تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة التحريم

( سورة للتحريم مدنية ، وآياتها 12 آية ، نزلت بعد سورة الحجرات )

شاء الله أن يكون الرسول بشرا ، فيه قوة الإنسان ، وتجارب الإنسان ، ومحولات الإنسان ، وضعف الإنسان ، لتكون سيرة هذا الرسول الإنسان نموذجا للمحاولة الناجحة ، يراها ويتأثر بها من يريد القدوة الميسرة العملية الواقعية ، التي لا تعيش في هالات ولا في خيالات .

وهذه السورة فيها عتاب للرسول الأمين صلى الله عليه وسلم على تحريمه ما أحل الله له ، ولو كتم النبي من أمر القرآن شيئا لكتم هذا العتاب .

إن هذا القرآن كتاب الحياة بكل ما فيها ، وقد شاء الله أن يواكب الوحي حياة الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ، فيبارك الخطوات الناجحة ، ويُقوّم ما يحتاج إلى تقويم ، وبذلك تكون القدوة في متناول الناس .

قال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } . ( الأحزاب : 21 ) .

لقد عاتب القرآن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبوله الفداء من أسرى بدر ، وفي إذنه للمخلفين بالقعود عن الجهاد ، وفي إعراضه عن الأعمى الذي ألحّ في السؤال ، وفي تحريمه ما أحل الله له .

كما عرض القرآن جوانب القوة والجهاد والتربية والسلوك للنبي الأمين ، وجعل حياته الخاصة والعامة كتابا مفتوحا لأمته وللبشرية كلها ، تقرأ فيه صورة العقيدة ، وترى فيه تطبيقاتها الواقعية ، ومن ثم لا يجعل فيها سرا مخبوءا ولا سترا مطويا ، بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن ، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العادي ، حتى مواضع الضعف البشري الذي لا حيلة فيه لبشر ، بل إن الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم للناس .

إن حياة الرسول ملك للدعوة ، وهي الصورة المنظورة الممكنة التطبيق من العقيدة ، وقد جاء ليعرضها للناس في شخصه وفي حياته ، كما يعرضها بقوله وفعله ، ولهذا خُلق ، ولهذا جاء ، لتكون السنة هي ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير ، وليكون هو النموذج العملي الملموس في دنيا الناس ، يتعرض للأحزان ، ويموت ابنه ، ويصاب في غزوة أحد ، وتنتشر الشائعات عن زوجته عائشة ، ويعيب المنافقون عليه بعض الأمور ، لتكون الصورة كاملة للإنسان بكل ما فيه ، وليكون الوحي بعد ذلك فيصلا ، ودليلا هاديا فيما ينبغي سلوكه في هذه الحياة .

قصة التحريم

تزوج النبي صلى الله عليه وسلم تسع نساء لحكم إلهية ، ولتكون هذه الزوجات مبلغات لشئون الوحي فيما يخص النساء ، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم صدر حياته مع خديجة وكان عمره خمسا وعشرين سنة وعمرها أربعين ، وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنوات ، ولم يتزوج عليها في حياتها ، وكان وفيا لذكراها ، وقد ماتت خديجة وعمره خمسون عاما .

ثم تزوج عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر ، وأم سلمة ، وقد مات زوجها شهيدا فضم النبي صلى الله عليه وسلم إليه عيالها من أبي سلمة وتزوجها ، وزينب بنت جحش زوج مولاه ومتبناه زيد ، ليكون ذلك تشريعا للناس في إباحة زواج الإنسان من زوجة ابنه المتبنى .

قال تعالى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } . ( الأحزاب : 37 ) .

وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق ، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم أعتق الصحابة أقاربها وأسلم أهلها ، وكانت أيمن امرأة على قومها . ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت مهاجرة إلى الحبشة ، ثم ارتد زوجها وتنصر فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءت من الحبشة إلى المدينة ، ثم تزوج إثر فتح خيبر صفية بنت حيى بن أخطب زعيم بني النضير ، وكانت آخر زوجاته ميمونة بنت الحارث بن حزن ، وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عباس .

