السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (11)

ولما نهى المؤمنين عما يكون سبباً للتباغض والتنافر أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة المحبة والمودّة بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } أي : الذين اتصفوا بهذا الوصف { إذا قيل لكم } أي : من أيّ قائل كان فإنّ الخير يرغب فيه لذاته { تفسحوا } أي : توسعوا أي : كلفوا أنفسكم في اتساع المواضع { في المجلس } أي : الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه ، قال قتادة ومجاهد : «كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض » ، وقال ابن عباس : المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب ، قال الحسن وزيد بن أبي حبيب «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأوّل فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة فنزلت » . فيكون كقوله تعالى : { مقاعد للقتال } [ آل عمران : 121 ] ، وقال مقاتل «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصفة وكان في المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين ، والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس ، فقاموا قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان بعدد القائمين من أهل بدر فشق ذلك على من قام ، وعرف النبيّ صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم فقال المنافقون : والله ما عدل على هؤلاء أنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ » فنزلت الآية يوم الجمعة .

وروي عن ابن عباس قال : «نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم وكان يريد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم للوقر أي : الصمم الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينهم كلام فنزلت » وقد تقدّمت قصته في سورة الحجرات . وقرأ عاصم : يفتح الجيم ، ألف بعدها جمعاً لأنّ لكل جالس مجلساً أي : فليفسح كل واحد في مجلسه والباقون بسكون الجيم ولا ألف إفرادا ، قال البغوي : لأنّ المراد منه مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم .

وقال القرطبي : الصحيح في الآية أنها عامة في مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير وللأجر سواء أكان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة ، وإنّ كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى الله عليه وسلم «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق من موضعه » فيكون المراد بالمجلس الجنس ويؤيده قراءة الجمع { فافسحوا } أي : وسعوا فيه عن سعة صدر { يفسح الله } أي : الذي له الأمر كله { لكم } في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين .

وقال الرازي : هذا يطلق فيما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة قال : ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه .

وإذا قيل : أي من أيّ قائل كان كما مضى إذا كان يريد الإصلاح والخير { انشزوا } أي : ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة والجهاد { فانشزوا } أي : فارتفعوا وانهضوا { يرفع الله } أي : الذي له جميع صفات الكمال ، { الذين آمنوا } وإن كانوا غير علماء { منكم } أي : أيها المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر المبادرون إليها بطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم في مجلسهم وتوسعهم لإخوانهم ، { والذين أوتوا العلم درجات } يجوز أن يكون معطوفاً على الذين آمنوا فهو من عطف الخاص على العام فإنّ الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين ، ويجوز أن يكون والذين أوتوا العلم من عطف الصفات أي : تكون الصفتان لذات واحدة كأنه قيل : يرفع الله المؤمنين العلماء ودرجات مفعول ثان ، وقال ابن عباس : تمّ الكلام عند قوله تعالى :{ منكم } وينتصب الذين أوتوا بفعل مضمر أي : ويخص الذين أوتوا العلم درجات أو ويرفع درجات .

قال المفسرون : في هذه الآية أنّ الله تعالى رفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم ، قال ابن مسعود مدح الله تعالى العلماء في هذه الآية ، والمعنى : أنّ الله تعالى يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا بما أمروا به ، وقال تعالى :{ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }[ الزمر : 9 ] وقال تعالى :{ وقل رب زدني علماً }[ طه : 114 ] وقال تعالى :{ إنما يخشى الله من عباده العلماء }[ فاطر : 28 ] والآيات في ذلك كثيرة معلومة .

وأمّا الأحاديث فكثيرة مشهورة منها من «يرد الله به خيراً يفقهه في الدين » ، وروي أنّ عمر رضى الله عنه «كان يقدّم عبد الله بن عباس على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فكلموه في ذلك فدعاهم ودعاه فسألهم عن تفسير { إذا جاء نصر الله والفتح } فسكتوا فقال ابن عباس : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه ، فقال عمر ما أعلم منها إلا ما تعلم » .

ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال : «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله ما لا فسلط على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها » والمراد بالحسد : الغبطة : وهي أن تتمنى مثله ومنها أنه صلى الله عليه وسلم «قال لعليّ كرّم الله وجهه : لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم » ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال : «من جاءه أجله وهو يطلب العلم لحيي به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة واحدة » ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال : «بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة » .

ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب . وفي رواية كفضلي على أدناكم » .

ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ الله أوحى إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أني عليم أحب كل عليم » .

ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال : «يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء » فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومنها : «أنه صلى الله عليه وسلم مرّ بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله تعالى ويرغبون إليه ، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه ، أما هؤلاء فيدعون لله عز وجل ويرغبون إليه ، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمونه الجاهل فهؤلاء أفضل ، وإنما بعثت معلماً ثم جلس فيهم » والأحاديث في ذلك كثيرة جدّاً .

وأمّا أقوال السلف فلا تحصر ، فمنها ما قاله ابن عباس : أن سليمان عليه السلام خير بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه ، وما قاله بعض الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم وأي شيء فات من أدرك العلم .

وما قاله الأحنف : كاد العلماء يكونون أرباباً ، وكل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل ما يصير .

وما قاله الزبيري : العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال .

وما قاله أبو مسلم الخولاني : مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا برزت للناس اهتدوا بها وإذا خفيت عنهم تحيروا .

وما قاله معاذ : تعلم العلم فإنّ تعلمه لك حسنة ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة .

وما قاله علي : العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق .

وما قاله ابن عمر : مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة .

وما قاله الشافعي من أن : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة وقال : ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم ، وقال : من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم فإنه يحتاج إليه في كل منهما .

وقد ذكرت في أوّل شرح المنهاج من الأحاديث ومن أقوال السلف ما يسرّ الناظر الراغب في الخير وفيما ذكرته هنا كفاية لأولي الأبصار .

{ والله } أي : والحال أنّ المحيط بكل شيء علماً وقدرة { بما تعملون } أي : حال الأمر وغيره { خبير } أي : عالم بظاهره وباطنه فإن كان العلم مزيناً بالعمل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتصفية الباطن كانت الرفعة على حسبه ، وإن كان على غير ذلك فكذلك .