .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ إنّا أعطيناك الكوثر 1 فصلّ لربك وانحر 2 إن شانئك هو الأبتر 3 }

المفردات :

الكوثر : الخير الكثير .

التفسير :

1- إنّا أعطيناك الكوثر .

الكوثر : الخير ، وهو مبالغة من الكثرة ، والعرب تسمّي كل شيء كثير كوثرا .

قال الشاعر :

وأنت كثير يا ابن مروان طيّب *** وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

والمعنى :

إنا أعطيناك يا محمد الخير الكثير ، والفضل الوفير ، ومن ذلك : نزول الوحي والقرآن الكريم ، والرسالة الخاتمة ، والإسراء والمعراج ، وأنت أوّل من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع مشفع ، وكتابك مهيمن على الكتب السابقة ، وشريعتك خاتمة الشرائع ، وأعطيت الحنيفية السمحة ، وأعطاك الله الحكمة والعلم ، والحوض المورود ، والمقام المحمود ، وكثرة الأتباع ، والنصر على الأعداء .

وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر الكوثر : ( فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدرّ والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل )vi .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الكوثر مكية ، وآياتها ثلاث ، نزلت بعد سورة العاديات .

في سورة الماعون وصف الله تعالى الذي يكذب بالدين بأمور أربعة : بالبخل ، والإعراض عن الصلاة ، والرياء ، ومنع المعروف عن الناس .

وهنا تتحدث السورة الكريمة عن ما منح الله لرسوله الكريم من الخير والبركة ، فذكرت أنه أعطاه الكوثر ، وهو الخير الكثير ، والحرص على الصلاة ودوامها ، والإخلاص فيها . وأن الذي يبغضه هو الأبتر المنقطع عن كل خير .

الكوثر : الخير الكثير ، ونهرٌ في الجنة .

الخطابُ للرسول الكريم جاءَ تسليةً عمّا يلاقيه من أذى وأنّ العاقبة له . لقد أعطيناك يا محمدُ ، الخيرَ الكثيرَ من النبوّة والدينِ والحقّ والعدْلِ وكلّ ما فيه سعادة الدنيا والآخرة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الكوثر ، وهي مكية .

{ 1 - 3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ }

يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ممتنا عليه : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } أي : الخير الكثير ، والفضل الغزير ، الذي من جملته ما يعطيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، من النهر الذي يقال له : { الكوثر } ، ومن الحوض{[1485]} طوله شهر ، وعرضه شهر ، ماؤه أشد بياضًا من اللبن ، وأحلى من العسل ، آنيته كنجوم{[1486]}  السماء في كثرتها واستنارتها ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا .


[1485]:- كذا في ب، وفي أ: ومن الحوض الذي يقال له: الكوثر.
[1486]:- في ب: عدد نجوم السماء.
 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية ، في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل . ومدنية ، في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة . وهي ثلاث آيات .

فيه مسألتان :

الأولى : قوله تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر } قراءة العامة . { إنا أعطيناك } بالعين . وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف : " أنطيناك " بالنون ، وروته أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي لغة في العطاء ، أنطيته : أعطيته . و " الكوثر " : فوعل من الكثرة ، مثل النوفل من النفل ، والجوهر من الجهر . والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا . قال سفيان : قيل لعجوز رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك ؟ قالت بكوثر ، أي بمال كثير . والكوثر من الرجال : السيد الكثير الخير . قال الكميت :

وأنت كثير يا ابنَ مروانَ طَيِّبٌ *** وكان أبوك ابنُ العقائل كَوْثَرَا{[16486]}

والكوثر : العدد الكثير من الأصحاب والأشياع . والكوثر من الغبار : الكثير . وقد تكوثر إذا كثر ، قال الشاعر :

وقد ثار الموتُ حتى تكَوْثَرَا

الثانية : واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم على ستة عشر قولا : الأول : أنه نهر في الجنة ، رواه البخاري عن أنس والترمذي أيضا ، وقد ذكرناه في كتاب التذكرة . وروى الترمذي أيضا عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكوثر : نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل ، وأبيض من الثلج " . هذا حديث حسن صحيح . الثاني : أنه حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف ، قاله عطاء . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : بينما{[16487]} نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أغفى إغفاءة ، ثم رفع رأسه متبسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : نزلت علي آنفا سورة - فقرأ - بسم الله الرحمن الرحيم : { إنا أعطيناك الكوثر . فصل لربك وأنحر . إن شانئك هو الأبتر } - ثم قال - " أتدرون ما الكوثر " ؟ قلنا : الله ورسول أعلم . قال : " فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل ، عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم ، فيختلج{[16488]} العبد منهم فأقول : إنه من أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدث بعدك " .