وكانت لكل زوجة من أزواجه صلى الله عليه وسلم قصة وسبب في زواجه منها ، ولم يكن معظمهن شواب ، ولا ممن يرغب فيهن الرجال لجمال ، وكل نسائه قد سبق لهن الزواج ما عدا عائشة ، فقد كانت البكر الوحيدة بين نسائه .

وقد أنجب النبي صلى الله عليه وسلم جميع أبنائه من خديجة ، فقد رزق منها ولدين وأربع بنات ، وقد مات الولدان في صدر حياته صلى الله عليه وسلم وبقيت البنات على ما بعد الرسالة ، ثم ماتت ثلاث من بناته وهن : رقية ، وزينب ، وأم كلثوم ، وعاشت فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر بعد وفاة أبيها ، ولم ينجب صلى الله عليه وسلم من زوجة أخرى غير خديجة .

وكان المقوقس ملك مصر قد أهدى إليه جاريتين هما مارية وسيرين ، فتسرى بمارية ، وأهدى سيرين إلى حسان بن ثابت ، ولما كانت مارية جارية لم يكن لها بيت بجوار المسجد ، فكان بيتها في عوالي المدينة ، في المحل الذي يقال له الآن : ( مشربة أم إبراهيم ) ، وقد رُزق النبي منها بمولود ذكر سماه إبراهيم تيمنا بإبراهيم الخليل .

وقد ماتت خديجة والنبي صلى الله عليه وسلم في الخمسين ، ولم يرزق بمولود من نسائه جميعا طوال عشر سنوات ، ثم رزق إبراهيم وقد تخطى الستين ، ففاضت نفسه بالمسرة ، وامتلأ قلبه الإنساني الكبير أُنسا وغبطة ، وارتفعت مارية بهذا الميلاد في عينيه إلى مكانه سمت بها عن مقام مواليه إلى مقام أزواجه ، وزادت عنده حظوة وقربا .

كان طبيعيا أن يدس ذلك في نفوس سائر زوجاته غيرة ، تزايدت أضعافا بأنها أم إبراهيم ، وبأنهن جميعا لا ولد لهن ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتردد كل يوم على إبراهيم ويحمله بين يديه ، ويفرح لابتسامته البريئة ، ويُسر بنموه وجماله .

وكانت المرأة في الجاهلية تُسام الخسف صغيرة ، وتُمسك على الذل كبيرة ، فلما جاء الإسلام حرّم وأد البنات ، وسما بالمرأة إلى منزلة سامية ووصى النبي بالنساء خيرا ، وعامل نساءه معاملة حسنة ، وجعل لنسائه من المكانة ما لم يكن معروفا قط عند العرب .

قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا بنسائه ألين الناس ، وأكرم الناس ، ضحاكا بساما .

تحريم مارية :

حدث أن جاءت مارية القبطية من عوالي المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت حفصة في زيارة لبيت أبيها ، فدخلت مارية في حجرة حفصة ، وأقامت بها وقتا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وعادت حفصة فوجدت مارية في بيتها ، فجعلت تنتظر خروجها وهي أشد ما تكون غيرة ، وجعلت كلما طال بها الانتظار تزداد الغيرة بها شدة ، فلما خرجت مارية ودخلت حفصة قالت : يا نبي الله ، لقد جئتَ إليّ شيئا ما جئتَ إلى أحد من أزواجك بمثله ، في يومي وفي دوري وعلى فراشي . قال صلى الله عليه وسلم : " ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها " ، قالت : بلى ، فحرمها ، وقال : " لا تذكري ذلك لأحد " ، فذكرته لعائشة ، فأظهره الله عز وجل عليه ، فأنزل : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ . . . } فبلغنا نبي الله صلى الله عليه وسلم كفّر عن يمينه وأصاب جاريته1

تحريم العسل :

روى البخاري ، عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، ويمكث عندها ، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير2 ، إني أجد منك ريح مغافير ، قال : " لا ، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا " 3

فهذا هو ما حرمه على نفسه وهو حلال له ، وقد نزل بشأنه : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ . . . }

ويبدو أن التي حدثها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث وأمرها بستره قالته لزميلتها المتآمرة معها ، ثم أطلع الله رسوله على حديثهما .

