إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ} (7)

{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدلٌ من الأول بدلَ كل ، وهو في حكم تكريرِ العامل من حيث إنه المقصودُ بالنسبة ، وفائدتُه التأكيدُ والتنصيصُ على أن طريق الذين أنعم الله عليهم وهم المسلمون هو العَلَمُ في الاستقامة ، والمشهودُ له بالاستواء بحيث لا يذهب الوهمُ عند ذكر الطريقِ المستقيم إلا إليه .

وإطلاقُ الإنعامِ لقصد الشمول ، فإن نِعمةَ الإسلام عنوانُ النعم كلِّها ، فمن فاز بها فقد حازها بحذافيرها . وقيل : المراد بهم الأنبياءُ عليهم السلام ، ولعل الأظهرَ أنهم المذكورون في قوله عز قائلاً : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين } [ النساء ، الآية 69 ] بشهادة ما قبله من قوله تعالى : { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً } [ النساء ، الآية 68 ] وقيل : هم أصحابُ موسى وعيسى عليهما السلام قبل النسخِ والتحريفِ ، وقرئ صراطَ مَنْ أنعمتَ عليهم ، والإنعامُ إيصالُ النعمة وهي في الأصل الحالةُ التي يستلِذُّها الإنسان ، من النعمة وهي اللينُ ، ثم أطلقت على ما تستلذّه النَّفسُ من طيّبات الدنيا .

ونِعَمُ الله تعالى مع استحالة إحصائِها تنحصرُ أصولُها في دنيويٍ وأُخروي والأول قسمان : وهبيّ وكسبيّ ، والوهبي أيضاً قسمان : روحاني كنفخ الروح فيه ، وإمدادِه بالعقل ، وما يتبعه من القُوى المدرِكة ، فإنها مع كونها من قبيل الهدايات نعمٌ جليلة في أنفسها ، وجُسماني كتخليق البدن والقُوى الحالَّةِ فيه ، والهيئاتِ العارضةِ له من الصّحة وسلامةِ الأعضاء ، والكسبيُّ تخليةُ النفسِ عن الرذائل ، وتحليتُها بالأخلاقِ السَّنية ، والملَكات البهيَّة ، وتزيينُ البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المرضية ، وحصول الجاه والمال .

والثاني مغفرةُ ما فَرط منه ، والرضى عنه ، وتَبْوئتُه في أعلى عليين ، مع المقربين ، والمطلوبُ هو القسم الأخير ، وما هو ذريعةٌ إلى نيلِه من القسم الأول ، اللهم ارزُقنا ذلك بفضلك العظيم ، ورحمتِك الواسعة .

{ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ } صفةٌ للموصول على أنه عبارةٌ عن إحدى الطوائفِ المذكورةِ المشهورةِ بالإنعام عليهم ، وباستقامة المسْلك ، ومن ضرورة هذه الشهرةِ شهرتُهم بالمغايَرَة لما أضيف إليه كلمةُ ( غير ) من المتصفين بضدَّي الوصفين المذكورين ، أعني مطلقَ المغضوب عليهم والضالين ، فاكتسبت بذلك تَعرُّفاً مصححاً لوقوعها صفةً للمعرفة كما في قولك : عليك بالحركة غيرِ السكون ، وُصفوا بذلك تكملةً لما قبله وإيذاناً بأن السلامة مما ابتُلي به أولئك نعمةٌ جليلةٌ في نفسها ، أي الذين جمعوا بين النعمة المُطلقة التي هي نعمةُ الإيمان ونعمةُ السلامة من الغضب والضلال . وقيل : المرادُ بالموصول طائفةٌ من المؤمنين لا بأعيانهم ، فيكون بمعنى النكرة كذي اللام إذا أريد به الجنسُ في ضمن بعضِ الأفراد لا بعينه ، وهو المسمى بالمعهود الذهني ، وبالمغضوب عليهم والضالين اليهودُ والنصارى ، كما ورد في مسند أحمدَ والترمذي فيبقى لفظُ ( غير ) على إبهامه نكرةً مثل موصوفِه ، وأنت خبير بأن جعْلَ الموصول عبارةَ عما ذكر من طائفةٍ غيرِ معيَّنة مُخلٌّ ببدليةِ ما أضيف إليه مما قبله ؛ فإن مدارَها كونُ صراطِ المؤمنين علَماً في الاستقامة مشهوداً له بالاستواء على الوجه الذي تحقَّقْتَه فيما سلف ، ومن البيِّن أن ذلك من حيثُ إضافتُه وانتسابُه إلى كلهم لا إلى بعضٍ مُبْهَمٍ منهم ، وبهذا تبين ألاَّ سبيلَ إلى جعل : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } بدلاً من الموصول ، لما عرفت من أن شأنَ البدلِ أن يُفيدَ متبوعَهُ مزيدَ تأكيدٍ وتقرير ، وفضلَ إيضاحٍ وتفسيرٍ ، ولا ريب في أن قصارى أمرِ ما نحن فيه أن يكتسبَ مما أضيف إليه نوعَ تعرُّفٍ مصحِّحٍ لوقوعه صفةً للموصول ، وأما استحقاقُ أن يكون مقصوداً بالنسبة مفيداً لما ذكر من الفوائد فكلاّ . وقُرئ بالنصب على الحال ، والعاملُ أنعمتَ ، أو على المدح ، أو على الاستثناء إنْ فُسّر النعمةُ بما يعمُّ القليل .