والأخبار في حوضه في الموقف كثيرة ، ذكرناها في كتاب " التذكرة " . وأن على أركانه الأربعة خلفاءه الأربعة ، رضوان الله عليهم . وأن من أبغض واحدا منهم لم يسقه الآخر ، وذكرنا هناك من يُطرد عنه . فمن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك . ثم يجوز أن يسمى ذلك النهر أو الحوض كوثرا ، لكثرة الواردة والشاربة من أمة محمد عليه السلام هناك . ويسمى به لما فيه من الخير الكثير والماء الكثير .

الثالث : أن الكوثر النبوة والكتاب . قاله عكرمة .

الرابع : القرآن . قاله الحسن .

الخامس : الإسلام . حكاه المغيرة .

السادس : تيسير{[16489]} القرآن وتخفيف الشرائع . قاله الحسين بن الفضل .

السابع : هو كثرة الأصحاب والأمة والأشياع . قاله أبو بكر بن عياش ويمان بن رئاب .

الثامن : أنه الإيثار . قاله ابن كيسان .

التاسع : أنه رفعة الذكر . حكاه الماوردي .

العاشر : أنه نور في قلبك دلك علي ، وقطعك عما سواي .

وعنه : هو الشفاعة ، وهو الحادي عشر .

وقيل : معجزات الرب هدي بها أهل الإجابة لدعوتك ، حكاه الثعلبي ، وهو الثاني عشر .

الثالث عشر : قال هلال بن يساف : هو لا إله إلا الله محمد رسول الله .

وقيل : الفقه في الدين . وقيل : الصلوات الخمس ، وهما الرابع عشر والخامس عشر .

وقال ابن إسحاق : هو العظيم من الأمر ، وذكر بيت لبيد :

وصاحب مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بفَقْدِهِ *** وعند الرَّدَاعِ بيت آخرَ كوثَرُ

أي عظيم{[16490]} .

قلت : أصح هذه الأقوال الأول والثاني ؛ لأنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الكوثر . وسمع أنس قوما يتذاكرون الحوض فقال : ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض ، لقد تركت عجائز خلفي ، ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبي صلى الله عليه وسلم . وفي حوضه يقول الشاعر :

يا صاحبَ الحوضِ من يُدَانِيكَا *** وأنتَ حَقًّا حبيبُ بارِيكَا

وجميع ما قيل بعد ذلك في تفسيره قد أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيادة على حوضه ، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا .


[16486]:هذا عجز بيت لحسان بن نشبة. وصدره كما في اللسان: * أبوا أن يبيحوا جارهم لعدوهم *
[16487]:في صحيح مسلم طبع الأستانة وبولاق: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى... " الحديث.
[16488]:أي ينتزع ويقتطع.
[16489]:في بعض نسخ الأصل: "تسهيل".
[16490]:ملحوب: ماء لبني أسد بن خزيمة. وصاحبه: عوف بن الأحوص. والرادع (بالكسر): اسم ماء أيضا. والكوثر أيضا: السيد الكثير الخير.
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الكوثر

مكية ، وآياتها 3 ، نزلت بعد العاديات .

{ إنا أعطيناك الكوثر } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والكوثر بثاء مبالغة من الكثرة ، وفي تفسيره سبعة أقوال :

الأول : حوض النبي صلى الله عليه وسلم .

الثاني : أنه الخير الكثير الذي أعطاه الله في الدنيا والآخرة ، قاله ابن عباس وتبعه سعيد بن جبير ، فإن قيل : إن النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله ، فالمعنى أنه على العموم .

الثالث : أن الكوثر القرآن .

الرابع : أنه كثرة الأصحاب والأتباع .

الخامس : أنه التوحيد .

السادس : أنه الشفاعة .

السابع : أنه نور وضعه الله في قلبه .