قال ابن جرير الطبري :

والصواب من القول في ذلك أن يقال : كان الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحله له ، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته ، وجائز أن يكون كان شرابا من الأشربة ، وجائز أن يكون كان غير ذلك ، غير أنه أي ذلك كان فإنه كان تحريم شيء كان له حلالا ، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه4

النبي يهجر نساءه :

كان من جراء هذا الحادث ، وهو تحريم مارية أو تحريم العسل ، وما كشف عنه من تآمر ومكايدات في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن غضب النبي فآلى من نسائه لا يقربهن شهرا ، وهمّ بتطليقهن ، ثم نزلت هذه السورة وقد هدأ غضبه صلى الله عليه وسلم فعاد إلى نسائه .

روى الإمام أحمد في مسنده ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، أن ابن عباس سأل عمر عن المرأتين اللتين قال الله تعالى لهما : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا . . . } ( التحريم : 4 ) . فقال عمر : هما عائشة وحفصة ، ثم قال عمر : كنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، قال عمر ، فبينما أنا في أمر آتمره إذ قالت لي امرأتي : لو صنعت كذا وكذا ، فقلت لها : ومالك أنت ولما هاهنا ، وما تكلفك في أمر أريده ؟ فقالت لي : عجبا لك يا ابن الخطاب ، ما تريد أن تراجع أنت ، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان ، وإن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، قال : فانطلقت فدخلت على حفصة ، فقلت : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان ؟ فقالت حفصة : والله إنا لنراجعه ، فقلت : تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله ، يا بنية لا يغرنك هذه التي قد أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها .

واعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا ، منقطعا عنهن في مشربة منعزلة ، واستأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات حتى أذن له . قال عمر : فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه ، فقلت : أطلّقت يا رسول الله نساءك ؟ فرفع رأسه إليّ وقال : " لا " ، فقلت : الله أكبر ، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرتُ أن تراجعني فقالت : ما تنكر أن أراجعك ؟ فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، قد دخلت على حفصة فقلت : لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك ، فتبسم أخرى ، فقلت : أستأنس يا رسول الله ؟ قال : " نعم " ، فجلست ، فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا هيبة مقامه ، فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك ، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله ، فاستوى جالسا ، وقال : أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " . فقلت : استغفر الله يا رسول الله وكان أقسم ألا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل . 5

اصطفاء الرسول :

يقول الله تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير } . ( الحج : 75 ) .

لقد اصطفى الله محمدا ليبلغ الرسالة الأخيرة للناس ، واختاره إنسانا تتمثل فيه العقيدة الإسلامية بكل خصائصها ، وتتجسم فيه بكل حقيقتها " ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها ، إنسانا قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلها ، ضليع التكوين الجسدي ، قوي البنية ، سليم البناء ، صحيح الحواس ، يقظ الحس ، يتذوق المحسوسات تذوقا كاملا سليما ، وهو في ذات الوقت ضخم العاطفة ، حي الطبع ، سليم الحساسية ، يتذوق الجمال ، متفتح للتلقي والاستجابة ، وهو في الوقت ذاته كبير العقل ، واسع الفكر ، فسيح الأفق ، قوي الإرادة ، يملك نفسه ولا تملكه ، ثم هو بعد ذلك كله النبي الذي تشرق روحه بالنور الكلي ، والذي تطيق روحه الإسراء والمعراج ، والذي ينادي من السماء ، والذي يرى نور ربه ، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كل شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر ، فيسلم عليه الحصى والحجر ، ويحن له الجذع ، ويرتجف به جبل أحد ، ثم تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلها فإذا هي التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها " 6

مع السورة

1- حرّم النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية على نفسه ، أو حرم العسل على نفسه ، مرضاة لزوجاته ، وتنزل وحي السماء يفيد أن ما أحله الله لا ينبغي أن يحرمه الإنسان .

