السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّآ إِنَّهُمۡ لَيَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمۡشُونَ فِي ٱلۡأَسۡوَاقِۗ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضٖ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرٗا} (20)

روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال : لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم : { ما لهذا الرسول } إلى آخرها أنزل الله تعالى : { وما أرسلنا قبلك } أي : يا أشرف الخلق أحداً { من المرسلين إلا } وحالهم { أنهم ليأكلون الطعام } كما تأكل ويأكل غيرك من الآدمين { ويمشون في الأسواق } كما تفعل فهذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله وهم يعلمون ذلك بالسماع من أخبارهم ، وهذا تأكيد من الله تعالى ؛ لأنهم لا يكذبونه صلى الله عليه وسلم وقيل : معنى الآية وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قد قيل لهم مثل هذا أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما قال تعالى في موضع آخر : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } ( فصلت ، 43 ) { وجعلنا } أي بالعطاء والمنع بما لنا من العظمة { بعضكم } أي : أيها الناس { لبعض فتنة } أي : بلية والمعنى : أنه تعالى ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وبمناصبتهم والعدواة لهم وأقاويلهم الخارجة عن حد الإنصاف ، وجعل الغني فتنة للفقير والصحيح فتنة للمريض والشريف فتنة للوضيع ، يقول الثاني من كل مالي لا أكون كالأول ؟ وقال ابن عباس : جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم فتتبعوا الهدى أم لا ، وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاصي بن وائل والنضر بن الحرث ، وذلك أنهم رأوا أبا ذر وابن مسعود وعماراً وبلالاً وصهيباً وعامر بن فهيرة ومن دونهم قد أسلموا قبلهم ، فقالوا : أنسلم ونكون مثل هؤلاء ؟ وقيل : جعلناك فتنة لهم ؛ لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا ، فتكون ممزوجة بالدنيا ، وإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله من غير طمع دنيوي وقوله تعالى : { أتصبرون } أي : على ما تسمعون مما ابتليتم ، به استفهام بمعنى الأمر أي : اصبروا { وكان ربك } أي : المحسن إليك إحساناً لم يحسنه إلى أحد سواك لا سيما بجعلك نبياً عبداً { بصيراً } أي : بكل شيء فهو عالم بالإنسان قبل الامتحان لم يفده ذلك علماً لم يكن عنده ، ولكن يعلم ذلك شهادة كما يعلم علم الغيب ، ولتقوم عليهم بذلك الحجة فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم ، فإن صبرك عليها سعادتك وفوزك في الدارين .

روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : «إذا نظر أحدكم من فضل عليه في المال والجسم فلينظر إلى من هو دونه في المال والجسم » ، وروي : «انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم حذر أن تزدروا نعمة الله عليكم » .