ولا شك أن الله أعطاه هذه الأشياء كلها ، ولكن الصحيح أن المراد بالكوثر الحوض لما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتدرون ما الكوثر ؟ هو نهر أعطانيه الله وهو الحوض ، آنيته عدد نجوم السماء " .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ} (1)

لما كانت سورة الدين بإفصاحها ناهية عن مساوئ الأخلاق ، كانت بإفهامها داعية إلى معالي الشيم ، فجاءت الكوثر لذلك ، وكانت الدين قد ختمت بأبخل البخلاء وأدنى الخلائق : المنع تنفيراً من البخل ومما جره من التكذيب ، فابتدئت الكوثر بأجود الجود : العطاء لأشرف الخلائق ترغيباً فيه وندباً إليه ، فكان كأنه قيل : أنت يا خير الخلق غير متلبس بشيء مما نهت عنه تلك المختتمة بمنع الماعون : { إنا } بما لنا من العظمة ، وأكد لأجل تكذيبهم : { أعطيناك } أي خولناك مع التمكين العظيم ، ولم يقل : آتيناك ، لأن الإيتاء أصله الإحضار ، وإن اشتهر في معنى الإعطاء { الكوثر * } الذي هو من جملة الجود على المصدقين بيوم الدين .

ولما كان كثير الرئيس أكثر من كثير غيره ، فكيف بالملك فكيف بملك الملوك ؟ فكيف إذا أخرجه في صيغة مبالغة ؟ فكيف إذا كان في مظهر العظمه ؟ فكيف إذا بنيت الصيغة على الواو الذي له العلو والغلبة ؟ فكيف إذا أتت إثر الفتحة التي لها من ذلك مثل ذلك ؛ بل أعظم ؟ كان المعنى : أفضنا عليك وأبحناك من كل شيء من الأعيان والمعاني ، من العلم والعمل ، وغيرهما ، من معادن الدارين ومعاونهما ، الخير الذي لا غاية له ، فلا يدخل تحت الوصف ، فأغنيناك عن أن تؤثر بذلك ، أو توفر مالك بجلب نفع أو دفع ضر ، ومنه النهر الذي في الجنة ، ويسقي المؤمنين من الحوض الممدود منه في المحشر الذي مثاله في الدنيا شريعته صلى الله عليه وسلم التي عراها وأسبابها عدد النجوم الذين هم علماء أمته المقتدى بهم ، فقد اجتمع لك الغبطتان : أشرف العطاء من أكرم المعطين وأعظمهم .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما نهى عباده عما يلتذ به من أراد الدنيا وزينتها من الإكثار والكبر والتعزز بالمال والجاه وطلب الدنيا ، أتبع ذلك بما منح نبيه مما هو خير مما يجمعون ، وهو الكوثر وهو الخير الكثير ، ومنه الحوض الذي ترده أمته في القيامة ، لا يظمأ من شرب منه ، ومنه مقامه المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون عند شفاعته العامة للخلق وإراحتهم من هول الموقف ، ومن هذا الخير ما قدم له في دنياه من تحليل الغنائم ، والنصر بالرعب ، والخلق العظيم ، إلى ما لا يحصى من خيري الدنيا والآخرة مما بعض ذلك خير من الدنيا وما فيها ؛ إذ لا تعدل الدنيا وما فيها واحدة من هذه العطايا

{ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }[ يونس : 58 ] ومن الكوثر والخير الذي أعطاه الله كتابه المبين ، الجامع لعقل الأولين والآخرين ، والشفاء لما في الصدور .

ولما كمل له سبحانه من النعم ما لا يأتي عليه حصر مما لا يناسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها ، قال مبيناً له منبهاً على عظيم ما أعطاه{ لا تمدن عينيك إلى ما متعنا }[ الحجر : 88 ] إلى قوله { ورزق ربك خير وأبقى } فقد اضمحل في جانب نعمة الكوثر الذي أوتي كلُّ ما ذكره الله تعالى في الكتاب من نعيم أهل الدنيا ، وتمكن من تمكن منهم ، وهذا أحد موجبات تأخير هذه السورة ، فلم يقع بعدها ذكر شيء من نعيم الدنيا ، ولا ذكر أحد من المتنعمين بها لانقضاء هذا الغرض وتمامه ، وسورة الدين آخر ما تضمن الإشارة إلى شيء من ذلك كما تقدم من تمهيد إشاراتها ، وتبين بهذا وجه تعقيبها بها - والله تعالى أعلم - انتهى .