2- أباح الله للإنسان إذا حرّم حلالا أو أقسم على يمين ورأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ثم يكفّر عن يمينه .

3- أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بتحريم مارية ، وأن أبا بكر وعمر يليان أمر هذه الأمة من بعده ، وأمرها أن تكتم ذلك ، ولكنها لم تكتمه ، وأخبرت به عائشة ، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فَلاَمَ حفصة على إفشاء سره ، وأخبرها أنه لم يعلم هذا السر من عائشة ولكن من العليم الخبير .

4- أدّبت السورة عائشة وحفصة ، وبيّنت أن التآمر وإفشاء السر مؤلم للنبي ، ومقلق لهذا القلب الكبير ، وهذا أمر يستحق التوبة والإنابة ، ثم بينت أن إيلام النبي صلى الله عليه وسلم أمر كريه وسيرتد الكيد على صاحبه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم معه قوة غالبة ، يكفي أن معه الله والملائكة وصالح المؤمنين .

5- هدد الله نساء النبي بالطلاق ، وبأن يعوضه الله منهن بنساء هن المثل العليا في القنوت والعبادة والتوبة والجمال ، وقد أثمر هذا التهديد ثمرته ، فعادت نساؤه إلى الطاعة والخضوع ، واستأنف النبي صلى الله عليه وسلم حياته متفرغا لرسالته ، وتبليغ دعوته ومرضاة ربه ، قرير العين في بيته ومع أسرته .

والآيات ترسم صورة من الحياة البيتية لهذا الرجل الذي كان ينهض بإنشاء أمة ، وإقامة دولة ، على غير مثال معروف ، وعلى غير نسق مسبوق ، أمة تنهض بحمل أمانة العقيدة الإلهية في صورتها الأخيرة ، وتنشئ في الأرض مجتمعا ربانيا في صورة واقعية يتأسى بها الناس .

وفي ظلال هذا الحادث تهيب الآيات ( 6-9 ) بالذين آمنوا ليؤدوا واجبهم في بيوتهم ، من التربية والتوجيه والتذكير ، فيقوا أنفسهم وأهليهم من النار ، وترسم لهم مشهدا من مشاهدها وحال الكفار عندها .

ثم تجدد الدعوة إلى التوبة النصوح ، وتصور لهم الجنة التي تنتظر التائبين ، ثم تدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الكفار والمنافقين وحماية المجتمع الإسلامي من الداخل والخارج .

فالآيات الأولى ( 1-5 ) دعوة لتوبة نساء النبي وحماية بيته ونفسه .

والآيات التالية ( 6-9 ) دعوة لتوبة المؤمنين ومحافظتهم على تربية أولادهم وبناتهم لأن الأسرة هي قوام المجتمع .

ثم تجيء الجولة الثالثة والأخيرة ، وكأنها التكملة المباشرة لتهديد عائشة وحفصة ، فقد تحدثت الآيات ( 10-12 ) عن امرأة نوح وامرأة لوط ، كمثل للكفر في بيت مؤمن ، وهو تهديد مستتر لكل زوجة تخون زوجها وتخون رسالته ودعوته ، فلن ينجيها من العذاب أن أقرب الناس إليها نبي رسول أو داعية كريم .

ولا يضر المرأة المؤمنة أن يكون أقرب الناس إليها طاغية جبارا أو ملكا متسلطا معتديا ، وقد ذُكرت امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر ، وجعلت السورة في ختامها نموذجا رفيعا للمرأة المؤمنة يتمثل في آسية امرأة فرعون التي استعلت على المال والملك والجاه والسلطان ورغبت فيما عند الله .

ويتمثل في مريم ابنة عمران ، المتطهرة المؤمنة ، القانتة المصدقة بكلمات ربها وكتبه .

وبذلك نجد المرأة تسير في ركب الإيمان ، ويتحدث القرآن عنها كنموذج للخير يتمثل في أم موسى ، وفي أم عيسى ، وفي بلقيس التي أسلمت لله رب العالمين ، وفي امرأة فرعون التي زهدت في ملك فرعون ورغبت في ثواب الله رب العالمين .