والغضبُ هيجانُ النفس لإرادة الانتقام ، وعند إسنادِه إلى الله سبحانه يُراد به غايتُه بطريق إطلاقِ اسمِ السبب بالنسبة إلينا على مسبّبِهِ القريبِ إنْ أريد به إرادةُ الانتقام ، وعلى مسبّبِهِ البعيدِ إن أريد به نفسُ الانتقام ، ويجوز حملُ الكلام على التمثيل ، بأنْ تُشبَّه الهيئةُ المنتزَعةُ من سَخَطه تعالى للعصاة وإرادةُ الانتقام منهم لمعاصيهم بما يُنتَزَعُ من حال الملِك إذا غضِب على الذين عصَوْه ، وأراد أن ينتقم منهم ويعاقِبَهم ، وعليهم مرتفِعٌ بالمغضوب ، قائم مَقامَ فاعلِه ، والعدولُ عن إسناد الغضب إليه تعالى كالإنعام جرَى على منهاج الآداب التنزيلية في نسبة النعمِ والخيرِ إليه عز وجل ، دون أضدادها ، كما في قوله تعالى : { الذي خلقني فَهُوَ يَهْدِينِ ، والذي هُوَ يطعمني وَيَسْقِينِ ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء ، الآية 78- 80 ] ، وقوله تعالى : { وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } [ الجن ، الآية 10 ] و«لا » مزيدةٌ لتأكيد ما أفاده «غير » من معنى النفي كأنه قيل : لا المغضوبِ عليهم ولا الضالين ، ولذلك جاز أنا زيداً غيرُ ضاربٍ ، جوازَ أنا زيداً لا ضَارِبٌ وإن امتنع أنا زيداً مثلُ ضاربٍ ، والضلالُ هو العدول على الصراط السوي ، وقُرئ وغيرِ الضالين ، وقُرئ ولا الضأْلين ، بالهمزة على لغة مَنْ جدَّ في الهرب عن التقاء الساكنين .

ختام السورة:

{ آمِين } اسم فعلٍ هو : استجبْ ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمِين ، فقال : " افعل " . بُني على الفتح كأينَ لالتقاء الساكنين ، وفيه لغتان مدُّ ألفه وقصرُها قال : [ البسيط ]

[ يا رب لا تسلبني حبها أبدا ] *** ويرحم الله عبداً قال آمينا{[1]}

وقال : [ الطويل ]

[ تباعد مني فطحل إذ سألته ] *** أمين فزاد الله ما بيننا بعداً{[2]}

عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لقّنني جبريلُ آمينَ عند فراغي من قراءة فاتحةِ الكتاب ، وقال : إنه كالختم على الكتاب " .

وليست من القرآن وِفاقاً ، ولكن يسن ختمُ السورة الكريمة بها ، والمشهورُ عن أبي حنيفة رحمه الله أن المصلّيَ يأتي بها مخافتةً ، وعنه أنه لا يأتي بها الإمامُ لأنه الداعي وعن الحسنِ مثلُه ، وروَى الإخفاءَ عبدُ اللَّه بنُ مغفّل ، وأنسُ بنُ مالك ، عن النبي عليه الصلاة والسلام ، وعند الشافعيِّ رحمه الله يُجهر بها ، لما روى وائلُ بنُ حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ ولا الضالين قال : " آمين " ، ورفع بها صوته .

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبيّ بنِ كعب : " ألا أخبرك بسورة لم ينزِلْ في التوراة والإنجيل والقرآن مثلُها ؟ " قلت : بلى ، يا رسول الله قال : " فاتِحةُ الكتاب إنها السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم الذي أوتيتُه " . وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن القومَ ليبعثُ الله عليهم العذابَ حتماً مقضياً ، فيقرأ صبيٌّ من صبيانهم في الكتاب الحمدُ لله رب العالمين ، فيسمعه الله تعالى فيرفعُ عنهم بذلك العذابَ أربعين سنة " .


[1]:ورد في الأصل "حتى يرد".
[2]:ورد في الأصل "على ما عليه".