المعنى الإجمالي للسورة

قال الفيروزبادي :

معظم مقصود سورة التحريم ما يأتي : عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في التحريم والتحليل قبل ورود وحي سماوي ، وتعيير الأزواج الطاهرات على إيذائه وإظهار سره ، والأمر بالتحذير والتجنب من جهنم ، والأمر بالتوبة النصوح ، والوعد بإتمام النور في القيامة ، والأمر بجهاد الكفار بطريق السياسة ، ومع المنافقين بالبرهان والحجة ، وبيان أن القرابة غير نافعة بدون الإيمان والمعرفة ، وأن قرب المفسدين لا يضر مع وجود الصدق والإخلاص ، والخبر عن صدق إيمان امرأة فرعون ، وتصديق مريم بقوله : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } . ( التحريم : 12 ) .

بعض أحوال نساء النبي صلى الله عليه وسلم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 1 ) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 2 ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ( 3 ) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ( 4 ) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ( 5 ) }

1

المفردات :

تحرّم : تمتنع

ما أحل الله : العسل ، أو مارية القبطية .

تبتغي : تطلب .

التفسير :

1- { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .

هناك روايتان في سبب نزول هذه الآية :

الرواية الأولى :

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحفصة بنت عمر : لقد حرّمت مارية على نفسي . استرضاء لها ، لأن حفصة كانت في زيارة أبيها ، وجاءت مارية القبطية من عوالي المدينة ، فدخلت في بيت حفصة ، فلما جاءت حفصة أخبروها بأن مارية في حجرتها ، فتغيّظت من ذلك ، وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أراك إلا أعرست بها على سريري ، وما كنت تفعلها لولا هواني عليك ، فقال صلى الله عليه وسلم لحفصة : " إني حرّمت مارية على نفسي فاكتمي علي " . لكنّ حفصة أخبرت عائشة بذلك ، وكانتا متصادقتين ، فعاتبهما الله تعالى .

الرواية الثانية :

أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على زينب فشرب عسلا ، فاتفقت عائشة وحفصة إذا دخل على واحدة منهما أن تقول له : نشمّ منك رائحة مغافير – وهو طعام حلو كريه الريح – فلما قالتا له ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : " شربت عسلا عند زينب ، ولن أعود إليه " ، وحلف فنزلت : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ . . . }

وذكر العلماء : أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما وقع منه الأمران : تحريم مارية ، وبعد فترة قريبة حرّم العسل على نفسه ، فنزلت الآية عقب الأمرين جميعا .

والإمام الطبري يذكر أن المستفاد من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرّم على نفسه شيئا ما قد أحله الله له ، فحرّمه على نفسه تطييبا لخاطر نسائه ، لكن الله تعالى لامه على ذلك ، وأحلّ له العدول عن اليمين ، والاستمتاع بهذا الحلال .

وقد يكون ما حرّمه على نفسه هو مارية القبطية ، وقد يكون العسل ، وقد يكون غير ذلك . 1 . ه .

فعاتبه الله تعالى على ما بدر منه ، رفقا به ، وتنويها بقدره ، وإجلالا لمنصبه صلى الله عليه وسلم ، أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشقّ عليه ، مع أنه أنف لطف الله به .

ومعنى الآية :

يا أيها النبي الموحى إليك ، الذي فضله الله ، وختم به الرسل ، لِمَ تحرِّم على نفسك ما أحله الله لك ، مثل العسل ، أو مارية القبطية ، تبتغي بذلك مرضاة عائشة وحفصة ، والله غفور رحيم ، يغفر لك ويرحمك برحمته الواسعة .

ونلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حرّم العسل أو مارية ، بمعنى التحريم الشرعي ، وإنما كان قد قرر حرمان نفسه من العسل أو من مارية ، فجاء هذا العتاب بأنّ ما جعله الله حلالا ، لا يجوز حرمان النفس من عمدا وقصدا ، إرضاء لأحد .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة التحريم [ وهي مدنية ]

{ 1-5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }

هذا عتاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، حين حرم على نفسه سريته " مارية " أو شرب العسل ، مراعاة لخاطر بعض زوجاته ، في قصة معروفة ، فأنزل الله [ تعالى ] هذه الآيات { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } أي : يا أيها الذي أنعم الله عليه بالنبوة والوحي والرسالة { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } من الطيبات ، التي أنعم الله بها عليك وعلى أمتك .

{ تَبْتَغِيَ } بذلك التحريم { مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } هذا تصريح بأن الله قد غفر لرسوله ، ورفع عنه اللوم ، ورحمه ، وصار ذلك التحريم الصادر منه ، سببًا لشرع حكم عام لجميع الأمة ، فقال تعالى حاكما حكما عاما في جميع الأيمان :

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التحريم

مدنية وآياتها اثنتا عشرة

{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } وسبب نزولها ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبيد الله بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء ويحب العسل ، وكان إذا صلى العصر دخل على نسائه فيدنو منهن ، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس ، فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شربة ، فقلت : أما والله لنحتالن له ، فذكرت ذلك لسودة ، وقلت : إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له : يا رسول الله أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول : لا ، فقولي له : ما هذه الريح وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح ، فإنه سيقول : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي له : يا رسول الله جرست نحله العرفط ، وسأقول ذلك وقوليه أنت يا صفية ، فلما دخل على سودة ، تقول سودة : والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب ، فرقاً منك ، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله أكلت مغافير ؟ قال : لا ، قلت : فما بال هذه الريح ! قال : سقتني حفصة شربة عسل ، قالت : جرست نحلة العرفط ، فلما دخل علي قلت له مثل ذلك ، ودخل على صفية فقالت له مثل ذلك ، فلما دخل على حفصة قالت له : يا رسول الله ألا أسقيك منه قال : لا حاجة لي به ، قالت : تقول سودة : سبحان الله لقد حرمناه ، قالت : قلت لها اسكتي " .

وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحسن بن محمد الصباح ، حدثنا الحجاج عن ابن جريج قال : زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول " سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً فتواطيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها الرسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير ، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك ، فقال : لا بأس شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له ، فنزلت : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك } إلى قوله :{ إن تتوبا إلى الله } لعائشة وحفصة ، { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً } لقوله : بل شربت عسلاً " . وبهذا الإسناد قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا هشام بن يوسف ، عن ابن جريح ، عن عطاء بإسناده وقال : قال : لا ، ولكن كنت أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش فلن أعود له ، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً ، يبتغي بذلك مرضاة أزواجه . وقال المفسرون : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها ، فلما خرجت أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة ، فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت البابا مغلقاً ، فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً ، وحفصة تبكي فقال : ما يبكيك ؟ فقالت : إنما أذنت لي من أجل هذا ، أدخلت أمتك بيتي ، ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي ، أما رأيت لي حرمة وحقاً ؟ ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أليست هي جاريتي أحلها الله لي ؟ اسكتي فهي حرام علي ألتمس بذاك رضاك ، فلا تخبري بهذا امرأة منهن . فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار التي بينها وبين عائشة فقالت : ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية ، وقد أراحنا الله منها ، وأخبرت عائشة بما رأت ، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها ، فأنزل الله عز وجل :{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } يعني العسل ومارية { تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التحريم{[1]} تسمى سورة النبي صلى الله عليه وسلم .

مقصودها الحث على تقدير التدبير في الأدب مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم مع سائر العباد والندب إلى التخلق بالأدب{[2]} الشرعي وحسن المباشرة لا سيما [ للنساء-{[3]} ] اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في حسن عشرته وكريم صحبته وبيان أن الأدب الشرعي تارة يكون باللين والأناة ، وأخرى بالسوط وماداناه ومرة بالسيف وما والاه ، وكل من اسميها التحريم والنبي{[4]} صلى الله عليه وسلم موضح لذلك ( بسم الله ) الذي له الكمال كله على الدوام ( الرحمان ) الذي عم عاده بعظيم الإنعام ( الرحيم ) الذي أتم على خواصه{[5]} نعمة الإسلام .

لما ختم سبحانه الطلاق بإحاطة علمه{[66296]} وتنزل أمره بين الخافقين في تدبيره ، دل عليه أول هذه بإعلاء أمور الخلق بأمر{[66297]} وقع بين خير خلقه وبين نسائه اللاتي من خير النساء واجتهد{[66298]} كل في إخفاء ما تعلق به منه فأظهره سبحانه عتاباً لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم في صورة عقابه{[66299]} لأنه أبلغ رفقاً به لأنه يكاد{[66300]} من شفقته أن يبخع نفسه الشريفة رحمة لأمته تارة لطلب رضاهم وأخرى رغبة في هداهم ، لأنه صلى الله عليه وسلم بالغ في تهذيب أخلاقه مع ما طهره الله به من نزاهتها عن كل دنس حتى ضيق عليها{[66301]} بالامتناع عن بعض ما أبيح له حفظاً لخاطر الغير ، فقال تعالى منادياً له بأداة البعد وهو أقرب أهل الحضرة مع أنها معدة لما يكون ذا خطب جليل ومعنى جسيم جليل ، وفيها إيماء إلى تنبيه الغير وإسماعه إرادة لتأديبه وتزكيته وتهذيبه : { يا أيها النبي } مخاطبه {[66302]}بالوصف الذي يعلم{[66303]} بالعصمة ويلائمه{[66304]} أشد الملاءمة{[66305]} خلو البال وسرور القلب وانشراح الصدر لأنه للتلقي{[66306]} عن الله تعالى فيحث كل سامع على البعد عن{[66307]} كل ما يشوش عليه صلى الله عليه وسلم أدنى تشويش { لم تحرم } أي تفعل فعل المحرم{[66308]} بمنع نفسك الشريفة { ما أحل الله } أي الملك الذي لا أمر لأحد معه { لك } بالوعد {[66309]}لبعض أمهات{[66310]} المؤمنين رضي الله عنهن بالامتناع من شرب العسل الذي كان عند حفصة أو زينب رضي الله عنهما والامتناع من ملامسة سريتك مارية رضي الله تعالى عنها فتضيق على نفسك لإحسان العشرة مع نسائك رضي الله عنهن أجمعين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب عسلاً عند حفصة بنت عمر أو زينب بنت جحش رضي الله عنهما على اختلاف الروايتين في ذلك في الصحيح{[66311]} ، وفي رواية " أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة دخل على نسائه رضي الله عنهن امرأة امرأة ، وكانت قد أهديت{[66312]} لحفصة بنت عمر{[66313]} رضي الله عنهما عكة من العسل ، فكانت{[66314]} إذا دخل عليها فسلم{[66315]} حبسته{[66316]} وسقته منها ، وأن عائشة رضي الله عنها أنكرت{[66317]} احتباسه عندها فقالت لجويرية عندها حبشية يقال لها خضرة : إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة فادخلي عليها{[66318]} فانظري ماذا يصنع فأخبرتها الخبر فوصت صواحباتها فنفرنه من شربه بإخباره بأنه يوجد منه ريح كريهة لأن نحلة جرست العرفط ، فقال : لن أعود له ، " وروى الطبري{[66319]} و{[66320]}ابن مردوية " أنه صلى الله عليه وسلم خلا بمارية رضي الله عنها أم ولده إبراهيم عليه السلام في بيت حفصة رضي الله عنها فتوجعت من ذلك حفصة رضي الله عنها{[66321]} فقال هي علي{[66322]} حرام ولا تذكري ذلك{[66323]} لأحد وأبشرك على ذلك بشارة ، وهي أن أبا بكر يلي هذا الأمر من بعدي وأباك يليه من بعد أبي بكر رضي الله عنهما ، لا تخبري بذلك أحداً ، فأخبرت عائشة رضي الله عنها "

ويروى أن حفصة رضي الله عنها قالت في يومها من النبي صلى الله عليه وسلم : " إن بي إلى أبي حاجة نفقة لي{[66324]}- عنده فأذن لي أن أزوره وآتي بها ، فأذن لها فلما خرجت أرسل إلى جاريته مارية القبطية رضي الله عنها فوقع عليها فأتت حفصة فوجدت الباب{[66325]} مغلقاً فجلست عنده فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً وحفصة تبكي فقال لها : ما يبكيك ؟ فقالت{[66326]} : إنما أذنت لي{[66327]} من أجل هذا وقعت عليها في يومي وعلى فراشي ، أما رأيت لي{[66328]} حرمة وحقاً ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن ، فقال صلى الله عليه وسلم : أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي اسكتي فهي {[66329]}علي حرام{[66330]} ألتمس بذاك رضاك فلا تخبري بهذا أحداً ، فلما خرج أخبرت عائشة رضي الله عنها فحلفته على ترك مارية رضي الله عنهن " ثم علل ذلك سبحانه بقوله : { تبتغي } أي{[66331]} تريد إرادة عظيمة من مكارم أخلاقك وحسن صحبتك { مرضات أزواجك } أي الأحوال والمواضع والأمور التي يرضين بها ومن أولى بأن{[66332]} تبتغين رضاك وكذا جميع الخلق لتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد .

ولما كان أعلى ما يقع به المنع من الأشياء من جهة العباد الإيمان ، وكان تعالى قد جعل من رحمته لعباده لإيمانهم كفارة قال : { والله } أي{[66333]} تفعل ذلك لرضاهن والحال أن الله الملك الأعلى { غفور رحيم * } أي محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم ،


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[66296]:- من ظ وم، وفي الأصل: علم.
[66297]:- في ظ وم: أمر.
[66298]:- من ظ وم، وفي الأصل: اجتهاد.
[66299]:- من ظ وم، وفي الأصل: عذابه.
[66300]:- من ظ وم، وفي الأصل: لا يكاد.
[66301]:- زيد من ظ وم.
[66302]:- زيد من ظ وم.
[66303]:- وتكرر ما بين الرقمين في الأصل فقط.
[66304]:- من ظ وم، وفي الأصل: بملاءمة.
[66305]:- زيدت الواو في الأصل ولم تكن في ظ وم فحذفناها.
[66306]:- من ظ وم، وفي الأصل: لتلقى.
[66307]:- من ظ وم، وفي الأصل: على.
[66308]:- زيد من ظ وم.
[66309]:- من ظ وم، وفي الأصل: لأمهات.
[66310]:- من ظ وم، وفي الأصل: لأمهات.
[66311]:- راجع أبواب الطلاق.
[66312]:- من ظ وم، وفي الأصل: أهدت.
[66313]:- في الأصل بياض ملأناه من ظ وم.
[66314]:- من ظ وم، وفي الأصل: فكان.
[66315]:-زيد من ظ وم.
[66316]:- من ظ وم، وفي الأصل: احتبسته.
[66317]:- في الأصل بياض ملأناه من ظ وم.
[66318]:- من ظ وم، وفي الأصل: عليه.
[66319]:- راجع التفسير 28/سورة التحريم.
[66320]:-من ظ وم، وفي الأصل: من طريق.
[66321]:-زيد من ظ وم.
[66322]:-زيد من ظ وم.
[66323]:-زيد من ظ وم.
[66324]:-زيد من ظ وم.
[66325]:- في الأصل بياض ملأناه من ظ وم.
[66326]:- من ظ وم، وفي الأصل: فقال.
[66327]:- زيد من م.
[66328]:- زيد من ظ وم.
[66329]:- من ظ وم، وفي الأصل: حرام على.
[66330]:- من ظ وم، وفي الأصل: حرام على.
[66331]:- زيد من ظ وم.
[66332]:- في ظ وم، وفي الأصل: إن.
[66333]:- زيد في الأصل: المحيط بكل شيء علما وقدرة، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.